أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
كيف تصنع وسائل التجميل والإعلام من القرد غزالاً !

بقلم : د. فيصل القاسم  ... 1.9.08

لو كنت مكان فنانات هذا العصر لركعت، وسجدت، وصليت ليل نهار للتكنولوجيا الحديثة من أدوات ومواد التجميل، وبرامج الكمبيوتر، وكاميرات التصوير، وأجهزة العرض والإضاءة، وشاشات التلفزيون. فقد استطاعت تلك الوسائل أن تحوّل القردة إلى غزلان من الناحية الجمالية. وأنا لا أتحدث هنا عن عمليات التجميل الجراحية، فهي عمليات قد تكون مطلوبة أحياناً، طالما أنها تحسّن الشكل فعلاً، وترضي النفوس، كما في عمليات تصغير الأنوف، وشد الوجوه، وشفط الدهون، وتصحيح الأوراك. إنما أتحدث هنا عن خداع الصورة، إما بتحسينها فنياً عبر برامج أجهزة العرض والخداع التلفزيونية الحديثة، أو برامج "الفوتو شوب" الكمبيوترية وغيرها، التي تخدعنا، وتحوّل الوجوه المليئة بالمطبات والحفر إلى بشرة تبدو حريرية، إن لم نقل أكثر صفاء ونقاء من بشرات الأطفال، ناهيك عن أنها تضفي عليها مسحة جمالية كاذبة وخادعة، فتظهر الفتيات من فنانات وغيرهن في الصور الفوتوغرافية على أغلفة المجلات، أو على شاشات التلفزيون على أنهن من طراز جمالي خاص ينافس جمال الملائكة، بينما هو في الواقع جمال مصطنع، ومغشوش، وملعوب فيه، ولا يمت للحقيقة بصلة، إن لم نقل ضحكاً على الوجوه.
لا شك أن الكثير منا يحسد هذه الفتاة أو تلك من فنانات ومطربات وغيرهن على طلتهن البهية الخلابة على صفحات المجلات، أو شاشات الفضائيات. ولا شك أن البعض يقع في غرام الكثير من أولئك "الحسناوات" الاصطناعيات عن بعد، ظناً منه أنهن غاية في الجمال وحسن الطلعة، خاصة وأنهن يظهرن بوجوه لامعة براقة لا يعكر صفوها شائبة واحدة، أو حتى نمشة خجولة، علماً أن تلك الوجوه تكون قد خضعت قبل الظهور في وسائل الإعلام من مجلات وشاشات، إلى طلاء كثيف من معاجين التجميل البيضاء التي بإمكانها أن تحوّل وجه الأحجار البركانية المستخدمة عادة لتنظيف القدم والرجل إلى أحجار صوانية من حيث الشكل والملمس الناعم والبراق، أي تغطي كل ثغراتها وثقوبها وتعرجاتها وعيوبها المختلفة. ثم يأتي دور برامج التنقية الكمبيوترية إذا كانت الصورة معدة للعرض في الصحافة، فتزيل من الوجه أي عيب، حتى لو كان بحجم الذرة، ناهيك عن أنها تضفي على الصورة لمسات جمالية لا وجود لها البتة في الحقيقة، فتظهر الشفاه ممتلئة بلون حبات الكرز المشهية جداً، مع العلم أنها قد تكون في الواقع أشبه "ببراطم" السمكة، وتظهر العيون وكأنها عيون المها، إن لم نقل أجمل، فعيون المها المسكينة التي طالما تغنى الشعراء بجمالها ووسعها، كانت دائماً من لون واحد، أما العيون الاصطناعية الحديثة هذه الأيام فهي بكل الألوان والأشكال، وتظهر الخدود مكتنزة كما لو كانت من نحت مايكل أنجيلو.
أما إذا كان العرض معداً للشاشة، فيأتي دور تقنيات التجميل المرئية من إضاءة وتحسينات جمالية وغيرها، فنحصل على صورة لا تقل "جمالاً" عن جمال "الفوتوشوب" المفبرك، ناهيك عن أن التلفزيون يصنع من القطة زرافة أحياناً، فتظهر بعض الفنانات وغيرهن على الشاشة باسقات كالنخلة، وكأنهن ذات قد مياس ومفاتن لم يرها رجل في حياته، مع العلم أنهن في الحقيقة أنصاف نساء من حيث القد. وكم أضحك أحياناً وأنا أشاهد هذه المطربة أو تلك وهي تعرض مفاتنها، وتتغنج، وتتمايل على شاشات التلفزيون، مع أنها معروفة في الحقيقة بأنها من جماعة "شبر ونص"، أي أن طولها لا يزيد على مائة وخمسين سنتيمتراً، ولا تمتلك حتى مفاتن فتاة عادية جداً، لكن الكاميرا تأخذ لها لقطات في "الفيديو كليب" تظهرها بأنها فاتنة زمانها.
ولو ظهرت بعض اللواتي يحتللن صهوة الشاشة وصفحات المجلات في مكان عام من دون الأضواء والمكياج المهول الذي يطلونها به قبل التصوير لما عرفها أحد، خاصة وأن الفرق بين صورة الشاشة والصورة الحقيقية كالفرق بين الثريا والثرى. وكم ظهر بعضهن في الشارع دون أن يلتفت إليهن أحد، خاصة إذا كانت ترتدي نظارة سوداء تخفي عيونها المتعبة من فراشي "المسكرة". وبالمناسبة كلمة "مسكرة" التي يستخدمونها في تجميل العيون مأخوذة من كلمة "مسخرة" العربية، حيث كان المهرجون يضعون على وجوههم وعيونهم مادة سوداء مضحكة تجعلهم يبدون هزليين ومضحكين للجمهور.
وقد حدثني أحدهم أنه حاول ذات مرة أن يلتقط صورة لفنانة عربية في الشارع بعد أن أوشى بها له أحد الذين يعرفونها، فثارت ثائرتها، وأطلقت عليه وابلاً من الشتائم، ليس لأنها لا تحب التصوير، بل لأنه لو صورها في تلك الأثناء لما استطاع أحد أن يتعرف عليها، لأنها كانت تختلف عن الصورة التي تظهر فيها في وسائل الإعلام مائة وثمانين درجة. أي أن الصور الجميلة التي تتحفنا بها المجلات والتلفزيونات هي للاستهلاك الإعلامي فقط، بينما الواقع شيء آخر تماماً.
وأتذكر أن أحد الشبان كان يعشق إحدى اللواتي يظهرن على شاشات السينما والفضائيات، فكتب فيها شعراً على طريقة مجنون وضحى، وكان ينتظر على أحر من الجمر كي يقابلها ذات يوم كي يسلم عليها لا أكثر ولا أقل. وذات يوم جاءت ساعة السعد، أو بالأحرى ساعة النحس، فشاهد معشوقته على أرض الواقع، لكنه لم يصدق عينيه عندما رآها، فقد كانت فتاة أقل من عادية، لا بل إنه قال بعدها إنه لو شاهدها في الشارع، ولم يعلم أنها تلك "الشاشية" الفاتنة، لما نظر إليها نظرة واحدة، فلعن الساعة التي تعلق فيها بتلك الصورة المزيفة.
فإذا كنت عزيزي القارئ تموت في دباديب بعض اللواتي تشاهدهن يتمايلن ويتغنجن ويتدلعن على شاشة التلفزيون، وتعتقد أنهن أقمار زمانهن، فكر ثانية كي لا تصاب بصدمة كبرى وخيبة أمل مجلجلة عندما ترى الصورة الحقيقية.