بقلم : فارس العيادي ... 27.03.2009
قررت ان اكتب الان قبل ان تتلاشى قواي تماما واسقط صريعا في غيابة بئر عميقة لا قرار لها...يوم مرير اخر مر علي في غياهب المدرسة, لكم اكره ذلك المكان القاتم السواد ذلك الجب المغلق, تلك الزنزانة المنفردة, محكمة الاغلاق . الحصة الاخيرة كانت بائسة الى ابعد الحدود. اثناءها شعرت بدوخة.. لا ارى احدا من الاولاد. لا اميز بين هيئاتهم . نسيت اسماءهم. انمحت ذاكرتي تماما. اضحت الوجوه الصغيرة والخبيثة سيان. كان المشترك بينها النيل مني وانتهاك سلطتي المتهاوية.. انتظر قرع الجرس. اتنفس بعمق , اشعر بالقرف من هذه المهنة. التي ما وجدت الا لتحقير صاحبها في اعين الشياطين الصغار, اولئك المتامرين على مدرس غلبان مهدود الحال, يرقص على الحلبة كطائر ذبيح . هل سيقرع جرس النهاية قبل ان اخوض اي عراك او مواجهة مع احدهم او احداهن اه... ان كيدهن عظيم!!.
لا بد من المواجهة.مع الطلاب والصراخ والغضب والتهديد والوعيد وفي النهاية.. كظم الغيظ.. اي ابتلاع المهانة والسكوت, سكوتي انا, انا المعلم طبعا .. على اثر المواجهات المدمية لروحي اولا اشعر بالحنق والحزن والوجع اللذيذ .. التماهي والانصهار مع الشقاء الابدي, الذي لا خلاص منه . انهار تماما تتضاءل معالم الاشياء في عيني. لا ارى شيئا انوء تحت حمل ثقيل. الى متى سارزح تحت هذا العذاب, ذاك التراجع القهقري, الموت البطيء. ان اكون مدرسا للصبيان؟.
قرع الجرس. انطلق الطلاب الى امكنتهم. لملمت حطام كرامتي التي مرغت في الوحل منذ ان وطأت قدماي المدرسة قبل عقد من الزمان. كان يوم اسودا.
دخلت الى داري . نفضت غبار التعب والارهاق عن وجهي وملابسي, اكلت طعام الغداء. واستسلمت لحمام دافىء لعله يغسل عني وجع الروح والامها اللا متناهية..
فحصت بريدي الالكتروني لا جديد سوى رسالة مقتضبة من المحاضرة المشرفة على رسالة الماجستير. علي الاسراع في الكتابة....
ابحث عن الراحة. او القليل منها. القيت بنفسي على السرير. نمت اكثر من ساعة. اين انا؟ سالت نفسي بعد ان نهضت من الفراش, اثناء النوم, ابتعدت كثيرا عن الكوكب الارضي. اه انه الارهاق والتعب النفسي... يمزقان نفسي.. لجات الى جهاز الحاسوب .. باحثا عن الاخبار في الشبكة الدولية. لا جديد . تكرار لمقولات تافهة واخبار عادية نتناولها مع فنجان القهوة كل صباح وكل مساء. قتيل في حادث طرق, صاروخ غراد يسقط في بحر غزة. فيديو "كلب" جديد يكسر السوق ويجنن الصبايا والشباب.
بعد الغروب خرجت من الدار لاتمشى واروح عن نفسي او كما يقال... تجولت في الحواري المقفرة. والازقة المظلمة. استمرت جولتي الليلية اكثر من ساعة. مزيد من التجهم والياس والقنوط. اطفال حفاة يمشون فوق عري الاسفلت البارد ليلا. يصرخون, يتشاتمون ويسبون اعراض اخوات بعضهم البعض, انزوى احدهم يقضي حاجته بمحاذاة الشارع وسط صخب رفاقه. بعض الدكاكين ما زالت مفتوحة الابواب. الصبية يتكاثرون في الشارع. ينادون علي, يرمونني بوابل من الشتائم اتجاهلهم وامشي مطاطا الراس. اتامل معالم البلدة الصغيرة. التي بدات تتوارى وراء ستار كثيف من الظلام. مزيد من الشتائم, ازداد عيار قبحها هذه المرة. اعود ادراجي. اجلس قبالة داري ادخن سيجارة .انظر الى بيت الجيران, تظهر سلمى بنت الجيران على الشباك, مفاتنها ظاهرة للعيان في الغرفة المنارة. مشهد جدير بالاهتمام. اقبع مكاني ولا ابدي حراكا!!