أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
يجوز التطهر بلهيب غزة !

بقلم : د. فايز أبو شمالة ... 22.03.2009

خدشت غزة وجه الصمت العربي عندما اشتعلت فيها النار، فلم تعد تلك الطفلة المهملة، متسخة الثياب، فقد عرفت كيف تصير النجمة في الحرب، وكيف تصير الغيمة، والقطرة والإعصار، وتصير بذائقة الزيتون، وتوقد قلب العشاق، وتفيض عليهم بالأشعار، لقد مست نار غزة برد التأمل، والأحلام لدى شعراء العرب، فجعلوا منها أسطورة، وجعلت غزة 284 شاعراً عربياً يبتدعون لهيئتها أركان الصورة، بعضهم من كبار الشعراء، ومن الأكاديميين، وأستاذة الجامعات، والمثقفين، لقد نفضت غزة الوجدان العربي الحائر، فأنطقت الشعراء لأكثر من 340 قصيدة، وآلاف الصفحات المتدفقة بالحب العربي يقوم بجمعها، وإعدادها للدراسة الدكتور موسى أبو دقة من جامعة الأقصى، وهو يعرف أن غزة ليست إلا دم طفلة تحترق جدائلها بالنار، وما غزة إلا مدرسةً تتخطى زرقتها الأزهار.
افتتن الشعراء العرب بغزة، سرحوا شعرها، وضموها إلى صدورهم، تعشقوها قبل أن يقبلوها، وهمسوا في أذنها، فتنهدت غزة بالدم يسيل على خد أحلامها، ويبصق في وجوه المنتظرين، والشامتين، والمتخاذلين، والمتآمرين، فلن تموت غزة كمداً، ولكنها ستحرركم غزة من ضعف أنفسكم، وخوفكم على أيامكم الملطخة بالسواد، لن تضحك غزة في وجوهكم، ولن تغفر لكم خطيئتكم، ولكن غزة تحتفظ لكم بكرامتكم تستنهض معها الأجيال.
ما يلفت في مبادرة الدكتور موسى أبو دقة أنه يقوم بتوثيق الشعر الذي عبر عن المرحلة الفلسطينية المقاومة للعدوان، وقد توجه بدعوة عامة لكل الشعراء العرب الذين كتبوا عن غزة، لجمع ديوان شعر "من أجلك يا غزة" وكانت الاستجابة واسعة من عشرات الشعراء في الوطن العربي، ولكن ما يجب التوقف عنده؛ أن كل بلاد العرب دون استثناء كتبت، وعبرت، وفاض وجدانها شعراً لغزة، وفي هذا الاستفتاء جواب لكل المتخاذلين.
بعد أن يخلص الباحث من جمع القصائد، سيقوم مع لجنة مشكلة لهذا الغرض بفرزها، وتنقيحها، وتنقيتها مما يتعارض مع الأخلاقيات العربية، والدين، وسيختار لوحات فنية معبرة عن الديوان، قبل طباعته، ونشره، ومن ثم توزيعه على الجامعات العربية كوثيقة أدبية عن حرب غزة، تشد الدارسين، وتشجع الباحثين، على أمل أن تخصص جوائز لأفضل بحث، أو دراسة فنية على المجموعة الشعرية.
ما يميز غزة عن مدن العرب أنها لا تمتلك أسلحة حديثة، لا طائرات لغزة، ولا دبابات، وفي غزة المقاومة ليس عملاً وظيفياً، والخدمة العسكرية فيها ليست إلزامية، والتجنيد ليس إجبارياً، والميزانية لا تشتمل بند مقاومة، غزة تختار ثوبها المقاوم من عشاق الحياة، لأن غزة لا تحب الموت، وتكره لون الدم، وتنفر من رائحة الشواء، ولا تعشق غزة الفضائيات، ولكنها صارت المعشوقة رغم عدم استعدادها للتصوير، فلم تأخذ غزة زينتها، ولم ترتش بالعطر، حنّت غزة كفيها، وتكحلت بالصبر، ولم تصمت، صهلت كفرس عربية ضاقت عليها المراعي، وطاردتها خيول الأعداء، صهلت غزة وهي تركب موج البحر الذي رفض ابتلاعها وفق مشيئة أسحق رابين، ليقذفها البحر من جديد خنجراً في حلق الأعداء، ومشهداً إنسانياً تتلقفه الفضائيات في زمن الأرصدة والحسابات.
إنها غزة التي لا تبيع الشعر، ولا تنطق كلاماً مألوفاً، غزة التي تنز آهاتها كل مساء، وتنزف الحب، وتعزف اللحن من مسامات جلدها المتشوق لكرامة العرب، غزة التي قال عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش قبل الحرب الأخيرة عليها: ليست غزة أجمل المدن، وليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية‏‏، وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض، وليست غزة أغنى المدن، وليست أرقى المدن، وليست أكبر المدن. ولكنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحا في عيون الأعداء، وفقرا وبؤسا وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب.