بقلم : نقولا ناصر* ... 02.03.2009
لقد نجحت الضغوط الأميركية في زجٌ الدول العربية في المعركة التي تخوضها واشنطن ضد ما تصفه ب"الإرهاب العالمي" لتنشغل مؤسساتها الدفاعية التي تحظى بنصيب الأسد من الميزانيات الوطنية ، وتحت شعار "مكافحة الإرهاب" ، في تضخيم إنفاقها العسكري والأمني على حساب التنمية وفي البحث عن أفضل الوسائل للحد من الانسياب الحر لحركة الناس وألسنتهم وأموالهم وللتضييق على الحريات العامة التي شهدت تراجعا ملحوظا في معظم الدول العربية خلال السنوات التي أعقبت إعلان الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب ، وفقا لتقارير المنظمات الوطنية والقومية والعالمية المعنية بحقوق الإنسان ، لكي تفاجئ إدارة باراك أوباما الجميع ، قبل مضيٌ شهر واحد على توليها مقاليد الحكم في واشنطن ، بأن التهديد الأخطر على الأمن القومي الأميركي والعالمي في "الأمد القريب" ليس هو الإرهاب بل هي الأزمة الاقتصادية الرأسمالية التي تلقي بعشرات الملايين من العمال إلى أحضان بطالة تهدد بانفجار عالمي للصراع الطبقي وبثورات اجتماعية تعرض للخطر استقرار النظم الحاكمة ليس في الغرب فقط ، حيث كان انهيار حكومتي آيسلندا وهاواي النذير الأول بينما يتهدد الخطر نفسه حكومتي اليونان وأوكرانيا ، بل أكثر في الدول النامية وحتى في الولايات المتحدة نفسها حيث قد تضطر واشنطن إذا ما طال أمد الأزمة الاقتصادية إلى الاستعانة بقواتها المسلحة للحفاظ على الأمن في الداخل !
ففي جلسة استغرقت قرابة ساعتين أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ بالكونغرس الأميركي في الثالث عشر من شباط / فبراير الماضي للاستماع إلى نسخة "غير سريٌة" من "التقدير السنوي للمخاطر" على الأمن القومي تحدث دنيس بلير ، الذي أدى القسم أمام نائب الرئيس جو بايدن في العشرين من الشهر نفسه كمدير للاستخبارات القومية بعد أن صادق مجلس الشيوخ على ترشيحه في التاسع والعشرين من الشهر السابق ، باسم ستة عشر وكالة مخابرات ، ليطلق تحذيرات نقلتها وسائل الإعلام الأميركي الرئيسية ومنها النيويورك تايمز والواشنطن بوست بأن تفاقم الأزمة الرأسمالية العالمية تمثل التهديد الأخطر على الأمن القومي الأميركي وبأن استمرارها يمكن أن يقود إلى عودة إلى "التطرف العنيف" الذي شهدته الولايات المتحدة الأميركية خلال عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين الماضي وإلى "عدم استقرار يهدد الأنظمة" الحاكمة في العالم كافة ، موضحا بأن "حوالي ربع بلدان العالم قد شهدت فعلا عدم استقرار على مستوى منخفض مثل إجراء تغييرات حكومية بسبب التباطؤ (الاقتصادي الراهن" ، ليخلص إلى أن عدم الاستقرار هذا في بلدان العالم الأخرى هو التهديد الأمني الرئيسي في الأمد القريب للولايات المتحدة ، وليس الإرهاب .
ووصف بلير الأزمة الراهنة بأنها "الأخطر طيلة عقود من الزمن ، إن لم يكن طيلة قرون من الزمن" مضيفا بأن "الوقت ربما يكون الخطر الأكبر علينا إذ كلما طال أمد بدء النقاهة كلما أصبح الاحتمال أكبر لأن يكون الضرر أخطر على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة" ، ليذكٌر بأن الحرب العالمية الثانية قد اندلعت نتيجة لأزمة اقتصادية مماثلة: "طبعا جميعنا يتذكر النتائج السياسية الدرامية الناجمة عن الاضطراب الاقتصادي في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين الماضي في أوروبا وما رافقه من عدم استقرار ومستويات عالية من التطرف العنيف".
وهذا البعد العالمي للأزمة لم يحصره بلير في أوروبا إذ توقع أن يشهد العام المقبل "على الأرجح ... موجة من الأزمات الاقتصادية في دول الأسواق النامية" موضحا أن "معظم أميركا اللاتينية ودول الاتحاد السوفياتي السابقة وإفريقيا جنوب الصحراء تفتقد الاحتياطات النقدية الكافية والوصول إلى المعونات والقروض أو أي آليات أخرى لتسيير أمورها" وسيقود ذلك إلى "مشاكل" ، متوقعا أيضا أن تزيد هذه الأزمات الاقتصادية "خطر عدم الاستقرار الذي يهدد الأنظمة" إذا تواصلت الأزمة "لمدة سنة أو سنتين" أخريين . كما أشار بلير إلى أن مسؤولية الولايات المتحدة عن انفجار هذه الأزمة العالمية قد ألحقت الضرر بمصداقية الرأسمالية الأميركية عالميا موضحا أن "انهيار الوول ستريت قد زاد الشك في قدرة الولايات المتحدة على قيادة الاقتصاد العالمي والهياكل المالية الدولية" ولافتا النظر إلى أن الثورة الصناعية كانت قد نقلت مركز القوة من الشرق إلى الغرب لكن العولمة الراهنة تعيد تغيير ميزان القوى العالمي ثانية الآن .
وكانت مجلة تابعة لكلية الحرب في الجيش الأميركي قد نشرت في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي تقريرا بعنوان "المجهول المعروف: الصدمات الاستراتيجية غير التقليدية في وضع الاستراتيجية الدفاعية" حذر بان من الحالات الطارئة الرئيسية التي يجب على الجيش الأميركي أن يستعد لها "حدوث خلخلة عنيفة استراتيجية داخل الولايات المتحدة" نتيجة ل"انهيار اقتصادي غير متوقع" يقود إلى "اندلاع عنف مدني واسع الانتشار داخل الولايات المتحدة يرغم المؤسسة الدفاعية على إعادة رسم أولوياتها بشكل جذري للدفاع عن النظام المحلي الأساسي ... وفي الحالات القصوى قد يشمل ذلك استخدام القوة المسلحة ضد جماعات معادية داخل الولايات المتحدة" .
وربما يفسر هذا "التقدير" الأمني الذي أجمعت عليه وكالات الاستخبارات الأميركية كافة التي تحدث بلير باسمها جميعا توجهين للرئيس أوباما أولهما محاولة تأليف حكومة تمثل إجماعا بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري اللذين يتداولان الحكم لإدارة النظام الرأسمالي الأميركي ، مثل احتفاظه بوزير دفاع الإدارة الجمهورية السابقة روبرت غيتس وترشيحه الجمهوري جود جريغ لمنصب وزير التجارة (الذي سحب ترشيحه احتجاجا على حزمة التحفيز الاقتصادي التي اقترحها الرئيس الأميركي الجديد بقيمة 787 بليون دولار وصادق الكونغرس عليها الأسبوع الماضي) ، وثانيهما توجهه لإعطاء دور أكبر للعسكريين في إدارته ، إذ بالإضافة إلى بلير هناك جنرالان آخران بأربعة نجوم عيٌنهما في إدارته أحدهما مستشاره للأمن القومي جيمس جونز والآخر إريك شينسيكي سكرتيره لشؤون المتقاعدين العسكريين .
الوطن العربي في عين الأزمة
ومن المفترض أن يغير هذا التحذير الأميركي من أولويات أجهزة الأمن العربية أيضا لكي توصي حكوماتها بالإنفاق أكثر على التنمية الوطنية وخلق الوظائف لامتصاص البطالة المتزايدة التي تمثل الحاضنة المثلى للتطرف الذي يفرٌخ الإرهاب والاحتياطي الذي لا ينضب لتجنيد المتطرفين من المجرمين العاديين الخارجين على القوانين النافذة والأعراف السائدة إلى محتكري الحقيقة التي يحاولون فرض رؤيتهم لها على الناس بالقوة المسلحة .
قدر البنك الدولي الأسبوع الماضي بأن الأزمة ستدفع (53) مليون نسمة حول العالم إلى الفقر ليعيشوا على أقل من دولارين يوميا إضافة إلى عدد قال البنك إنه يتراوح بين (130) وبين (155) مليون نسمة انضموا إلى الفقراء خلال عام 2008 المنصرم بسبب الارتفاع في أسعار المواد الغذائية والوقود ، إضافة إلى ملايين آخرين من الفقراء الذين ستدفع الأزمة بهم إلى ما دون خط الفقر . والتقديرات الأولية للبنك للفترة من العام الحالي حتى عام 2015 أن عددا يتراوح بين (200) ألف وبين (400) ألف طفل في المتوسط سوف يموتون سنويا إذا استمرت الأزمة الراهنة متفاقمة ، أي بين (1.4) – (2.8) مليون طفل خلال ست سنوات . وقال البنك في تقريره المعنون "الأزمة الاقتصادية العالمية: قابلية السقوط من منظور الفقر" إن حوالي (40) في المائة من (107) دول نامية "معرضة للغاية" للفقر نتيجة للأزمة والبقية معرضة بشكل "متوسط" للتأثر بها وحذر بأن ثلاثة أرباع هذه الدول ستكون عاجزة عن جمع الأموال محليا أو دوليا لتمويل خلق وظائف جديدة وبناء بنى تحتية أساسية وتقديم خدمات حيوية وتوفير شبكة أمان اجتماعي للأكثر حرمانا . ويتفق البنك في ذلك مع دنيس بلير حول الأبعاد العالمية للأزمة وتتفق معهما منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة وكذلك صندوق النقد الدولي .
فقد حذرت منظمة العمل الدولية في آخر تقرير سنوي لها بأن أعداد العاطلين عن العمل في العالم نتيجة للأزمة الاقتصادية التي بدأت بالأزمة المالية الأميركية ، حيث فقد أكثر من ثلاثة ملايين وستمائة ألف أميركي وظائفهم بسببها حتى الآن ، ستبلغ خمسين مليونا بنهاية عام 2009 الجاري ، وسوف يتهدد الفقر المدقع (200) مليون عامل معظمهم في الدول النامية ، بينما سيظل ما نسبته (45) في المائة من إجمالي العاملين في العالم ، أي (1.4) بليون عامل ، يعيشون فقراء على دولارين يوميا لكل منهم . كما توقع شارلز كولينز نائب مدير دائرة الأبحاث في صندوق النقد الدولي أن يصل معدل النمو الاقتصادي العالمي أدنى مستوى له منذ "الكساد" أوائل القرن الماضي بنهاية العام الحالي وكان الصندوق قد أشار إلى أن النمو قد "توقف فعلا" وتوقع أن تنكمش الاقتصاديات النامية بمعدل اثنين في المائة خلال عام 2009 الجاري .
والوطن العربي وإقليمه الشرق أوسطي في عين الأزمة ، فطبقا لمنظمة العمل الدولية: "في العام الماضي ، كان ما زال في شمال إفريقيا والشرق الأوسط المعدلين الأعلى للبطالة في العالم ، بنسبة (10.3) و (9.4) في المائة على التوالي ، تليهما منطقة وسط وجنوب أوروبا الشرقية ثم كومنويلث الدول المستقلة وجنوب الصحراء الإفريقية وأميركا اللاتينية" ، وباستثناء أميركا اللاتينية تقع بقية المناطق في الجوار الجيوسياسي المباشر للوطن العربي بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر تهدد الأمن القومي العربي من داخله ومن محيطه ، مما يعطي أهمية لضرورة تنفيذ ما اتفقت عليه قمة جامعة الدول العربية الأخيرة في الكويت على تواضع ما اتفقت عليه في ضوء خطورة مضاعفات الأزمة العالمية . وفي هذا السياق ربما كانت الاستغاثة التي وجهها الرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤخرا للمانحين الأجانب والعرب للوفاء بتعهداتهم من أجل صرف رواتب موظفي السلطة المتأخرة تذكيرا مناسبا بأن شعبا عربيا بكامله ما زال يعيش بطالة مزمنة إما عاطلا عن العمل وعالة على المعونات الإنسانية كما هو حاله في قطاع غزة أو ضحية بطالة مقنعة يعيش على رواتب صرفها غير مضمون وغير منتظم لأنه مرتهن إما لشروط المانحين السياسية أو لكرم الاحتلال في تحويل العائدات من الجمارك والضرائب إلى سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية في الضفة الغربية .
ولا توجد أرقام دقيقة متوفرة عن عدد العرب الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية ولا تقديرات عن أعداد الذين قد يفقدونها ، ومثل هذه المعلومات والتقديرات إن توفرت لدى أجهزة الأمن العربية -- المنشغلة ب"ترشيد" وسائل الإعلام التي تراها قد "انفلتت" في عصر ثورة المعلومات والاتصالات وشبكة الإنترنت – فإنها على الأرجح في ضوء التوجه الأمني السائد سوف تعتبر "من أسرار الدولة" . غير أن منظمة العمل العربية قدرت وجود (17) مليون عربي عاطل عن العمل في سنة 2008 ، إضافة إلى أربعة ملايين نسمة يدخلون سوق العمل سنويا . وقدرت مديرة المكتب الإقليمي للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أمات العليم السوسوة معدل البطالة في الوطن العربي بمتوسط قدره (15) في المائة لكنه ، كما قالت ، يصل إلى "أربعين في المائة لمن تتراوح أعمارهم بين (15) سنة وبين (25) سنة أي ما مجموعه (66) مليون نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ (317) مليون نسمة ثلثهم تحت سن الرابعة عشرة" . وفي أوائل الشهر الماضي قدٌر مدير منظمة العمل العربية التابعة لجامعة الدول العربية أحمد لقمان عدد العرب الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية بحوالي خمسة ملايين عامل وتوقع أن يصل عدد العاطلين عن العمل العرب عام 2010 إلى (21) مليون نسمة .
وربما تجد أجهزة الأمن العربية "ضارة نافعة" في انشغال العرب الراهن بالعصبيات الإقليمية "الوطنية" لدول التجزئة العربية وبالانقسام بين هذه الدول وبمعاركها الجانبية وبالفتن الطائفية والقبلية والعرقية التي تستشري في مجتمعاتها وبالمعارك الثانوية التي تنخرها بين "الإسلاميين" وبين "العلمانيين" وبين "المعتدلين" وبين "المتطرفين" إلى غير ذلك من التطاحن الأهلي الذي تصنع معظم عناوينه ويافطاته في الخارج ، باعتبار كل ذلك وغيره يصرف الأنظار عن أي صراع طبقي بين قطبي الانقسام الاقتصادي الذي يوسع تآكل الطبقة الوسطى من الهوة الشاسعة التي تفصل بين قلته التي تزداد يسرا وكثرته التي تزداد فقرا في المجتمعات العربية ، اللهم إلا إذا استنتجت بأن تحذيرات وكالات الاستخبارات الأميركية مبالغ فيها لأن "أيتام" ماركس ولينين لم يعد لهم أسنان تنظيمية في الوطن العربي بعد انهيار الإتحاد السوفياتي السابق لكي يمثلوا أي تهديد جدٌي للنظم القائمة خصوصا بعد أن تحول الكثيرون منهم من "النضال الطبقي" الجمعي إلى النضال دفاعا عن المرأة والطفل وحريات الإنسان "الفردية" والبيئة وغير ذلك من القضايا الليبرالية للديموقراطيات الغربية .
لكن كل ذلك لا يغيٌر في حقيقة أن المخاطر الأمنية الكامنة في استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية هي "قنبلة موقوتة" في أوساط "الشباب العربي" ينبغي نزع فتيلها قبل أن تنفجر كما وصفتها الملكة الأردنية رانيا العبد الله في الثاني من الشهر الماضي ، كما أن تلاميذ ماركس ولينين ما زالوا كثرا وكثيرون منهم ما زالوا "على العهد" ليكونوا بذرة تغيير وفرت لها الأزمة العالمية الأرض الخصبة الصالحة لنموها كما تشهد على ذلك موجة الإضرابات والتظاهرات والاحتجاجات العمالية التي تجتاح العالم اليوم ومدٌها بالتأكيد سيطال الشوارع العربية إن استمرت الأزمة التي لا يوجد في الأفق ما يشير إلى أن أمدها قصير .