بقلم : د.خالد الحروب ... 29.4.08
على غير ما يعتقد كثيرون (ومن ضمنهم بعض الناطقين الرسميين الحاليين باسم "حماس" نفسها) فإن فكرة موافقة حماس على ما يأتي به استفتاء الفلسطينيين على أي اتفاق سلام نهائي ــ والتي أثارت نقاشاً سياسياً وإعلامياً واسعاً مؤخراً ــ قد طرحتها حماس منذ سنوات طويلة.
ويمكن القول إنه منذ نهايات عقد الثمانينيات من القرن الـماضي فإن جذور الحل الـمرحلي ومراوحته إزاء الحل النهائي ظلت وما زالت بين شدٍّ وجذبٍ في تنظيرات حماس للصراع مع إسرائيل. ومن دون الاضطرار لاتخاذ موقف مؤيد أو معارض لـما سيلي فإنه من الـمفيد تاريخياً وموضوعياً التوقف عند تسلسل وتطوّر فكرة الاستفتاء ورأي الشعب الفلسطيني وجذورها كما تراها حماس؛ لأن في ذلك تعميقاً وإثراءً للنقاش الحالي. وغالباً أن ما يرد في هذا الـمقال أدناه متضمن في كتاب "حماس: الفكر والـممارسة السياسية" لكاتب هذه السطور من إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية العام 1996.
في مقابلة صحافية مشهورة مع ("النهار الـمقدسية" 30 نيسان 1989) أجاب الشيخ أحمد ياسين عن سؤال حول موقف حركته في حال أرادت غالبية الشعب الفلسطيني حلاً أو أيّدت رؤية إستراتيجية مخالفة لرؤية حماس، وكان السؤال حول طبيعة الدولة التي تبتغيها حماس (بعد التحرير)، فأجاب ياسين: "إذا ما أعرب الشعب الفلسطيني عن رفضه الدولة الإسلامية؛ فأنا أحترم وأقدّس رغبته وإرادته".
والـمهم هنا ليس نقطة "الدولة الإسلامية" وهو سؤال افتراضي بل نقطة "قبول" ما يقرره الشعب الفلسطيني والرضوخ له. وقد تكرر هذا التصريح على لسان الشيخ ياسين بطرق مختلفة، كان أحدها في إجابة عن سؤال آخر في الـمقابلة نفسها عن موقفه وموقف حماس فيما لو فاز الحزب الشيوعي بالانتخابات فقال ياسين آنذاك: "حتى لو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب الفلسطيني".
وكان الدكتور محمود الزهار قبل ذلك بسنة، أي في 1988، قد طرح مشروعاً للحل يحتوي على مرحلتين، الحل الـمعجّل والحل الـمؤجّل. في الحل الـمعجّل أورد أربع نقاط كالتالي: "1ــ إعلان إسرائيل نية الانسحاب من الأراضي التي احتلت سنة 1967، بما فيها القدس بالتحديد. 2ــ توضع الأراضي الـمحتلة وديعة في يد الأمم الـمتحدة. 3ــ يُسمي الشعب الفلسطيني ممثليه من الداخل والخارج بالطريقة التي يرتأيها، من دون أن يكون لإسرائيل أي حق في الاعتراض، إلا إذا أعطي الشعب الفلسطيني حق الاعتراض على ممثلي إسرائيل. 4ــ تبدأ الـمباحثات بين الـممثلين بشأن النقاط الـمتعلقة بالحقوق كافة في الوقت الذي يوافق فيه الطرفان عليها (وقد أعاد الزهار تأكيد مشاركة حماس في أية مفاوضات مقبلة في مقاله الحديث في صحيفة (واشنطن بوست) بتاريخ 17 نيسان 2008، ومن أن أية مفاوضات تستثني حماس سوف تفشل)".
أما الحل الـمؤجل برأي الزهار في العام 1988 فيقوم على ما يلي: "إخراج طبيعة الصراع من الدوائر الضيقة إلى الدائرة الأوسع، وهي إسلامية الطرح، وربط قضية فلسطين بالشعوب الـمسلـمة ربطاً عقدياً". في نقاط "الحل الـمعجّل" هناك رؤية لحل الدولتين برزت بشكل مبكر جداً في تنظيرات حماس، أما نقطة "الحل الـمؤجل" فهي شعاراتية وترحيلية أكثر من أي شيء آخر.
في مرحلة لاحقة من تطوّر فكر وممارسة حماس أصدر الـمكتب السياسي في 16 نيسان سنة 1994 وثيقة بعنوان "بيان مهم صادر عن الـمكتب السياسي لحركة حماس"، وقد عُرفت إعلامياً حينها بمبادرة موسى أبو مرزوق رئيس الـمكتب، آنذاك، وتضمنت ما يلي: "1ــ انسحاب قوات الاحتلال الصهيوني من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس من دون قيد أو شرط. 2ــ تفكيك وإزالة الـمستوطنات وترحيل الـمستوطنين من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. 3ــ إجراء انتخابات تشريعية حرة وعامة للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج لاختيار قيادته وممثليه الحقيقيين. وهذه القيادة الـمنتخبة والشرعية وحدها فقط الـمخولة بالتعبير عن إرادة شعبنا وطموحاته، وهي وحدها التي تقرر في كافة الخطوات اللاحقة في صراعنا مع الـمحتلين". ومرة أخرى تشير هذه الوثيقة إلى التسييس الـمبكر لحماس وتمحور أهدافها حول الحل الـمرحلي، وهو تمحور يسبق كثيراً ما يُظن بأنه مواقف جديدة لحماس.
وبعد هذه الـمبادرة بسنة تماماً أي في نيسان 1995 وفي مقابلة خاصة لـ أبو مرزوق مع كاتب هذه السطور منشورة في الكتاب بيّن فيها بشكل جلي النظرة إزاء فكرة الاستفتاء حيث قال "... خيارات الشعب الفلسطيني الإستراتيجية والـمصيرية يجب أن تكون عن طريق الاستفتاء الحر، والانتخابات التشريعية التمثيلية الـمطلقة. وتشمل تلك الخيارات ما هو مطروح من تسويات سياسية، وتشمل أيضاً اختيار قيادة ممثلة، وتلتزم حماس في مثل سيادة هذا الوضع بقبول الخيار الشعبي، سواء في الاختيار السياسي الشعبي للـمشروعات الـمطروحة أو رفضها، أو على صعيد انتخاب قيادة لها حق الشرعية التمثيلية وتقوم بتنفيذ برنامجها الذي انتخبت على أساسه".
توفّر هذه النصوص مدخلاً مهماً لأكثر من مقاربة، ولأكثر من طرف، أيضاً؛ لفهم حماس وإمكانيات التسييس واتجاهاتها. أهم تلك الـمقاربات خاصة بحماس اليوم نفسها. فتلك النصوص سواء الصادرة عن الشيخ أحمد ياسين بروحيتها التعددية وقبولها ما يقرره الشعب الفلسطيني أو تلك التي أصدرها الـمكتب السياسي لاحقاً يجب على قواعد حماس وقيادات الصف الثاني أن تستوعبها وتعيد هضمها. فمن الـمؤكد أن ثمة مياهاً كثيرة جرت خلال السنوات الـماضية وأن أجيالاً حماسية جاءت وتم تصعيدها إلى مناصب قيادية، بما يترك مجالات للتشكك الـمشروع من مدى ديمومة وفاعلية الـمواقف السابقة ومدى ترسخّها. وهذا بدوره يفرض على حماس وعلى أي تنظيم في مثل وضعها مراكمة الفكر السياسي وتطويره وإنضاجه وليس القطع معه.
وهنا فإن إحدى مشكلات حماس الكبرى، كما هي حال معظم التنظيمات الإسلامية الـمسيسة، هي أن وعي القيادات ــ الـمتأثر بالـممارسة السياسية والضغوط والاستجابات للأمر الواقع ــ ينمو بشكل مختلف عن وعي القواعد العريضة التي تظل غارقة في يومياتها الحزبية ونظراتها الضيقة. وهذا الافتراق هو الذي يسبب الحيرة عند كثير من الأطراف التي تتعامل مع حماس، حيث يتبدى أن هناك حماس السياسة وحماس القواعد. وتصير الشواهد والدلائل تُساق من هنا وهناك؛ للتدليل على عنت وعصبوية وحزبية التنظيم ومعظمها مسنودة بأدلة ومشاهدات من القاعدة.
كما ثمة مقاربات عدة توفرها هذه النصوص؛ لفهم حماس ومدى براغماتيتها. ففي نهاية الـمطاف يلتقي مطلب الدكتور الزهار سنة 1988 (في مبادرته الـمذكورة) مع مطلبه بعد عشرين سنة تماماً أي 2008 (في مقالة الواشنطن بوست الـمشار إليها سالفاً) وهو الاعتراف بحماس كطرف في معادلة الصراع وفي معادلة التسوية. وفي الآنين والحالين فإن ما يتم الحديث عنه تلـميحاً وتصريحاً هو حل الدولتين. لكن وكما كانت الـمسألة مع منظمة التحرير الفلسطينية فإن العقدة الأساسية ليست في موافقة أي طرف فلسطيني على هذا الحل بل في موافقة إسرائيل. فإسرائيل التي تُطالب حماس، مثلاً، بأن تعترف بها لـم تقدم لـمنظمة التحرير التي اعترفت بها منذ العام 1988 ما يمكن أن يشير إلى قبولها فعلاً وعلى أرض الواقع بذلك الحل.