بقلم : د. خالد الحروب ... 25.02.2009
أفردت الأسبوعية البريطانية "نيوستيتسمان" الرصينة صفحات مطولة في عددها الأخير للحديث عن وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليلبند، مع صورة كبيرة له تحتل صفحة الغلاف. العنوان الرئيسي المرافق للصورة يقول: هل ينقذ هذا الرجل بريطانيا؟ في التغطية الداخلية هناك إفتتاحية للمجلة وتقرير مطول من قبل مراسل الصحيفة جيسون كولي الذي رافق ميليبند في رحلته للهند إثر تفجيرات مدينة بومباي. أتاحت له أيام الزيارة الحديث مطولا مع وزير الخارجية وإستكناه، طريقة تفكيره ومراقبته عن كثب أثناء تعامله مع قضايا حساسة وشائكة (الهند وإتهاماتها للباكستان بأنها كانت وراء التفجيرات، ورفض بريطانيا لإصدار بيان رسمي يدين باكستان كما طلبت الهند). في نفس الوقت قابل كولي كثيرا من كبار موظفي الخارجية البريطانية وسألهم عن رأيهم في أداء ميليبند. يوميا وأسبوعيا هناك مقابلات لا تحصى مع سياسيين ربما في كل الصحف والدوريات وفي غالبها لا تحمل الكثير. لكن قليلها وهذه المقابلة من بينها تستحق التوقف عندها ملياً، ففيها إشارات عديدة يمكن أن تدلل على أننا على عتبة سياسة خارجية بريطانية جديدة، إزاء قضايا كثيرة من ضمنها الشرق الأوسط، ومن المهم بالتالي الإنتباه إليها.
الأمر البنيوي الأولي الذي تشير إليه المجلة هو أن مرحلة "إختطاف" السياسة الخارجية من قبل رئاسة الوزراء خلال عهد توني بلير، وتحييد ماكينة وزارة الخارجية، قد أنتهت وهذا شيء إيجابي كبير. خلال حقبة بلير تعطلت دوائر وآليات صنع القرار التقليدية البريطانية، وأصبحت السياسة البريطانية إنفرادية يقودها بلير وعلى وقع سياسة جورج بوش خطوة بخطوة. وخرج الإمتعاض والتذمر من داخل الوزارة ليصبح أمراً علنياً. مواقف الأقسام المتخصصة في الخارجية، وتحديدا قسم الشرق الأوسط إزاء حرب العراق وفلسطين، كانت على الدوام أفضل بكثير وأعمق وأشد حساسية من مواقف توني بلير المندفعة وشبه المؤدلجة.
والأمر البنيوي الثاني يتعلق بقدوم أوباما وبداية سياسة أمريكية مختلفة إزاء ملفات عالمية كثيرة من ضمنها الشرق أوسطية، تقوم على التعددية والتعاون وتنأى بنفسها عن إنفرادية بوش. ما زال من المبكر بطبيعة الحال الحكم على مدى إفتراق "الأوبامية" عن "البوشية" لكن يمكن القول بقدر كبير من التأكد أن السياستين مختلفان بشكل واضح. ميليبند في أحاديثه لـ "نيوستيتسمان" يؤكد نهجاً بريطانياً جديداً إزاء "العلاقة الخاصة" بين بريطانيا والولايات المتحدة تفترق عن نهج توني بلير. فخلال السنوات الماضية كان بلير يرى أن بريطانيا تلعب دور "الجسر" بين أوروبا والولايات المتحدة، وتعمل على عدم توسع الفجوة في الموقف إزاء القضايا الدولية فتشد الولايات المتحدة وأوروبا إلى بعضهما البعض. كان هذا التوصيف للدور البريطاني يثير حفيظة الأوروبيين الذين لطالما أتهموا بريطانيا بنقص في أوروبيتها. ميليبند يريد ان تكون بريطانيا جسرا معولما تنفتح على جهات مختلفة ولا تكون خيطية محصورة بدور وظيفي بين أمريكا وأوروبا.
فيما يتعلق بفلسطين يقتبس مراسل المجلة عن ميليبند قوله بأنه "إذا لم تحل هذه القضية فإنها تزداد سوءا سنة بعد سنة، ويتعقد حلها أكثر فأكثر. إن نهاية اللعبة واضحة: الأمن لإسرائيل والعلاقات الطبيعية مع العالم العربي. الفلسطينيون لا يستطيعون تقديم هذا الأمن لإسرائيل، بل يتطلب الأمر مشاركة كل العالم العربي. وما يمكن أن تقوم به إسرائيل في المقابل هو إعطاء الأرض للفلسطينيين. يجب أن يعطي الإسرائيليون الأرض بحسب حدود عام 1967 مع بعض الزيادة والنقصان وفق مبدأ تبادل الأراضي ... والإجماع الدولي متحقق إزاء تسوية عادلة لقضية اللاجئين وإعتبار القدس عاصمة للدولتين. ولا يمكنني تخيل عدم قيام دولة فلسطينية ...". وفي تعليقه على سؤال من الصحفي فيما إن كانت بريطانيا ستفتح حوارا مع حماس، قال ميليبند بأن "الجامعة العربية أوكلت مصر للحديث مع حماس، وهذا يبدو لي منطقيا. السوريون والأتراك يتحدثون إلى حماس، ونحن نتحدث مع السوريين ... وبكل الأحوال ليس هناك نقص في الأطراف التي تتحدث مع حماس". وهذا الموقف يعكس لينا نسبياً مقارنة بموقف توني بلير الصارم في مقاطعة حماس عندما كان رئيسا للوزراء.
تعلق المجلة آمالا عريضة على ديفيد ميليبند ليس في تغيير صورة بريطانيا الخارجية وحسب، بل وتدعمه بشكل مثير ليكون القائد المستقبلي لحزب العمال. وتدفع عنه شبهة "البليرية" وتلمع صورته بكونه صاحب خط جديد يختلف تماما عن بلير، وتراهن على شبابه وصغر عمره وبكونه تسلم وزارة الخارجية وهو لم يتعد الـ 41 سنة بعد أن تقلد عدة مناصب رفيعة في وزارات حكومات العمال.
عربيا وشرق أوسطيا تواجه بريطانيا مهمة عسيرة وطويلة تتمثل في التخلص من الإرث "البليري" الذي انحط بصورة وسياسة بريطانيا بسبب إلتصاقها المدهش والطفلي بالسياسة الأمريكية في حقبة بوش. في تلك السنوات تقدمت السياسة الفرنسية والأسبانية والإيطالية، فضلا عن الروسية، لتحتل مواقع جديدة وغير مسبوقة، وجزئيا على الأقل بسبب التماهي البريطاني مع سياسة واشنطن النيومحافظة.
والتخلص من ركام سياسة بلير والشلل الذي أورثه لصورة بريطانيا في الشرق الأوسط يتطلب سياسة فاعلة ومستقلة يكون مركزها قضية فلسطين. إذا لعبت بريطانيا دورا فعالا وإيجابيا وجديدا في هذا الملف وحققت ما لم تحققه الأطراف الأخرى فإنها ستستعيد ما فقدته من نفوذ. بدون ذلك فإن كل الإجراءات التجميلية والإعلانات اللفظية المتوعدة لن تكون لها ترجمة حقيقية على الأرض.
بريطانيا تتحمل المسؤولية الأولى والأهم في الكارثة الفلسطينية، ويجب أن تتحمل المسؤولية الأكبر والأهم في وضع حد لها. وفي عالم القرن الحادي والعشرين حيث صار لعولمة الإتصالات وعولمة الإعلام وعولمة القيم الإنسانية مكان جوهري في قلب التسيس العالمي ما عاد بإمكان أي سياسة مترددة أو جبانة أو منافقة أن تفلت بما كانت تفلت به سابقاً. عندما تواطأت بريطانيا مع المشروع الصهيوني في أواخر الأربعينيات ونتج عنه طرد وتهجير نصف الشعب الفلسطيني آنذاك، لم يكن هناك إعلام فضائي وانترنتي يصور عمق الجريمة وإتساعها لحظة بلحظة. بعدها بسنوات صرح أحد الرؤساء الأمريكيين "من أين جاء هؤلاء الذين يُسمون فلسطينيون". لم يكن يراهم أو يسمع بهم. في حرب غزة الأخيرة والتي لا تُقارن بكارثة النكبة قام العالم كله ولم يقعد. لم يعد هناك مجال لتمرير مزيد من الجرائم والمظالم. هذه البوصلة التي يجب على السياسة البريطانية أو أي سياسة غربية جديدة أن تضعها نصب أعينها.