بقلم : د.فيصل القاسم ... 11.8.08
ليس هناك أدنى شك أن الجهاد من أجل تحرير الأوطان من ربقة الغزاة والمحتلين والطواغيت والظالمين شرف لا يضاهيه شرف. وقد سطــّر التاريخ أسماء المجاهدين الذين قادوا الثورات ضد المستعمرين بأحرف من ذهب. وقد كرّم الإسلام الجهاد، ورفع من شأنه بأن جعله فريضة يتباهى بها كل من أداها. ونظراً لأهمية الجهاد في الثقافة الإسلامية وطيب سمعته يطلق ملايين المسلمين على أولادهم اسم "جهاد" تيمناً. لكن، كما تمت المتاجرة بالكثير من المشاعر الإسلامية الطيبة، فقد غدا الجهاد في عصرنا هذا مرادفاً إما للتكسب المادي إذا كان الوكيل الجهادي راضياً عن "مجاهديه"، أو مرادفاً للإرهاب إذا كان الوكيل ساخطاً. وبالتالي فقد حان الوقت لوضع النقاط على الحروف.
الكثيرون مثلاً لاموا زعماء الدول الأعضاء في "منظمة المؤتمر الإسلامي" على إلغائهم رسمياً فريضة الجهاد من العمل الإسلامي في مؤتمر داكار بالسنغال. حتى إن البعض اعتبرهم وقتها "منبطحين ومستسلمين". لكن لو نظرنا إلى قضية إلغاء مفهوم الجهاد من زاوية أخرى، لوجدنا أن الزعماء المسلمين أحسنوا صنعاً. كيف لا وقد غدا الجهاد في الربع الأخير من القرن العشرين ألعوبة في أيدي بعض القوى التي سخرته لأغراض سياسية دنيئة لا علاقة لها أبداً بتلك الفريضة الإسلامية السامية. هل يستطيع أحد أن ينكر أن الجهاد أصبح منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان أشبه بحروب المرتزقة؟ فمن المعلوم أن "المجاهدين" الأفغان لم يجاهدوا بأي حال من الأحوال لتحرير بلدهم من ربقة المحتل السوفياتي، بقدر ما كانوا ينفذون مهمة عسكرية (دون أن يدروا) نيابة عن الذين كانوا يمولونهم، ويزودونهم بالعتاد، وعلى رأس هؤلاء كانت تقف وكالة الاستخبارات الأمريكية وبعض الدول العربية التي دفعت أكثر من اثنين وعشرين مليار دولار كأتعاب لـ "المجاهدين"، لا لتحرير أفغانستان طبعاً، بل لدحر السوفيات الذين كانوا يشكلون باحتلالهم لأفغانستان خطراً على المصالح الأمريكية في المنطقة، وخاصة على الطرق المؤدية إلى نفط بحر قزوين. ناهيك عن أن الأمريكيين"محرري أفغانستان" المزعومين عادوا، واحتلوا البلاد بعد خروج المحتل الروسي تحت مزاعم لا تنطلي حتى على تلاميذ المدارس. وأتذكر أنني تعرفت على طبيب أفغاني في لندن كان متعاطفاً مع "المجاهدين" ورعاتهم الأمريكان. وكان الدكتور "أكبر" يتغنى كل مساء بمآثر المجاهدين الذين ـ حسب رأيه ـ كانوا " يمرغون أنف المحتل السوفياتي بالتراب". لكن بعد سنوات قابلت الدكتور "أكبر" مرة أخرى، وسمعته يلعن الساعة التي هلل فيها لـ"المجاهدين" وكل من ساندهم. وبما أن العملية بأكملها لم تكن جهاداً، بل مجرد حرب مدفوعة الثمن، أو بالأحرى حرب بالوكالة “war by proxy” لصالح جهات خارجية، انتهى الجهاد الأفغاني إلى حرب عصابات بين "المجاهدين" الذين حولوا البلاد إلى مسرح للاقتتال الداخلي على الغنائم. وقد عانت أفغانستان بعد خروج الغازي السوفياتي على أيدي "المجاهدين" أكثر مما عانت أيام الاحتلال. فلو كان "المجاهدون" يجاهدون فعلاً من أجل بلدهم لنهضت أفغانستان بعد التحرير. غير أن العكس قد حصل. لكن بعض "المجاهدين" العرب لم يعوا الدرس الأفغاني تماماً، فراحوا يكررون الخطأ نفسه. ومع الاحترام لكل الحركات "الجهادية" التي تملأ الساحة ضجيجاً منذ العقدين الماضيين من القرن الماضي، فإنها تحاكي النموذج الأفغاني، حتى لو اختلفت الطرق والأساليب والداعمون. وأتحدى أي حركة مقاومة استطاعت أن تحرر بلدها منذ حرب فيتنام من دون أن تكون مدعومة من جهات لها مصلحة في مساندتها.
فلولا الدعم السوفياتي والصيني لفيتنام نكاية بالأمريكيين لما نجحت حركة المقاومة الفيتنامية. فليس هناك دعم للمقاومة لوجه الله في أي مكان من العالم. كله بحساب. وما ينطبق على المقاومة الفيتنامية ينسحب على الحركات "الجهادية" في أي مكان كان. وفي اللحظة التي تسحب فيها الجهات الداعمة دعمها لهذه الحركة أو تلك، لا شك أن الكثير من الأمور ستتغير، حتى لو كانت تلك الحركات في جوهرها حركات مقاومة أصيلة ولديها مشاريع تحرير حقيقية. لنكن صريحين: ألا تخدم الكثير من الحركات "الجهادية" العربية أجندات خارجية لا تخفى على أحد؟ هل كان لتلك الحركات أن تزدهر وتتصاعد لولا أن هناك أيادي خارجية تمدها بالدعم المالي والإعلامي والمعنوي؟ هل أخطأ أحد الساخرين عندما قال: إن العرب نوعان، الأول "يناضل" نيابة عن المشروع الأمريكي، والثاني نيابة عن القوى الأجنبية المعادية للمشروع الأمريكي؟ أي أننا مجرد أدوات لا أكثر ولا أقل، حتى لو صدم هذا الكلام بعض المكابرين. لا أعتقد أن هناك مشروعاً جهادياً عربياً خالصاً حتى الآن، بل مجرد "جهاد بالوكالة". لقد ظن الكثيرون، وكل الظن إثم هنا، أن هناك حركات "جهادية" في العراق مثلاً، ثم تبين لنا أن معظمها مخترقة من العديد من أجهزة المخابرات العربية والدولية. وكل واحدة منها تعمل بمقدار. ولعل أكثر ما يثير السخرية وربما الضحك أن بعض تلك الحركات تعمل بتوجيهات مباشرة أو غير مباشرة من أنظمة لا تطيق سماع كلمة "إسلاميين"، مع ذلك فقد اقتضت الضرورات إباحة المحظورات لغايات لا علاقة لها أبداً بـ"الجهاد". (ما حدا أحسن من حدا)، فقد استوت الأنظمة الإسلاماوية مع الأنظمة العلمانية في المتاجرة بـ"الجهاديين". فبما أن "الجهاد" أصبح سلعة فلا بأس أن يشتريها ويبيعها الجميع على مختلف مشاربهم. ربما استفاد المتاجرون الجدد من أولئك الذين تاجروا بـ"المجاهدين" في أفغانستان. قد يقول البعض إن المتاجرة بـ"المجاهدين" لعبة خطيرة قد تنقلب على المتاجرين بها وبالاً، كما حدث للأمريكيين وأعوانهم من جراء ظاهرة "الأفغان العرب" وما تلاهم من منظمات "إرهابية" حسب التوصيف الأمريكي. فقد شعر المجاهدون الذين أبلوا بلاء حسناً في الحرب ضد السوفيات بأنهم كانوا مجرد بيادق في أيدي أمريكا وبعض الدول العربية، فثأروا لأنفسهم بأكثر من طريقة هزت الجميع. لكن مستشار الأمن القومي الأمريكي الشهير بريجنسكي كان أفضل من وازن بين المتاجرة بـ"المجاهدين" والأهداف الاستراتيجية التي حققها الأمريكيون من وراء ذلك. فعندما سألوه ذات مرة: "ألا تندم أمريكا على دعمها ومساندتها لإسلاميي أفغانستان وإخوانهم العرب، بدليل أن الأمريكيين فرّخوا حركات مضادة لهم في المنطقة"، فأجاب بريجنسكي قائلاً: "أيهما أهم ظهور جماعات إسلامية بسيطة، أم التخلص من الامبراطورية السوفياتية؟" بعبارة أخرى فإن بمقدور الأمريكيين تحمل نتائج تلاعبهم بـ"المجاهدين" مقابل القضاء على عدوهم التاريخي الاتحاد السوفياتي الذي كان غزوه لأفغانستان، ومن ثم طرده منها على أيدي "المجاهدين" ووكلائهم الأمريكيين القشة التي أودت بالاتحاد السوفياتي إلى غير رجعة. وما ينطبق على أمريكا ينسحب على الجهات الأخرى التي تاجرت بـ"المجاهدين" في العراق وغيره. لا بل إن بعض العرب تفوقوا على الأمريكيين في التخلص من قادة "مجاهديهم" بعد أن تكون قد انتهت مهمتهم.
هل بعد كل ذلك ما يزال جهاد في سبيل الله والأوطان، أم إنه "جهاد في المزاد"؟