بقلم : نقولا ناصر ... 5.8.08
منذ اعلن رئيس وزراء دولة الاحتلال الاسرائيلي ايهود اولمرت في اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية والدفاع يوم الاثنين الماضي ان أي اتفاق يمكن التوصل اليه مع الجانب الفلسطيني قبل نهاية العام الجاري لن يشمل القدس وكبار المفاوضين والمتحدثون باسم الرئاسة الفلسطينية يكررون القول ان القدس خط احمر ويرفضون تاجيل التفاوض حولها ويؤكدون رفض أي اتفاق دونها ، غير ان اولمرت واسلافه وايا كان من سيخلفه ما كان لهم ان يجرؤا على التلويح باي اتفاق محتمل لا يشمل القدس لو لم يجدوا سوابق تشجعهم على ذلك في النهج التفاوضي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وهو نهج لم يتعامل قط مع القدس كخط احمر والا لكان جمد اتفاق اوسلو منذ عزل الاحتلال المدينة عن محيطها الفلسطيني بعد اشهر من توقيعه عام 1993 ولو كان فعل لما كانت هناك اصلا أي مفاوضات يحض شبه اجماع وطني على وقفها الان.
الم تكن قيادة المنظمة هي التي وافقت على تاجيل التفاوض على قضية القدس منذ مؤتمر مدريد عام 1991 ثم وافقت منذ توقيع اعلان المبادئ في واشنطن عام 1993 على التفاوض لاحقا حولها على اساس الامر الواقع الذي نشا عن احتلال شطرها الشرقي عام 1967 لا على اساس قرارات "الشرعية الدولية" التي لا تفوت القيادة فرصة دون التاكيد عليها كاطار للتسوية السياسية مع دولة الاحتلال ؟ الم تكن هذه القيادة هي التي وافقت على التفاوض على ارضية عدم رفض الاعتراف بالمكاسب التي حققها الاحتلال في القدس بالقوة المسلحة خلافا لميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي وبالتالي وافقت على تقرير وضعها النهائي بالاتفاق التفاوضي بين الجانبين لا بتطبيق ما صدر من قرارات الامم المتحدة بشانها ؟
الم تكن هذه هي القيادة نفسها التي لم تعترض على مبادرات وتفاهمات قام بها اعضاء فيها وافقوا ووقعوا مبدئيا على الاعتراف بالمكاسب الاستيطانية للاحتلال في القدس ، ووصفت مبادراتهم بالفردية وغير الرسمية ، لتوافق "مبادرة جنيف" على سبيل المثال على بقاء مستعمرات معاليه ادوميم وغوش عتصيون وجفعات زئيف وعلى مبادلتها بمساحات مساوية لمساحتها من النقب لا تساويها في القيمة والنوعية والمثل ؟ ومن هو الوسيط الدولي الذي سيلوم اولمرت او غيره من قادة الاحتلال عندما يقترحون اتفاقا لا يشمل القدس بينما يجد هذا الوسيط ان الجانب الفلسطيني وافق في مبادرة جنيف حتى على اخضاع أي حفريات او ترميمات في الحرم القدسي الشريف لموافقة الطرفين ؟ ان الامثلة عديدة على استخدام المفاوض والمحاور والكاتب الاسرائيلي لمثل هذه المبادرات حجة ومرجعية ضد قيادة المنظمة قدمها اعضاء بارزون فيها.
وكيف لا يتجرا قادة الاحتلال على احراج هذه القيادة علنا امام شعبها ووضعها في موضع شبهة وطنية بمثل ما اعلنه اولمرت الاثنين الماضي عندما تغض هذه القيادة الطرف عن احد كبار المنظرين لبرنامجها السياسي ونهجها التفاوضي وكان في مرحلة ما عضوا في فريق مفاوضيها وقياديا في حركة فتح التي تقود المنظمة وما يزال عضوا في المجلس الوطني للمنظمة ، والادهى انه كان مرة ، كما يعرف نفسه في سيرته الذاتية ، "مفوض منظمة التحرير الفلسطينية لشؤون القدس (عام 2002 أي في ذروة انتفاضة شعبية اتخذت من "الاقصى" عنوانا لها)" ، مثل البروفسور سري نسيبة رئيس جامعة القدس منذ عام 1995 ، عندما دعا "داعية السلام المخضرم" هذا في مقابلة مع القدس العربي اللندنية الاربعاء الماضي الى مبادلة القدس بحق اللاجئين في العودة ، بلغة ظاهرها حق يحرص على ثالث الحرمين الشريفين لكنها لغة ان لم ترد باطلا فانها تخدمه ، دون ان تتصدى له قيادة المنظمة في الاقل للقول ان مبادلته المقترحة هذه تمثل اجتهادا فرديا وشخصيا لصاحبها وانها لا تتفق مع الموقف الرسمي المعلن لها !
ان المرونة المفرطة للمفاوض الفلسطيني اوقعته في فخ الموافقة على مبدا "المبادلة" بين حقوق هي جميعها من الثوابت الوطنية الفلسطينية ليبدا في التدرج التبادلي التنازلي من المطالبة بدولة فلسطينية في حدود عام 1967 الى المطالبة بدولة على مساحة مماثلة بعد موافقته على تبادل الاراضي من حيث المبدا ، وبالرغم من اعلان الرئيس محمود عباس مؤخرا رفضه للتبادل الديموغرافي فان موافقة المنظمة ومفاوضها على التبادل الجغرافي هي في الواقع موافقة على التبادل الديموغرافي لان تبادل الاراضي (الذي يريده الاحتلال بنسبة 12 في المئة من مساحة الضفة الغربية وهذه هي تقريبا نسبة مساحة القدس للضفة وتوافق المنظمة عليه بنسبة اقل بحدود ثلاثة في المئة) ليس تبادلا لاراض خلاء خالية من الناس بل هي اراض استولى الاحتلال عليها عنوة واقام عليها مستعمراته الاستيطانية التي تؤوي في القدس ، حيث يجري التفاوض على تبادل الاراضي ، قرابة مائتي الف مستوطن ، والارض الخلاء هي فقط حصة المنظمة من التبادل الجغرافي في النقب بمحاذاة قطاع غزة وحول "الممر الامن" المقترح بين القطاع وبين الضفة ، كما يرشح من مقترحات تفاوضية.
فاذا كانت قيادة المنظمة تعتبر القدس خطا احمر وترفض حقا التبادل الديموغرافي فانه ينبغي عليها ايضا رفض التبادل الجغرافي كما يجري التفاوض عليه حاليا ، خصوصا في القدس ، لان قيام قوة الاحتلال بنقل سكان منها الى الارض التي تحتلها او نقل السكان الاصليين من هذه الارض امر يتعارض تماما مع القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة وينتهك ثابتا وطنيا فلسطينيا انتهاكا صارخا ويرسخ مكاسب الاحتلال الاستيطانية في بيت المقدس ولا يوجد ما يفسر أي موافقة فلسطينية على كل ذلك او بعضا منه سوى رضوخ المفاوض الفلسطيني لرؤية الادارة الاميركية ، التي ما زال يراهن عبثا على وساطتها ، والتي فرضت عليه القبول بتبادل الاراضي لانها ترى "من غير الواقعي" العودة الى حدود عام 1967 وسحب المستعمرات اليهودية الكبرى ، كما التزم الرئيس جورج بوش في رسالته المعروفة لرئيس وزراء الاحتلال السابق ارييل شارون في سنة 2004 . ان أي موافقة فلسطينية على ذلك او بعضا منه ستكون غير شرعية ومنتزعة بالاكراه ومفروضة بقوة السلاح للاعتراف بالامر الواقع في القدس ، الذي لم يبق فيها للفلسطينيين والعرب والمسلمين الا وجودا رمزيا يتاكل يوميا ، ولن يكون السلام مسوغا وطنيا مقبولا لاضفاء شرعية فلسطينية على امر واقع كهذا ، ومن المؤكد ان قيادة تمنح أي شرعية مماثلة سرعان ما تخاطر هي نفسها بفقد شرعيتها الوطنية.
لقد شهدت القدس لدى قيادة التفاوض والتسوية السياسية تاكلا متسارعا في مركزية موقعها في النضال الوطني وتراجعا متواصلا في اولويتها التفاوضية وتخفيضا في مستوى المسؤولية السياسية عن ملفها وتشتيتا لا تركيزا لهذه المسؤولية الى غير ذلك من العوامل الذاتية التي قادت في اجمالها الى تهميش قضيتها ، التي حاولت انتفاضة الاقصى التي يجري اجهاضها اعادتها الى مركز النضال الوطني ، بينما كان قادة الاحتلال في المقابل يحولون القدس الى المحور الاساس الذي تدور حوله كل حركتهم السياسية الداخلية والخارجية وكل صراعهم على الارض مع اهل القدس واصحابها الشرعيين.
ان التهويد المتسارع للقدس والتوسيع المتواصل للاستعمار الاستيطاني فيها وحولها والعملية التي لا تتوقف لافراغها من اهلها والعمل القائم على قدم وساق لطمس هويتها العربية ومحاصرة الاسلام والمسيحية فيها ، مما يحول احتفالية اعلانها عاصمة للثقافة العربية في السنة المقبلة الى مناسبة منفية تجري احداثها خارجها ، كان كل ذلك وغيره منذ عام 1993 سببا كافيا لاستجابة قيادة التفاوض للمطالب المبكرة والمتكررة للمؤتمرات الشعبية الفلسطينية والعربية والاسلامية - المسيحية ل "ربط العملية السلمية بتحرير القدس وعودتها الى الشعب الفلسطيني ورفض ارجاء التفاوض حولها" وسببا كافيا لوقف المفاوضات واعادة النظر في مرجعياتها الراهنة واستبدالها بمرجعية منبثقة عن توافق وطني كانت القيادة المفاوضة حريصة على تجاهله وتجميد او تهميش كل المؤسسات التمثيلية للشعب الفلسطيني ، وفي مقدمتها مؤسسات منظمة التحرير وفتح ، التي يمكنها ان تبلور توافقا كهذا ، لكي لا تكون القدس خطا احمر لحراكها التفاوضي والسياسي يجري تقويم ادائها ومساءلتها على اساسه.