أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
طوبى للغوغائيين والمغامرين !

بقلم : د. فيصل القاسم  ... 23.07.06

إما أنهم مغفلون أو يحاولون استغفالنا. ولا شك أنه من حقهم الترويج لبضاعتهم السياسية، لكن العبرة بالبيع، إذ أن أولئك الإعلاميين العرب الذين يديرون آلة الدعاية التابعة للنظام العربي الرسمي ينسون أو يتناسون أن بضاعتهم الإعلامية، وخاصة وقت الأزمات، لا يشتريها حتى المغفلون منا بفلس صدئ، فلم تعد الفهلوة والتمنطق بـ"الحكمة والتعقل والواقعية" تنطلي على أحد، خاصة وأنه غدا من الصعب جداً تغطية عين الشمس بغربال، فقد أصبحت حتى جداتنا في القرى النائية "يعرفن البئر وغطاءها" سياسياً، ولم يعد باستطاعة أولئك "الجهابذة" أن يخدعوا أحداً بتحليلاتهم الهلامية ومواعظهم الاستهبالية، وهم يعلمون ذلك جيداً، لكنهم يريدون إرضاء أسيادهم في الداخل والخارج حتى لو صوروا الثلج أسود. أقول هذا الكلام تعليقاً على بعض الغثاء "الإعلامي" الذي يملأ بعض الصحف والمواقع الالكترونية العربية التي أخذت على عاتقها التهليل لانتصار النظام الرسمي العربي"الرزين" مرة أخرى على من تصفهم بـ"المغامرين والمتهورين والطائشين" في العالم العربي، وتقصد بهم هذه المرة طبعاً حركة المقاومة الوطنية اللبنانية ممثلة بحزب الله ومناصريها في الشارع العربي. لنقرأ ما كتبه أحد "الواعظين":
"ما يقال اليوم من مديح وثناء لحزب الله قيل من قبله لصدام حسين الذي وجد نفسه في زاوية محاصراً بعد كل بيانات الشجاعة والتحدي والصمود والمظاهرات التي جابت القاهرة وعمان والدار البيضاء والجزائر وغيرها. أخيرا راح صدام ونسيه المتظاهرون الذين خرجوا للهتاف لضحية جديدة....الحياة لم تتغير كثيرا في الأزمات العربية بل تتكرر في صور مستنسخة عن بعضها من مظاهرات صدام إلى مظاهرات لبنان وبيانات التأييد الكلامية وصراخ المحرضين من وراء البحر.... أما الذين يصرخون داعين الى الحرب من لندن والدوحة والقاهرة وغيرها من عواصم الشجاعة الكلامية فإن تاريخ صراخهم وتحريضهم نرى نتائجه في العراق المدمر، ولبنان المدمر، وعسى ألا نراه غداً في أماكن أخرى".
لا شك أنه مطلوب منا أن نفهم من ذلك الكلام "الحكيم والعاقل" أعلاه أن أفضل طريقة للنجاة بجلودنا والحفاظ على أوطاننا من رجس المغول الجدد تكمن في أن نخرس تماماً، وأن نجلس متفرجين على هولاكو العصر وهو يعيد العراق إلى العصر الحجري، ولبنان إلى غياهب القرون الوسطى. كما يجب علينا أن نصطف مباشرة إلى جانب أمريكا وإسرائيل عندما تقرران استهداف بلد عربي معين ونتركهما يتوليان أمره بطريقتهما "الحضارية" المعهودة.هذه هي قمة الحكمة بالنسبة لصاحبنا وأمثاله أعلاه، الذين يريدون أن يقولوا لنا بعبارة أخرى، إن الذين لم ينساقوا وراء "المتهورين والمغامرين والغوغائيين" قد ربحوا المعركة في حرب الخليج الأخيرة ويربحونها الآن في حرب لبنان لأنهم اصطفوا إلى الجانب الصح! ويقصدون بالرابحين طبعاً الدول العربية الكبرى التي تقود النظام الرسمي العربي.
إذا كان أولئك يعتقدون أن بعض الذين "تعقــّلوا" وسهــّلوا مهمة غزو العراق وتحويله إلى ملل ونحل متصارعة وساهموا في إعادته إلى عصر ما قبل الدولة الوطنية وجردوه من تاريخه وآثاره وحضارته كانوا على حق، وأن الذين صرخوا في وجه الهمجية المغولية الجديدة على باطل، فهم يكونون بذلك يتذاكون بطريقة لا تبعث في النفس سوى القرف والغثيان. بالله عليكم هل الذين تظاهروا من أجل العراق ورفعوا أصواتهم عالياً ضد التتار الجدد هم الذين دمروا بلاد الرافدين وعاثوا فيها خراباً وفساداً وتدميراً، أم أولئك "الحكماء والمتعقلون" الذين لم ينساقوا وراء الشارع "الغوغائي" وما تسمونها بـ"عواصم الشجاعة الكلامية"؟ أرجوكم احترموا عقول الناس!
وإذا كنتم تعتقدون، كما تلمحون، بأن "الغوغائيين" سيخسرون المعركة ثانية هذه المرة في لبنان، كما خسروها من قبل في العراق، وبأن أولياءكم "الصالحين والراشدين" سيربحونها فأنتم واهمون أيضاً. فلا أدري كيف تقيسون الربح والخسارة. فإذا كنتم تقصدون أن ما وصل إليه العراق من تمزق واقتتال وعبثية وإرهاب ودمار هو النصر الذي تحقق للنظام العربي "الحكيم" الذي لم ينسق وراء ما تسمونه بـ"بيانات الشجاعة والتحدي والصمود والمظاهرات"، فلا أدري إذن ماذا تكون الفواجع والكوارث! ثم هل تعتقدون أن "العقلاء" انتصروا على القوى "المغامرة والطائشة" في العراق، أم أنهم استبدلوها بما هو أخطر بعشرات المرات؟ هل أصبح العراقيون إلى جانب الذين ساهموا في "تحريرهم" من العرب، أم انهم يتوعدونهم بالويل والثبور وعظائم الأمور عندما يحين الوقت؟
ثم بالله عليكم تريدوننا أن نصدق أن إسرائيل تدمر لبنان فوق رؤوس أهله لأن حزب الله استثارها وأسر جنديين من جنودها بتشجيع من بعض "الزعيـّقة" والحنجوريين وبائعي "بيانات التأييد الكلامية وصراخ المحرضين من وراء البحر"؟ يا الله كم انحدر الخطاب السياسي العربي وكم يريدنا أن ننحدر معه! إنها الشعوذة الإعلامية بذاتها. لكن، من حمد الله، لا أعتقد أن هناك عربياً بكامل عقله يمكن أن يعير مثل تلك الخزعبلات الصحفية أي اهتمام، هذا إذ لم يتف عليها، لأنها لا تناسب عصر العولمة الإعلامية بقدر ما تناسب عصور الظلام والسحر الأسود، خاصة عندما تهاجم العزة والكرامة الوطنية كما لو كانت شتيمة. لقد بات القارئ العربي يفسر"واقعيتكم" و"عقلانيتكم" على أنها تعني ضمناً التخاذل والهوان والانهزامية والتواطؤ.
صدقوني أن النظام الرسمي الذي تدافعون عنه وعن "حكمته ورشده" في مقابل تهور ورعونة "المغامرين" لم ولن يربح أي شيء، فهو أول الخاسرين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وليس عندي أدنى شك بأن الذين صمتوا عن غزو العراق وباركوه ودعموه إعلامياً ولوجستياً، بدل أن يصرخوا من أجله، كما يفعل الذين تنعتونهم أنتم بأصحاب الهتافات، يعرفون في أعماق أعماقهم أنهم لم ينتصروا، بل هـُزموا شر هزيمة. فغزو العراق فتح عليهم "صندوق باندوا" الملئ بأشياء وأمور رهيبة. فهل من النصر أن تصبح بعض البلدان المحيطة بالعراق مهددة بخطر الطائفية القاتل والتشرذم والتفكك والتقسيم؟ لماذا نسي الذين لم يهتفوا للـ"ضحية"،كما تسمونها، أن بلدانهم يمكن أن تكون على كف عفريت طائفياً فيما لو تفاقم الاقتتال الداخلي في العراق؟ لماذا نسيتم أن النظام العربي الرسمي الذي لم يتظاهر من أجل العراق ولم يلجأ إلى ما تسمونه أنتم بـ"بيانات التأييد والتصفيق الحار" ينطبق عليه المثل الشهير:"الصيت لأبي زيد والفعل لذياب"؟ من الذي قطف ثمرة "التعقل والحكمة" التي تبناها أولياء أموركم، أليس إيران؟ هل انتصر أولئك الذين لم يرفعوا أصواتهم عالياً من أجل العراق حقاً، أم أن خسارتهم لا تقدر بثمن؟ كأنك "يا بو زيد ما غزيت". ألم يتباك "حكماؤكم" الذين يشمئزون من "غوغائية" أصحاب الأصوات العالية على ضياع العراق وسقوطه في الحضن الفارسي، لكن بعد فوات الأوان، لا بل إنه فـُرض عليهم استقبال رجالات إيران في العراق بالأحضان ودعمهم بالغالي والرخيص؟
ماذا حققت لكم "العقلانية" و"الواقعية" بعد تدمير العراق سوى أن سادة النظام الرسمي العربي فقدوا القدرة حتى على مجرد الشكوى من التدخلات والضغوط الأمريكية على بلدانهم وأنظمتهم، وباتوا يستجيبون للأوامر والفرمانات القادمة من البيت الأبيض حتى قبل صدورها. وقد تهكم أحدهم على هذا الاستعجال العربي الفظيع في الاستجابة للإملاءات الأمريكية بنكتة تقول:"كان زعيم عربي يركض مسرعاً إلى قصره، فسألوه لماذا أنت في عجلة من أمرك، هل تنتظر أمراً من واشنطن، فقال: لا، لا، لكن ربما يأتي أمر." هل "الحكماء" العرب أقوى بعد سقوط العراق أم قبله؟ ألم تصبح حتى مناهجهم الدراسية ومواعظهم الدينية وخطب الجمعة تحت رحمة العم سام؟ ويسمونها حكمة وعقلانية!!!
وإذا كنتم تعتقدون أن النظام الرسمي العربي الذي تشيدون برويته وحسن تصرفه في مقابل "شوارعية" الذين يهتفون الآن للمقاومة الوطنية اللبنانية سينتصر مرة أخرى وستخيب آمال الذين يتعاطفون ويتضامنون مع حزب الله وسيعودون إلى بيوتهم خاليي الوفاض، فأنتم مخطئون جداً. صدقوني أن الذين يصفقون للمقاومة اللبنانية هذه المرة لا يبحثون عن "ضحية" جديدة، فهم الرابحون ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فعلى الأقل سيربحون كرامتهم، بينما خسر "المتروون" كراماتهم وأشياء أخرى كثيرة لا تعد ولا تحصى. لقد خسروا شر خسارة قبل أن تضع الحرب أوزارها في لبنان. وبما أنكم من أكبر دعاة "الديمقراطية" في المنطقة يا أصحاب المقالات "العقلانية"، لهذا أرجوكم أن تكونوا ديمقراطيين، ولو مرة واحدة وأن تعترفوا كيف أصبحت سمعة ذلك النظام الذي تحمونه بأقلامكم "عمـّال على بطـّال" في الشارع العربي بعد مواقفه "الحكيمة" السابقة واللاحقة. وأرجو أن توافقوني الرأي بأن الشارع هو الحكم في الديمقراطيات التي تعيّروننا بها ليل نهار، فلماذا لا يكون حكماً عندنا أيضاً، أم أنه في ديدنكم يصبح شعبوياً وغوغائياً عندما لا يتفق مع خطكم "الحكيم"؟
أين "الحكمة" في بعض المواقف العربية التي تدافعون عنها عندما تثني عليها إسرائيل وتعيد نشر مقالات المدافعين عنها في موقع وزارة خارجيتها على الانترنت؟ فإذا كان هذا هو النصر الذي تبحثون عنه، فمبروك عليكم هذا النصر المؤزر، ولا شك عندي أن مثل ذلك النصر قد يتحقق لكم ثانية في لبنان وغيره، وربما تعيروننا به قريباً، لكن بأي ثمن؟ فإذا كانت هذه هي الحكمة السياسية التي تتلحفون بها فهي إلى جهنم وبئس المصير، وإذا كان كل من يذود عن حمى وطنه ويرفع
صوته عالياً في وجه همج العصر غوغائياً ومغامراً، فطوبى للمغامرين والغوغائيين!!