أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
صخرة العاشقين ـ حكاية كنعانيّة

بقلم : رشاد أبوشاور ... 20.7.08

في زمن بعيد، حدث أن أسندت راعية رأسها إلى الصخرة الملساء، المستديرة، التي تبدو كأنها جسدان في جسد واحد، يلتفّ بغشاء أبيض شفيف الزرقة، في السهل المنبسط الممتدّ قرب ( بير زيت).
جفلت البنت الراعية، وهي تسمع دقات قلب في الصخرة، وإذ أبعدت رأسها خفت الصوت، فاعتبرت أن ما حدث مجرّد توّهم، ربما بتأثير نسمات الهواء المسائيّة التي بعثت في رأسها دبيب نعاس.
أعادت لصق رأسها بالصخرة، وأصاخت السمع، فارتفع وجيب منتظم. أبعدت رأسها، ووضعت يدها على صدرها، على الجانب الأيسر من صدرها، تحت ثديها المستدير الدافئ المتوثّب، فشعرت بنبض قلبها.
أمالت رأسها ببطء، وألصقت أذنها اليمنى بغلاف الصخرة الأملس وسحبت صفحة وجهها ببطء على بدن الصخرة، فسمعت ضربات منتظمة: بب بب بب بب...
يا إلهي، يا بعل، أهي واحدة من معجزاتك؟ كيف ينبض قلب الصخرة وهي صلدة، لا دم فيها، ولا لحم، ولا عظام؟! لمّا أسرّت للفتى عبد بعل، بسّر الصخرة، أدهشه الأمر، ودفعه للتأكد مّما أخبرته به، فوضع رأسه على الصخرة، التي كأنما يراها للمرّة الأولى، المستديرة في القاعدة، الرشيقة من المنتصف فما فوق، التي تبدو كأنما هي لجسدين اتحدا معا، أمالا رأسيهما متعانقين، غافلين عن الدنيا، مكسوين بغلالة زرقاء شفيفة.
نفض رأسه بسرعة مجفلاً. حدّق في عيني عناة، فرمشت مغوية، فأعاد تمرير أذنه على الجسد الأملس، ثمّ انتفض على عجل، وهو يتأمل وجهها: - هذه معجزة، أتعرفين: لقد سمعت عن الراعي والراعية، اللذين أحبّا بعضهما، وسألا الربّة عناة أن تحيلهما معا جسدا واحدا لا يموت. هذان هما، وهذه الحجارة، الصخور الصغيرة الجاثية في هذا الحقل الممتدّ هي نعاجهما، وخرافهما، وجداؤهما...
اقترب منها، أمسك بيديها: - عناة حبيبتي، تعالي...
مشت عناة منومة مسحورة بولهه، بعينيه السوداوين الفسيحتين. جلسا معا لصق الصخرة، قال لها: - هيّا نسأل هذين العاشقين المباركين أن يبقيانا معا...
همست له: - ولكنني لا أريد أن نتحول إلى صخرة...
- لا، نريد أن نبقى معا، ويتكاثر قطيعانا، وننجب أولادا وبناتا...
- بعدد قطيعينا! - يا عناة الغالية! وكيف نربيهم، ومن أين نطعمهم، وكيف سنخلو بنفسينا معا! اشتبكت أذرعتهما، تعانقا بعمق،وقد تداخل جسداهما، ونبض قلبيهما. كباشهما ونعاجهما تمددت في حقل الحجارة، في رطوبة المساء، تمضغ بكسل بقايا طعام بين أشداقها.
العاشقان أفشيا سّر الصخرة، وما هو إلاّ وقت قصير حتى باتت مزارا، يتسلل إليها الفتية والفتيات العشّاق، ويدهنونها بالزيت، ويطيبونها بالعطور، ويسألون الربّة عناة أن تجعلهما من نصيب بعضهما، فلا يفرّق بينهما الموت، أو ما تخفيه الأيّام من نوازل.
لو تصادف وزرت بيرزيت، وغادرتها متجها شمالاً، فستمّر على جسر صغير، اشتهر بأنه شهد معركة مع اليهود والإنكليز...
بعد الجسر ينفسح حقل الرعاة، وتنهض على حافة الطريق الترابي صخرة العاشقين، المطيّبة بالزيت والعطور، والتي تتبارك بها راحات عشّاق صغار.
لمّا دارت المعركة مع الإنكليز، احتمى بعض المقاتلين الفلسطينيين بين الحجارة المغروسة في التراب، والتي تبدو كما لو أنها خراف ونعاج وجداء استحالت حجارة قبل مئات السنين...
تمكن الفلسطينيّون من مباغتة أعدائهم، واسقطوا عددا منهم قتلى وجرحى...
لما انسحب الإنكليز واليهود، أخذ الفلسطينيون يتفقدون شهداءهم وجرحاهم، وقد أدهشهم أن صخرة العاشقين مبللة الخاصرة بالدم ! وقفوا يتأملون ما يرونه بصمت جليل. فكّ أحدهم كوفيته وجعلها ضمادةً حول خاصرة الصخرة، وإذ حملوا جرحاهم، وشهداءهم، واتجهوا إلى بيرزيت، هيئ لهم مع هبوط المساء،أنهم يرون شابا وفتاة ينبثقان من الصخرة، وفوق رأسيهما معلقّة في الفضاء، حربة تلتمع...
همس أحد المقاتلين لرفيقه: - إنها حربة الربّة (عناة)، حارسة العشّاق والمحبين، وربّة الخصب، والحرب...
سأله رفيقه بدهشة: - أتؤمن بهذا! استدار رفيقه، وتأمّل بانبهار ما يرى: - إن كنّا لا نؤمن بأسرار أرضنا، فكيف سنحمي صخرة العاشقين؟! مع هبوط المساء، عمّ الصمت، وقفل الرجال عائدين إلى (بيرزيت) وهم يحملون شهداءهم وجرحاهم، ولولا أن الحجارة التي تشبه قطيعا حمتهم من رصاص الإنكليز واليهود الغزير، وصخرة العاشقين أنقذت من احتموا بها، وأطلقوا نيرانهم من حواليها، لكانت خسائرهم فادحة...