أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
صناعة الجوع سياسة استعمارية قديمة !

بقلم : د. فيصل القاسم ... 30.6.08

هل تأتي المجاعات والأزمات الغذائية التي تجتاح العالم، وخاصة البلدان الفقيرة في أفريقيا وآسياعلى حين غرة؟ هل هي وليدة الارتفاع الأخير لأسعار النفط، وانهيار سعر الدولار، والجفاف، واستخدام الحبوب لإنتاج الوقود الحيوي، كما يدعي بعض الاقتصاديين المراوغين، أم إن الإفقار المنظم والسياسات التجويعية التي يتبعها الآن صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية هي امتداد للسياسات الاستعمارية القديمة؟ بعبارة أخرى، فهي استراتيجية ممنهجة ومدروسة جيداً، وليست وليدة الساعة، فقد درج المستعمر الغربي على استخدام سلاح المجاعة والتجويع منذ القرن التاسع عشر لغايات اقتصادية وسياسية مفضوحة، وذلك خوفاً من أن يؤثر تزايد عدد السكان في العالم على الموارد الطبيعية التي تحتاجها الدول الغربية في صناعاتها ورفاهيتها، وثانياً لإحكام قبضته على العالم وشعوبه.
لقد كان الأمريكيون يحذرون من ارتفاع عدد سكان المعمورة منذ زمن بعيد. وقد قال وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت مكنمارا في خطاب له أمام نادي روما عام 1979: "إن الارتفاع الصاروخي لعدد سكان العالم يشكل أكبر عائق أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم، لهذا ينبغي علينا الآن وليس غداً أن نمنع وصول عدد سكان الكون إلى عشرة مليارات نسمة". ويرى الوزير أن هناك طريقتين لتحقيق ذلك، "إما بتخفيص معدل الولادات في أصقاع العالم، أو برفع معدل الوفيات. والطريقة الأخيرة يمكن أن تتحقق بعدة أساليب، ففي هذا العصر النووي يمكن للحروب أن تؤدي الغرض بسرعة فائقة وناجعة للغاية. وهناك طبعاً المجاعة والأمراض، وهما سلاحان مازالا موجودين حتى الآن".
صحيح أن الاستعمار الأمريكي لم يكن موجوداً في العصور الغابرة، لكن ملهمه المستعمر البريطاني سبقه بقرون في مجال التجويع. وكما أن المستعمر الأمريكي الحديث اقتبس سياسة "فرق تسد" البريطانية الشهيرة للسيطرة على العالم كما يفعل في العراق، فهو يستخدم أيضاً سلاح المجاعة على نطاق عالمي. لقد كان البريطانيون سباقين إلى إبادة الملايين عن طريق التجويع والتحكم بالمواد الغذائية من أجل إحكام السيطرة على الشعوب، وخاصة في الهند ذات التكاثر البشري المرتفع. ويقول بي أم باتيا في كتابه "المجاعات في الهند" المؤلف عام 1967 ": إن الهند تعرضت منذ القرن الحادي عشر إلى بداية القرن الثامن عشر لأربع عشرة مجاعة، أي أن البلاد كانت تشهد مجاعتين كل قرنين تقريباً، لكن الأمر تغير تماماً بعد قدوم الاستعمار البريطاني، فمنذ عام 1859 حتى عام 1914 بدأت البلاد تشهد مجاعة كبرى كل سنتين تقريباً بشكل منتظم". وبينما كانت بقية دول العالم تشهد ارتفاعاً في عدد السكان بسبب التقدم التكنولوجي، بقي عدد سكان الهند ثابتاً لمدة قرن تقريباً حتى العام 1914، وذلك لأن سياسة التجويع كانت عماد الاستراتيجية الاستعمارية في الهند، حسب الكاتب بول غلوماز.
لقد كانت الزراعات التقليدية في الهند وغيرها من البلدان تقوم على توفير مواد غذائية احتياطية في كل منطقة كي تضمن وجود غذاء كاف في سنوات الجفاف والقحط. وكان الأمراء الهنود يتوقفون عن جني الضرائب من الناس في الأوقات الاقتصادية الصعبة. وقد استمد الأمراء شرعيتهم من قدرتهم على تجنب المجاعات، وتوفير الغذاء في أوقات الأزمات. لكن البريطانيين غيروا كل تلك الاستراتيجية الزراعية، فقد عمد المستعمر البريطاني إلى اتباع سياسة النهب المنظم عبر فرض ضرائب مرتفعة لم يسبق لها مثيل على الزراعة والمزارعين الهنود من قبل "شركة الهند الشرقية"، الذراع الاستعمارية للتاج البريطاني، مما حول المزارعين إلى أقنان لا حول ولا قوة لهم، ومما أدى إلى حدوث مجاعة قضى بسببها أكثر من عشرة ملايين هندي في مقاطعات بنغال وأوهار وأوريسا، وهي مجرد واحدة من عدة مجاعات مشابهة.
بعبارة أخرى، لم يبق المستعمر البريطاني على أي أمن غذائي في المناطق الهندية وقت الجفاف والفاقة، مما كان يؤدي إلى موت البشر جوعاً بسبب تلك السياسات التجويعية الجهنمية. وقد عمد المستعمر إلى خلق تلك المجاعات في مناطق معينة بشكل دائم كي يدفع بالجوعى للانخراط في صفوف العبيد الذين كان يستغلهم المستعمر في تشييد البنية التحتية للحكم البريطاني في الهند، كبناء السكك الحديدية والطرق. لقد كان البريطانيون يخيرون الهندي بين الموت جوعاً، أو الحصول على ما يسد الرمق مقابل الانخراط في الورش الضخمة لبناء طرق القطارات التي كان يحتاجها المستعمر لنهب الثروات الهندية، وإحكام قبضته على البلاد. وعندما توافرت الطرق، وزاد المحصول الزراعي عمد المستعمر إلى تصدير معظم المنتجات الزراعية من القمح والأرز إلى الخارج في الوقت الذي كان يتضور فيه ملايين الهنود جوعاً. وقد كان يبرر تلك السياسة اللاإنسانية بتشجيع "التجارة الحرة".
هل يختلف النظام العالمي الجديد الذي اختلقه جورج بوش الأب، ومن بعده الابن عما كان يفعله أسلافه البريطانيون في الهند، من تلاعب بأقوات الناس، ودفعهم إلى هاوية المجاعات والإبادة؟ ألا يقوم النظام الاقتصادي العولمي الجديد على التجارة العالمية الحرة في أبشع صورها، خاصة بعد أن تلاشت السيادات الوطنية، وأصبح الجميع تحت رحمة الشركات العابرة للقارات والمضاربين على قوت الشعوب؟ ألم يصبح الانتاج الغذائي العالمي والسلع الرئيسية تحت سيطرة الكارتيلات الأوروبية والأمريكية؟ ألا تحدد البورصات الغربية أسعار ما يأكله الفقراء في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟ أليس بإمكان تلك البورصات والمضاربين فيها أن يرفعوا سعر القمح إلى عنان السماء، مما بدأ يتسبب في حدوث اضطرابات ومجاعات على نطاق عالمي؟ كيف يختلف النظام الاقتصادي العالمي الجديد عن النظام الاستعماري في الهند؟ لقد كان المستعمر البريطاني يخلق المجاعة كي يضع الجوعى تحت رحمته، فيخيرهم بين الموت جوعاً أو الرضوخ لسياساته الجهنمية؟ ألا يفعل النظام العالمي الجديد الشيء نفسه الآن، وذلك بلي أذرع الدول اقتصادياً،لا بل تجويعها برفع الأسعار وحجب المواد الغذائية كي تسير على الصراط الأمريكي المستقيم؟
ألم يطالب وزير الدفاع الأمريكي ماكنمارا في السبعينيات بضرورة تخفيض عدد سكان المعمورة كي لا يؤثر ذلك على الموارد التي تحتاجها أمريكا؟ ألا تهدد الأزمة الغذائية الحالية الآن أكثر من مليار شخص على حافة الجوع في العالم حسب منظمة الزراعة العالمية "الفاو"؟ ألن يقضى هؤلاء جوعاً حسب المخطط الأمريكي الذي بشر به مكنمارا قبل ثلاثة عقود؟ ألم يقض الغزو الأمريكي للعراق على أكثر من مليون عراقي وتشريد ملايين آخرين، وكل ذلك من أجل السيطرة على منابع النفط العراقية، فلا ضير أن يتبخر الشعب العراقي عن وجه الأرض كي يحلو الجو لشركات النفط الأمريكية كهاليبيرتون ووأخواتها؟ أليست عملية إبادة العراقيين بالملايين جزءاً لا يتجزأ من سياسة الإبادة المنظمة التي تحدث عنها وزير الدفاع الأمريكي مكنمارا في نادي روما عام 1979؟