بقلم : نقولا ناصر* ... 17.03.2009
*(إذا كان أوباما يعني حقا ما قاله عن "ترك العراق لشعبه" فإنه ينقلب على ركيزة استراتيجية للسياسة الأميركية في المنطقة طوال الستين عاما المنصرمة ، فهل هناك ما يشير فعلا إلى "انقلاب" كهذا !)
حتى الآن ، في الذكرى السنوية السادسة للغزو الذي زجٌ الولايات المتحدة في ما قال ستيفن روبرتس أستاذ الإعلام بجامعة جورج تاون إنه "واحدة من أطول الحروب في التاريخ الأميركي" ، ما زالت واشنطن لم تحصل بعد على جائزتها الأكبر من غزوها للعراق ، وهي تمرير قانون "عراقي" للنفط ينقلب على نصف قرن من زمن النضال من أجل أن تظل ثروته النفطية الاستراتيجية ملكا لشعبه وفي خدمة تنميته تحت السيادة الوطنية ، وطالما لم تحصل الرأسمالية الأميركية على جائزتها العراقية هذه فإن أي حديث عن انسحاب قوات الاحتلال الأميركي سيكون ضربا من خداع الرأي العام الأميركي والعراقي المعارض للاحتلال واستمراره ، كما اتضح من "التغيير التكتيكي" في أسلوب ملاحقة هذه الجائزة بين إدارة جورج دبليو. بوش السابقة التي قادت الغزو فالاحتلال وبين إدارة باراك أوباما اللاحقة التي تواصل المهمة نفسها الآن.
ولا يعني هذا "التغيير التكتيكي" أن أوباما يسير في العراق في طريق يقود إلى "ترك العراق لشعبه وينهي هذه الحرب بطريقة مسؤولة" كما قال في خطاب له أمام اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس أواخر الشهر الماضي ، فهذا طريق بالتأكيد لا يترك العراق لشعبه ولا ينهي الحرب عليه التي دخلت عامها السابع الآن ، لأن الرئيس الأميركي الجديد إن كان حقا يعني ما قاله فإنه ينقلب على ركيزة استراتيجية كانت إلى جانب الحفاظ على أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين إحدى ركيزتين أساسيتين للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة طوال الستين عاما المنصرمة ، فهل هناك ما يشير فعلا إلى أن أوباما يقود حقا انقلابا على هذه الاستراتيجية!
إن أوباما قد ضمٌن خطته التكتيكية الجديدة للعراق "مرونة جوهرية ، فهو أولا ينوي الاحتفاظ بقوة أميركية قوامها (35) إلى (50) ألف جندي بعد شهر آب / أغسطس عام 2010 ، وهو ثانيا يقول إن القوات الأميركية سوف تستمر في القيام بمهمات مستهدفة لمحاربة الإرهاب حتى بعد أن تنتهي مهمتنا القتالية" ، لذلك فإن خطته المعلنة للانسحاب من العراق "لا تنهي شيئا . إنها بصفة رئيسية تخدم إعادة تنظيم الأولويات العملياتية للبنتاغون" ، بينما تستمر "الحرب الطويلة" التي خطط لها بعد الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 التي تدخل عامها الثامن "دون أي نهاية لها في الأفق" ، كما قال للواشنطن بوست الشهر الماضي أندرو جيه. باسيفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن ومؤلف كتاب "حدود القوة: نهاية الاستثنائية الأميركية".
ويتمثل التغيير التكتيكي بين الإدارتين في تغيير أولوية كل منهما في الحربين اللتين تشنهما الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان من أجل تغيير النظام السياسي في كلا البلدين إلى نظام موال لها لحراسة منطقتين استراتيجيتين تضم كلتاهما أهم الاحتياطيات النفطية في العالم في الخليج العربي وآسيا الوسطى ، فالعراق كان هو أولوية إدارة بوش دون أن توقف حربها العدوانية على أفغانستان لكن إدارة أوباما التي خلفتها أعطت الأولوية لأفغانستان دون أن توقف مشروع احتلالها للعراق.
كما يتمثل التغيير التكتيكي في تغيير مهمة القوات التي ستبقى في العراق بعد إعادة انتشارها خارج المدن العراقية تغييرا اسميا من "قوات محاربة" إلى "قوات دعم وإسناد" بينما تظل هذه القوات أيا كان الاسم الذي يعطيه البنتاغون لها هي القوة الفعلية المسيطرة في العراق طالما أنها تحتكر لنفسها أسلحة الجو والدبابات والمدفعية الثقيلة وتحرم منها ما تسميه "قوى الأمن" العراقية ومنها "الجيش العراقي الجديد" المكلف أميركيا فقط بمهمة هي أصلا من مهام الشرطة ، لتظل المهمة الأساسية لقوات الاحتلال الأميركي ، مهما كان وصف البنتاغون لها وسواء كان تعدادها خمسين ألفا أم أكثر أو أقل ، هي نفسها مهمتها عندما غزت العراق قبل ست سنوات ، أي إبقاء قطر عربي يعتبر من أغنى الدول بالنفط أسير الاستعمار الجديد الأميركي.
إن إبقاء حوالي ثلث قوات الاحتلال الأميركي الموجودة حاليا في العراق (خمسين ألف جندي) التي يزيد عديدها على (142) ألف جندي إلى أمد غير منظور بحجة تدريب قوى "الأمن" العراقية ومحاربة الإرهاب وحماية المصالح الأميركية ما هو إلا تخفيض في عديدها عن طريق "عرقنة" مهمة الأمن في المدن العراقية يستهدف فقط تحرير قوات الاحتلال التي تقوم بهذه المهمة منذ الغزو عام 2003 من أجل تعزيز قوات الاحتلال الأميركي في أفغانستان ، وهذه إعادة انتشار لقوات الاحتلال بين البلدين يمكن أن تنعكس في أية لحظة يتطلبها الحفاظ على أمن النظام الموالي الذي أقامته واشنطن في العراق.
إن الخطاب الذي ألقاه أوباما في ألفين من قوات المارينز في معسكر كامب ليونى في السابع والعشرين من الشهر الماضي وأعلن فيه خطته "للانسحاب" من العراق قد أضفى في الواقع شرعية إدارته على غزو سلفه بوش بوصفه وسيلة ل"تحرير" العراق وفٌٌرت "فرصة ثمينة لشعب العراق .. ضد الطغيان والفوضى" ، لا بل إنه التزم حتى بالجدول الزمني الذي أعلنه سلفه لإنهاء إعادة نشر قوات الاحتلال بنهاية عام 2011 ، حانثا بوعوده لناخبيه وهو يقول لهم خلال حملته الانتخابية إن الحرب على العراق "ما كان ينبغي أبدا تفويضها وما كان ينبغي شنها أبدا" لكي تخرج الوول ستريت جورنال بافتتاحية عنوانها "أوباما يثبت صحة موقف بوش" قالت فيها إن "السيد أوباما قد نبذ ضمنا مواقفه نفسها عندما كان مرشحا" ، ليتبنى خطة الفريق العسكري لسلفه بوش بل وليبقي هذا الفريق نفسه لتنفيذ خطته ، فوزير دفاعه روبرت غيتس وهيئة الأركان المشتركة والقيادة الميدانية في العراق لم تتغير بتغيٌر الإدارة من بوش إلى أوباما ، الذي يطلب من الكونغرس الآن مليارات من الدولارات لتمويل استمرار بقاء قوات الاحتلال.
غير أن ما هو أهم من ذلك أن أوباما في خطابه الذي تطرٌق إلى استراتيجيته السياسية واستراتيجيته العسكرية في العراق لم يلمٌح من قريب أو بعيد لا في ذاك الخطاب ولا قبله ولا بعده حتى الآن إلى أي استراتيجية حول الجائزة النفطية الكبرى التي تسعى واشنطن إلى الفوز بها من غزوها فاحتلالها للعراق . أنه صمت مريب أفصح من كل كلام.
لكن وزير دفاعه غيتس ربما كان يفسٌر صمت رئيسه عندما قال لشبكة ان. بي. سي. في الأول من الشهر الجاري ، ردا على سؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون قد حققت "النصر" عندما "تنسحب" من العراق: "بصراحة ، أعتقد ، قبل أن تبدأوا في استخدام عبارات مثل "ربح" أو "خسر" أو "النصر" أو "الهزيمة" ، بأن هذه أمور يجب في رأيي أن تترك للمؤرخين ليحكموا عليها" ، ليعترف بأن صورة الوضع لا يمكن أن تكون "غير معقدة ووردية" ، لأن "الموصل مشكلة ، والتوترات العربية – الكردية مشكلة ، والحاجة إلى قانون للنفط مشكلة" ، لكنه لم يذكر "قانون النفط" سببا لكي يحتفظ بقوات الاحتلال لأطول فترة ممكنة في العراق بل قال إن السبب في ذلك هو "المخاوف المرتبطة بإجراء انتخابات وطنية" عراقية في نهاية العام ! وقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية في اليوم نفسه عن مسؤولين أميركيين رفضهم أن يستبعدوا بصورة قاطعة إمكانية تعديل "اتفاقية وضع القوات" الأميركية الموقعة بين إدارة بوش وبين حكومة نوري المالكي المنبثقة عن الاحتلال تعديلا يبقي القوات الأميركية بعد عام 2011 .
في السابع عشر من مثل هذا الشهر عام 2005 ذكرت البي سي سي بأن إدارة بوش والشركات النفطية الأميركية الكبرى ، و"خلال أسابيع" من بداية ولاية بوش الأولى عام 2001 ، وقبل فترة طويلة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر ، بدأوا سرا في التخطيط للاستحواذ على النفط العراقي ، ووصف المستشار النفطي المولود في العراق فلاح الجبوري خطة أعدتها وزارة الخارجية الأميركية لانقلاب عسكري على الرئيس الشهيد صدٌام حسين ، وقال إنه شارك في اجتماعات سرية لهذا الغرض عقدت في كاليفورنيا وواشنطن والشرق الأوسط ، وقال لبرنامج "نيوزنايت" إنه قابل خلفاء محتملين لصدٌام باسم إدارة بوش . وأضافت البي بي سي بأن الخطة الأصلية المفضلة للشركات النفطية استبدلت بخطة سرية وضعت مسودتها مباشرة قبل الغزو عام 2003 دعت إلى بيع جميع حقول النفط العراقية بهدف تدمير منظمة أوبيك من خلال زيادات ضخمة في الإنتاج تتجاوز كثيرا الحصص التي تعتمدها المنظمة ، وعلق الجبوري على ذلك بقوله: "رأينا زيادة في قصف المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب على افتراض أن الخصخصة قادمة" . لكن فيليب كارول ، المدير التنفيذي السابق لشركة شل أويل الأميركية الذي تولٌى المسؤولية عن إنتاج النفط العراقي باسم الحكومة الأميركية بعد شهر من الغزو أوقف خطة البيع والخصخصة ، وقال للبي بي سي إنه أبلغ بول بريمر ، الذي وصل في الشهر الخامس من العام نفسه إلى بغداد كحاكم مدني للاحتلال ، بانه: "لن يكون هناك أي خصخصة لموارد ومنشآت النفط العراقي طالما أنا المسؤول" . وطبقا لقانون حرية المعلومات الأميركي حصل برنامج "نيوزنايت" ومجلة "هاربر" من وزارة الخارجية الأميركية على خطط جديدة تدعو إلى إنشاء شركة للنفط العراقي تملكها الدولة وقد اكتملت الخطة التي أشرف عليها آمي جافي من معهد (وزير الخارجية الأسبق) جيمس بيكر في تكساس وحبذتها صناعة النفط الأميركية عام 2004.
وبالتالي فإن "الأهمية الفائقة للاحتياطيات النفطية للعراق وللمنطقة الأوسع بالنسبة للولايات المتحدة ومركزها في الاقتصاد العالمي قد خلقت دائما شكوكا حول ما إذا كانت سوف تنسحب حقا من العراق على الإطلاق" ، مع أن الاتفاق الذي صادق عليه البرلمان العراقي المنبثق عن الاحتلال الأميركي بين إدارة بوش قبيل رحيلها وبين حكومة المالكي يلزم "في ظاهره" الولايات المتحدة الأميركية بجدول زمني لسحب قوات احتلالها بنهاية عام 2011 وهو ما اعتمده الرئيس الجديد باراك أوباما باستثناء قوة يتراوح عديدها بين (35) ألفا وبين خمسين ألفا ، "وإذا حدث ذلك فعلا فإنه يرقى إلى تغيير استثنائي في الموقف الأمني الأميركي – ربما بمستوى التراجع من فيتنام الذي توج بمذلٌة الثلاثين من نيسان / أبريل عام 1975"، كما كتب بول روجرز في "أوبن ديموكراسي" في التاسع من الشهر الجاري .
غير أن روجرز استدرك متشككا ومشككا في نهاية كالتي يوحي بها الجدول الزمني المتفق عليه "للانسحاب" الأميركي وأورد لذلك عدة أسباب أهمها:
أولا أنه يوجد في العراق حوالي أربعة أضعاف النفط الموجود في الولايات المتحدة بما في ذلك نفط ألاسكا ، وثانيا أن الولايات المتحدة التي كانت مكتفية ذاتيا بالنفط حتى نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي تستورد الآن معظم النفط الذي تستعمله ، وثالثا فإنها بالرغم من أنها لا تستورد في الوقت الحاضر كميات ضخمة من النفط من منطقة الخليج حيث يوجد حوالي (62%) من احتياطي النفط العالمي فإن تفكيرها الاستراتيجي يحتم عليها الحفاظ على سيطرتها العسكرية في المنطقة لكي تظل القوة الأعظم في العالم ، وللعراق هنا أهمية حاسمة ، "فمن منظور البنتاغون سيترك أي انسحاب كامل من العراق الولايات المتحدة مكشوفة بصورة خطيرة ، وبخاصة في مواجهة نمو غير مرحب به في النفوذ الإيراني" ، خصوصا بعد سحب الوجود العسكري الأميركي من المملكة العربية السعودية ، "وفي هذه الظروف فإن الاحتفاظ بالسيطرة على العراق ، بما في ذلك قدرة عسكرية مباشرة ، يظل أمرا أساسيا".
وفي هذا الإطار ، أشار روجرز إلى تقارير عن مباحثات تجريها واشنطن مع "السلطات الكردية في شمال شرق العراق حول إقامة قاعدة جوية أميركية دائمة هناك" ولاحظ أنه خلال السنوات الثلاث حتى نهاية عام 2011 فإن "ألوية التدريب والمساعدة" التي ستبقى لمساعدة قوات الأمن العراقية "سوف تكون قادرة على الاشتباك في قتال كامل".
وبعد أن لاحظ بأن سلاح الجو هو من المكوٌنات الأهم للقوات الأميركية في العراق لاحظ أيضا عدم وجود أي إشارة إلى أي برنامج لسحب سلاح الجو الأميركي بين عامي 2009 و2011 . وبعد أن أشار إلى السفارة الأميركية الأكبر في العالم التي افتتحت رسميا في الخامس من الشهر الأول من العام الجاري وإلى المنشآت الأساسية ومنها محطات كهرباء كبيرة جديدة يجري بناؤها في العديد من القواعد العسكرية الأميركية الكبيرة استنتج روجرز ، مستدركا بأن تطور الأحداث قد يثبت خطأه ، بأن "الأهمية الاستراتيجية للمنطقة – أيا كان ما ترغب إدارة أوباما في حدوثه -- تستبعد أن يكون من المؤكد أن تنسحب القوات الأميركية من العراق تماما لسنوات كثيرة مقبلة".
إن فشل واشنطن في الحصول على جائزتها النفطية حتى الآن وعجز الإدارة الجديدة فيها عن ادعاء النصر في العراق وكذلك عجزها عن "ترك العراق لشعبه" فعلا لا قولا يعني أن مشروع الاحتلال الأميركي الذي عجز عن الحسم بعد ست سنوات من الغزو لا أمل له بعد الآن في الحسم لصالحه ، لكن ذلك يعني أيضا أن طريق المقاومة العراقية ما زال طويلا.