أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
من العصافير إلى الخنازير !

بقلم : ربيحة علان علان ... 3.8.08

طفل ككثير من أطفال المخيم خرج ليلعب في الجبل القريب من بيته. الجبل يجاور مخيم الجلزون وعلى قمته بيت قديم كبير الحجم مهجور وجزء منه مهدوم، يسميه الأطفال "القصر"– يطلق الفلسطينيون على المكان اسم "الخربة"- والجبل يجاور من الجهة الأخرى مستوطنة بيت ايل الصهيونية. ومع أن عائلة فلسطينية سكنت هذا البيت القديم وقامت بتعمير الجبل وزراعة العديد من أشجاره قبل عام 1948 وكذلك قام بعض اللاجئين من مخيم الجلزون بزراعة مساحات كبيرة من هذا الجبل بعد عام 1948 لتوفير لقمة العيش إلا أن تواجد الفلسطينيين في قلب هذا الجبل تراجع بصورة غير مسبوقة بعد الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية عام 1967 وبعد إقامة مستوطنة بيت إيل التي عملت على الزحف نحو الجبل وهيئت الظروف لمحو الغطاء النباتي عنه كما فعلت في الجبال المجاورة لتسهيل مهمة السيطرة على ما بقي من الأرض مستقبلا ولإسقاط المزيد من المضار الاقتصادية والنفسية على اللاجئين والمواطنين الفلسطينيين المتواجدين في تلك المنطقة.
كان الطفل يعلم أن صديقيه الشقيقين يتواجدان في تلك الساعة في مكان قريب من البيت القديم –القصر- يحاولان اصطياد عصفور. فقد كان أطفال المخيم يصنعون ما يعرف "بالمُكر" لاصطياد العصافير. وهي طريقة بدائية وبسيطة حيث يصنع الطفل حفرة صغيرة يملأها بالماء ويغطيها بشبكة رقيقة مربوطة بخيط رفيع وطويل حيث يختبئ الطفل خلف كومة حجارة أو "سنسلة" وفي أغلب الأحيان يستلقي الطفل على الأرض بعيدا نوعا ما عن "المُكر" ينتظر أن ينزل عصفور ليشرب فيصطاده، العملية ليست سهلة وتستغرق من الطفل معظم النهار وقليلا ما يعود الأطفال بعصفور أو أكثر والأقل من ذلك أن يعود الأطفال بعصفور مميز حيث أثر تراجع الزراعة في المكان وتدمير الغطاء النباتي على الحياة البرية هناك.
لم يكد الطفل يقترب من صديقيه حتى فوجئ بدورية عسكري صهيوني وعدد من المستوطنين يلاحقونه. حاول الطفل بأقصى سرعته الهرب بأي اتجاه ممكن لكن سرعة المستوطنين كانت أكبر فأمسكوا به وأخذ مستوطن ضخم الجسم يضرب راس الطفل وتحديدا يضربه على الأذن بكعب مسدسه. ثم ألحقها بضربات على أطراف الطفل من "الدبسة" أي العصى كالتي يحملها الجيش الصهيوني عادة. كان المستوطنون وهم يضربون الطفل يسألونه عن شيء واحد فقط وهو: "من هم الشباب الذي يأتون إلى الجبل ويحفرون؟؟". ويقصد المستوطنون بذلك معرفة الشباب الذين كانوا يأتون إلى "الخربة" وخاصة إلى مكان البيت القديم أو القصر ويقومون بالتنقيب عن الآثار فيها. وواضح أن الصهاينة كعادتهم يريدون التنقيب عن الآثار الفلسطينية في الوقت والطريقة التي تناسبهم لتكون النتائج على القياس الذي يتماشى مع خططهم في المنطقة.
لم يُجب الطفل بأكثر من: " لا أعرف لا أعرف لا أعرف". وعندما لاحظ المستوطنون أن السكان القريبين من المنطقة رأوهم يضربون الطفل قاموا باقتياد الطفل إلى بيته للتأكد من أنه يسكن بالفعل قرب المكان الذي اعتقلوه فيه وليدفع غرامة مالية وتم تسليم الطفل لوالده بعد أن قدم الوالد شهادة ميلاد الطفل التي تثبت أنه تحت السن القانوني ولأنه كان من الصعب عليهم احتجاز الطفل طويلا لانه حتى القوانين الاسرائيلية لا تسمح لهم باعتقال الطفل أو ايذائه وهو في هذا السن. ولكن المستوطنين لم ينسوا أن يلتقطوا صورا لهذا الطفل قرب قفص يحوي عصافير ليبرروا فعلتهم. بل أكثر من هذا فقد ذكر قريب لعائلة الطفل يسكن المناطق المحتلة عام 1948 أنه رآى صورة الطفل في صحيفة صهيونية تصف هذا الطفل العربي كعدو للطبيعة معتدٍ عليها.
كان هذا الحادث قبيل أوسلو. عندما عاد شقيقي أمس وقد صار رجلا وجلس يخبرني عن المشاكل التي تنجم عن انتشار الخنازير البرية في جبالنا، وما يتردد بين الناس عن مسؤولية إسرائيل في نشرها بحجة حماية الطبيعة، ذكرته بـ"حادثة العصافير" فضحك. ووضع يده على أذنه وقال لي: "مازالت أذني تؤلمني من وقت لآخر منذ ذلك اليوم". ثم أضاف مبتسما:" أما زلت تذكرين ذاك الحادث"؟؟؟
نعم مازلت أذكر. فكيف أنسى مشهد وضع شقيقي الصغير في دورية صهيونية محاط بالجنود ووجهه أصفر خائف حائر متألم وكل ذلك دون ذنب وتحت ذريعة حماية الطبيعة. الطبيعة التي دمروها هم ثم اختبأوا وراءها كحجة ليصطادونا ولتكون مبررا لتحركاتهم المشبوهة على ما بقي من أرضنا. نعم كلما سمعت بالجمعيات والمؤسسات الإسرائيلية التي تحمل المسميات الجميلة والبراقة أتذكر الكثير من خدعهم. فمن الصعب أن أفرض حسن نيتهم تجاهنا عندما أسمع بالمعهد الفلاني للسلام وجمعية حماية الطرق أو الأمان على الطرق وجمعية أو سلطة حماية الطبيعة وهلم جرا.
وحتى إن كانوا قد أمسكوا بالطفلين الآخرين الشقيقين وهم يصطادون عصفورا فلم يكن لهم الحق بأي صورة ملاحقة الأطفال. بالمناسبة أحد هذين الشقيقين توفي لاحقا بعد اصابته بمرض نجم عن الخوف الشديد من الجنود الصهاينة كما ذكر ذويه. كانوا مجرد أطفال يلعبون وعلاقتهم مع الطبيعة طبيعة لم يكونوا تجارا للعصافير ولم يأكل اللاجئون يوما "منسف بالعصافير". كانوا أبرياء يعيشون على الطبيعة فلم يُبقي لهم الاحتلال ما يكفي لشراء ألعاب صناعية، فكانوا يبتكرون ألعابا من الحجارة (الكال) والعصي (طقة واجري) ومن بقايا أكواز الذرة التي رميت بعد أكلها ومن أسلاك قديمة (يصنوع سيارات من أسلاك واطاراتها أكواز الذرة الجافة) ويتعلمون الرماية على ألواح الصبر في تموز... ويحلمون بعصفور يشاركهم قفصهم.
باسم حماية الطبيعة وأمن مستوطناتهم وما شابهها جاب المستوطنون وجالوا في جبالنا وودياننا ووجودهم جعل تواجد الفلسطينيين في أغلب المناطق خطرا. فضعف الغطاء النباتي في معظم المناطق الفلسطينية وتراجع الإنتاج الزراعي. و تكاثرت الحيوانات البرية في المناطق القريبة من المستوطنات الصهيونية حيث تتوجه هذه الحيوانات للتخريب في الأراضي وحول البيوت الفلسطينية لان المستوطنات محمية بالأسلاك وغيرها من موانع دخول تلك الحيوانات إليها.
عانينا في الفترة الأخيرة من انتشار مقلق ومزعج للكلاب الضالة حول منزلنا، وبعض أفراد عائلتي يعتقدون أن خوف أطفالنا من الكلاب الضالة ذات الحجم الكبير والمؤذية قد يكون سببا لإصابة أحد أطفالنا بالبهاق. قمنا بمعالجة جزئية للأمر أبعد تكاثر الكلاب حول البيت ولكن يصعب ملاحقتها بعيدا حيث تستطيع الكلاب الاختباء في الجبال تحت حماية المستوطنات التي يحظر الاقتراب منها. ومهما يكن من أمر هذه الكلاب فهي أقل بكثير من مشكلة الخنازير البرية التي بات الحديث عنها وعن المشاكل التي تخلفها في المناطق الفلسطينية ظاهرة تقلق الجميع وتطرح تساؤلات عدة.
أم عدنان التي تسكن على أطراف قرية جفنا تقول أن المصلين يخرجون لأداء صلاة الفجر حاملين عصي خوفا من أن تتعرض لهم الخنازير البرية الضخمة. التقط شقيقي عبر جواله مشاهد قطعان الخنازير الكبيرة الحجم والتي يصفها بالعنيفة والمخيفة حيث يراها ليلا عندما يذهب في سيارته لإلقاء نفايات المنزل. ذكرت زوجة شقيقي انتشار الخنازير أيضا حول قرية قبية فقالت"ذهبت إلى المرج مع أطفالي وهي منطقة زراعية بين قرية قبية ونعلين، وذهب أخي لشراء بعض الحمص لأولادي من مزارع في حقل مجاور فقال له المزارع لا يوجد لدي لقد أتلفتها الخنازير ولكن بقي لدي محصول الفقوس. وبعد قليل رأينا هذا المزارع يركض نحونا هاربا بعد أن رأى خنزيرين في أرضه. أعتقد أن الرجل وحده لا يستطيع التغلب على خنزير يتطلب الأمر اطلاق النار عليها أو طريقة أخرى لا أعرفها لكن الخنازير التي يصفها الناس تبدو خطرة"...
عندما أستمع إلى الحاجة أم العبد وهي تشكوا من الأضرار التي ألحقتها وما زالت تلحقها الخنازير البرية بمزروعات عائلتها أشعر بالضيق الشديد. فهذه الريفية الأصيلة- من قرية دورا القرع- قضت عمرها تكافح لاجل عيش كريم وسط قسوة الحياة ومشقة توفير لقمة العيش حافظت فيها على عائلتها دون أن تلجأ لأحد. اعتمدت على الله وعلى ساعديها. ومن نكران الزوج الذي ترك صغاره وتاه في متاع أمريكا إلى ظلم ذوي القربى إلى مآسي عديدة كمآسي غيرها من الفلاحين الفلسطينيين التي لا تنتهي بين احتلال وفقر وضعف المؤسسات المساندة وضعف التسويق ومنافسة الانتاج الاسرائيلي وشح المياه في الينابيع لأسباب طبيعية وغير طبيعية وغلاء سعر الماء بل غلاء كل شيء واعتقال الأبناء والحواجز وتلف المحصول لأسباب عدة وصولا إلى مشكلة الخنازير. قبل أيام التقيتها سألتها إن كانت ما تزال تعاني من مشكلة الخنازير البرية المؤذية لمزروعاتها؟ فأخبرتني أن المشكلة ما زالت قائمة وأن الخنازير أتلفت أنابيب المياه قبل أيام. سألتها إن كانت المشكلة قد حُلت لان المشكلة موجودة منذ مدة ويُفترض في الجهات المعنية وأقصد هنا السلطة الوطنية الفلسطينية ورؤساء المجالس والبلديات المحلية والمؤسسات والتنظيمات والأحزاب الوطنية أن يحلوا المشكلة. خاصة وقد تعددت التقارير المنشورة في الصحف وعبر شبكة الانترنت عن المشاكل الكبيرة والخطيرة التي تتركها هذه الخنازير في كافة مناطق الضفة الغربية كسلفيت والأغوار وغيرها....
ويشيع اعتقاد بين من قابلتهم أو قرأت عنهم ممن يعانون مباشرة من هذه المشكلة أن السلطات الصهيونية هي المسئولة عن هذه المشكلة حيث يتهمها أغلبية الفلسطينيين بأنها من يطلق هذه الحيوانات في الجبال بغرض تدمير الزراعة الفلسطينية وإبعاد الفلسطينيين عن الجبال والمناطق القريبة من المستوطنات وأنها تمنع الفلسطينيين من حل المشكلة بشكل مقبول حيث تمنع استخدام السلاح أو السم المناسب أو حصرها في مكان محدد وبحجج عدة منها الحفاظ على الحياة البرية. وأما دور السلطة الوطنية في حل هذه المشكلة فلم يتحدث أحد عن مساعدة من السلطة في حلها حتى أنهم لم يظهروا اقتناع أو ثقة بأن السلطة يمكنها حلها.
وكأن مشاكلنا هي ذاتها قبل أوسلو وبعده بل تفاقمت وتعقدت. وربما أصبحنا أكثر من ذي قبل نواجه الاحتلال أفرادا وعائلات، بينما تضعف أو تغيب المؤسسات والجمعيات والأحزاب والتنظيمات وتنشغل في صراعها مع بعضها أو الحفاظ على دخلها. والأخطر من ذلك أن تغيب السلطة التي تحمل اسمنا. فإن كانت هذه السلطة بعيدة عن يوميات البسطاء أو تعجز عن حل مشاكل هي صغيرة في مهام الدول فهل تستطيع حلّ مشاكل أعقد إن سموها دولة؟؟؟

مخيم الجلزون – رام الله