بقلم : رشاد أبو شاور ... 25.03.2009
عندما اعتذر مندوب العراق عن عدم جاهزيّة العراق لأخذ دوره في مشروع الجامعة العربيّة لإحياء اللغة العربيّة ـ لا تنسجم الثقافة العربيّة مع الاحتلال والخنوع له ـ والعناية بالثقافة العربيّة، الذي يقام سنويا بالتناوب بين العواصم العربيّة، تحت عنوان: (عاصمة الثقافة) العربيّة، وجدها وزير الثقافة الفلسطيني في حكومة الوحدة الوطنيّة ـ رحمها الله ـ الدكتور (أبو السبح) فرصة لفلسطين، فعرض أن تكون القدس عاصمة للثقافة العربيّة، ولم يخطر بباله أن الحكومة ستُحل، وأن الوحدة الوطنيّة ستصبح ذكرى، وشعاراً يتلطّى به المتضررون من تحققها، وأمنية بعيدة المنال...
السلطة في (رام الله)، والحكومة المقالة في غزّة، انطلقتا في عمليّة تنافس على من هي الجهة التي ستحتفل بالقدس عاصمة للثقافة العربيّة، والتنافس في هذه الحالة، كما في كثير من الحالات الفلسطينيّة، لم يكن محمودا، ولكنه تشتيت للجهد، وإرباك للأصدقاء والمتعاطفين، وتضييع لفرصة ثمينة تنتظرها القدس التي تلفظ آخر أنفاسها العربيّة.
شخصيّا دعيت من اللجنة التي تأسست في بيروت لهذه الغاية، والتي أعدت لملتقى في دمشق للتحضير للاحتفاليّة، ولكنني لم ألب الدعوة، ذلك أنني لم أرض لنفسي أن أسهم في جهد يُفرّق، ويسهم في مفاقمة العبث السياسي، الذي يمعن في تمزيق الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة، ويحرمها من أداء دورها، ويمكّن الانتهازيين و(الصغار) من الادعاء والتنطع لمهام أكبر من قدراتهم، أولئك الذين همّهم الكسب الشخصي، وليس الانطلاق من رؤية وطنيّة شاملة توظّف الطاقات والجهود لخوض غمار معركة ضارية في مواجهة الهجمة الصهيونيّة على القدس، وعلى الأرض الفلسطينيّة، والإنسان الفلسطيني.
إذا كانت لجنة (بيروت) التي تقف خلفها حماس قد اتصلت بكثير من الكفاءات الفلسطينيّة، فإن اللجنة التي تشكلّت في رام الله رأت أنها في حل من التواصل مع الكفاءات، من مؤرخين، وعلماء آثار، وجغرافيين، وأكاديميين يعيشون في الغرب ولهم مكانة مرموقة، ومفكرين، وكتّاب، وشعراء، وفنّانين، وصحافيين، وإعلاميين، ومترجمين، يعيشون في الشتات.. وحتى بكثير ممن يعيشون داخل فلسطين!
هل بُذلت جهود لتوحيد العمل من أجل القدس، وتحويل الاحتفالية إلى مناسبة تستنفر الطاقات الفلسطينيّة كافة، وعلى كافة المستويات، وتقديم بادرة ثقافية تعلو على الخلافات والصراعات وعلى وهم السلطة، تبرز أن ثقافتنا واحدة، وأن وعينا الثقافي يقرّبنا، ويضافر جهودنا؟!
لم أسمع بمبادرة تنطلق من الإحساس بهول الخطر الكاسح على القدس، وما يقترفه العدو، وما يتبعه من سياسة مبرمجة معدّة متوارثة بين حكوماته المتتالية بغض النظر عن صراعاتهم الحزبيّة، لأن تحويل القدس إلى عاصمة للدولة اليهوديّة هو في صلب استراتيجيتهم الواحدة، وهو ما يعني صهينتها، واقتلاع العرب منها مسلمين ومسيحيين، وتدمير معالمها بالحفر تحتها، والتشويه فوق الأرض..بينما نحن وأمتنا نيام، وفي حالة عماء اختياري تّام، فكأننا لا نرى، لا نسمع، و..لذا لا ننطق بالكلام العربي الفصيح الذي يجيب على استغاثات القدس!
انطلقت نشاطات اللجنة الحمساوية في المنافي والشتات، وفي غزّة، بينما أعلن عن انطلاق احتفالية السلطة يوم 21 آذار(مارس)، بعد أن أُجّلت الاحتفالية بسبب العدوان على قطاع غزّة، وكانت مُقرّرة في 11 كانون الثاني (يناير) الماضي، وبمراسم قسم الولاء للقدس في جميع أنحاء العالم، وهو ما يعني التزام ملايين العرب والمسلمين، بالدفاع عن هويّة القدس، وتراثها الحضاري والإنساني، والتصدي لصهينتها واقتلاع أهلها.
استفسرت من كثير من المثقفين الفلسطينيين في الداخل والخارج، إن كانت اللجنة المشرفة على الاحتفاليّة في (رام الله) قد اتصلت بهم، مستمزجةً رأيهم ـ مجرّد استمزاج ليس إلاّ! وهو أمر غير مُكلف، ولا يمس بالامتيازات والوجاهة ـ فكان النفي، وحتى الدهشة من سماعهم لأوّل مرّة بأن القدس ستكون هذا العام 2009 عاصمة للثقافة العربيّة، مع ان بعضهم قد دُعوا إلى الجزائر، ودمشق وغيرهما، وطّلبت منهم نصائح في نشاطات تلك العواصم التي استضافتهم، وحتى قبل ان تبدأ احتفالياتها، رُغم ما في تلك العواصم من كفاءات!
أسوق هذه المعلومة ليرى من يهمهم الأمر كيف أن (السياسة) تُفسد ثقافيّاً حين تجد من يتطوّع لتنفيذ أهدافها الضيقة والضّارة!
القدس عاصمة للثقافة العربيّة، تستدعي أن نبدأ من أسئلة يفرضها واقع الحال: أليست مُحتلّة؟ ألا تكتسحها سياسة التدمير الممنهج الصهيونيّة؟ أليس أهلها غرباء فيها، محشورين في مساحة تضيق يوميّا، وتنفتح تحتهم هاوية الحفريات تمهيدا لابتلاع القدس العريقة وأهلها، ولتظهر فجأةً في غفلة من العرب مسلمين ومسيحيين قدس أُخرى، يهودية، على ركامها وخرائبها؟!
إذا: ما الذي يفترض بمن يحتفل بالقدس العربيّة عاصمة للثقافة العربيّة أن يجترحه بما يُشبه المعجزة؟
أولاً: أن يُصارح أهله الفلسطينيين في الداخل، وفي الشتات، بحال القدس الراهن، بالضبط ودون لف ودوران، وأن يصدقهم القول في ما آلت إليه القدس منذ (أوسلو) وحتى اليوم، أي في حقبة السلام!
ثانيا: أن ينقل إلى العرب والمسلمين، والرأي العام العالمي الشعبي والرسمي، ما جرى للقدس..التي يصفها قادة السلطة بأنها مفتاح السلام! ..ماذا عن الحرب المتواصلة التي يشنها الكيان الصهيوني؟!
ثالثا: أن يضع كّل من يعنيهم مصير القدس، أمام مسؤولياته..على ان يتقدم الجميع في الفعل على الأرض، لا أمام الفضائيّات!
قبل أيّام التقيت في عمّان بالباحث الأكاديمي الدكتور مهدي عبد الهادي، وكان قادما من القدس حيث يعيش المعاناة، والرجل صاحب دراسات عن القدس، فسألته عمّا يحدث للقدس، فكان جوابه: نحن أهل القدس أصبح حالنا مثل حال أهلنا في (اللد)
و(الرملة) ـ أذكّر من نسي، بأنهما محتلتان منذ العام 48 ـ فالصهاينة استكملوا خطّة تهويد القدس، وهم يضعون الآن اللمسات الأخيرة لامتلاكها!..بينما نحن نيام، مشغولون في أمور سطحيّة، نقتتل على وهم السلطة.
الرجل معروف بالحياديّة بين المتصارعين، وبالدعوة الدائمة لتوحيد الصفوف والدفاع عن القدس، وطرد الاحتلال، وتحقيق دولة فلسطينيّة مستقلّة فعلاً...
كان هذا اللقاء في مكتبة دار الشروق بعمّان قبل أسبوع فقط من انطلاقة احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربيّة، والتي اُطلقت فيها البالونات، وأقيمت الدبكات في بيت لحم، وألقى أبومازن خطابا بالمناسبة، جوهره تشكيل حكومة تعترف باتفاقات منظمة التحرير الفلسطينيّة ـ يرحمها الله ـ أي تعترف بالكيان الصهيوني، أي حكومة لا صلة لها بمقاومة تدمير القدس، وتهديم أحياء (وادي حلوة) و(البستان) ومخيّم (شعفاط). بدلاً من أن تكون المناسبة تدشينا لمرحلة مقاومة شاملة لإنقاذ القدس من مخالب الصهاينة، واستنفارا لمسلمي العالم، ومسيحييه، وللحريصين على القدس كمعلم حضاري وثقافي إنساني، ليهبّوا لإنقاذها!
أهل القدس يحتاجون للدعم المالي ليتمكنوا من العيش في بيوتهم المتداعية، ولمواجهة سياسة صهيونيّة تضيق عليهم الخناق لتدفعهم للهرب نجاة بأنفسهم. ..
القدس تحتاج لاستراتيجيّة مواجهة شاملة سياسية، اقتصادية، ثقافيّة..وهذه لا يرسمها من يُخضعون ثقافة القدس وفلسطين، وبعد كًُل ما حدث، لأوهام سلام دمّر شعبنا وأرضنا، ويقيدون ويحاصرون ثقافة المقاومة التي لا ثقافة لفلسطين وعاصمتها القدس غيرها. ..
بالونات، ودبكات أمام الكاميرات، ثمّ تصريحات لشخصيات هاشة مغتبطة بما (أنجزت) ما عليها، و..علينا نحن الفلسطينيين أن نُثني على تمزيق القدس احتفاليّا بين طرفين متصارعين، وأن نُصفّق طربا للبلالين الملوّنة التي هي بديل لثقافة مقاومة متصدية لإنقاذ القدس.. بلا. .لين!