بقلم : د.خالد الحروب ... 29.04.2009
مقابل قصر توسكان العريق على قمة الجبل المرتفع الذي يُطل على نهر فالتافا المتمدد بتكسل في وسط بديع جمال براغ تنتصب إحدى أكبر "قلاع" أوروبا, وفي قلبها الكاتدرائية الكاثوليكية التاريخية الطالعة من القرن العاشر الميلادي. مجموعة القصور والبنايات القديمة وحتى القصر الخاص المملوك حتى الآن من قبل سلالة لوبدكوفيتش تسمى "القلعة", وهي تمثل تاريخياً مقر الحكم والسيطرة في بلاد التشيك. في "القلعة" أقام ملوك وأباطرة عائلات أوروبا الأرستقراطية, وفيها كان لآل هابسبورغ مجد تليد. من القلعة أو حولها أنطلقت شرارة حرب الثلاثين عاما الدينية في الربع الأول من القرن التاسع عشر بين الكاثوليك والمدافعين عن الكنيسة ضد تمرد الهرطقات الجديدة التي ستعرف من ذلك التاريخ فلاحقا بالحركة البروتستانتينية, وانتشرت في طول وعرض أوروبا. انتهت تلك الصراعات التي تعتبر المؤسسة لمبدأ "الدولة القومية" بتوقيع معاهدة "سلم وستفاليا" عام 1648, وفيها تم إقرار مبدأ "السيادة" حيث يتدخل الأباطرة والبابوات سواء باستخدام سلطات امبرطورية أو دينية في شؤون الإمارات والدول المتشكلة.
براغ خصوصاً و"التشيك" عموماً ترفل بتاريخ ثري ما كان له إلا أن يتواصل ثراء وتعقيدا ... ودماً في القرن العشرين. في وسط شرق أوروبا إبان اندلاع حروبها الدموية كانت التشيك أول مطامع هتلر التي احتلها في بدايات توسعه النازي, وقاد ذلك الاحتلال الطويل, لغرابة الظروف, إلى حماية المدينة من الدمار الذي هطل على معظم ما شابهها من مدن أوروبية. بعد الحقبة النازية حررها السوفيات وأقاموا في "قلعتها" نظاماً تابعاً للكتلة الشرقية, عُرف بالقسوة والشمولية التي عُرفت بها بقية أنظمة تلك المنظومة, ودام طيلة حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في ربيع 1968 ثار طلاب الحرية على "نظام القلعة" الحديدي, وكادوا يقلبونه لولا تدخل الدبابات السوفياتية التي أنهت تلك الثورة بالحديد والنار. بعد ذلك بعشرين عاماً كانت تلك الدبابات تحيط بالكرملين نفسه وسط موسكو تراقب سقوط الامبرطورية السوفياتية ولا تأبه لربيع براغ آخر يحدث في كل عواصم الكتلة الشرقية. في أواخر ديسمبر 1989 كان فاكلاف هافل, الكاتب المسرحي التشيكي الشهير والذي صار أحد رموز الثورة على النظام الشمولي, يضع قدمه في "القلعة" التي تطل على كل جهات المدينة لتبدأ صناعة فصل جديد من تاريخ "التشيك" السياسي عنوانه الحرية.
"الحرية" هي القيمة الأغلى والأهم في كل مشروع الحداثة الأوروبي. هي كلمة السر التي رددتها ثورات وتمردات داخل القارة ضد استبدادات الإقطاع والملوك, الكنيسة والباباوات. شعار الاستنارة الإنسانية الذي أبدعته أوروبا صار حرية الفرد والجماعة, حرية الفكر والدين, حرية السياسة والاجتماع, حرية الإعلام والعقل. قيمة وممارسة "الحرية" هي المساهمة المشرقة والعنوان الأبرز لذلك المشروع. بيد أن المشروع الحداثوي الأوروبي نفسه امتهن تلك القيمة الأثيرة, "الحرية", واسترذلها وأهانها خارج الفضاء الأوروبي. خلال وإبان وبعد الحروب الأوروبية الداخلية الدامية التي أرادت ترتيب جدول القيم, والولاءات, والسيادات, وتحجيم أمدية التدخلات, وتوسيع نطاقات الثروات, كانت أوروبا تطلق جنيّ الاستعمار والإمبريالية متأسساً على كل القيم المضادة للحرية. على مدار قرنين من الزمان وبالتوازي مع ترسخ قيم الحرية أوروبياً ترسخت قيم استعباد الشعوب الأخرى واستعمارها, وانشق المشروع الحداثوي والاستناري الكبير إلى ثنائية تضادية ما زال تناقضها الداخلي يقسم العالم والبشر في تعقل وإدراك المشروع المركب الذي يساند الحرية وأعداءها.
حتى هذه اللحظة, وحيث تطل قاعة ممتدة في قصر توسكان الذي يحتضن وزارة الخارجية التشيكية والتي انشغلت مكثفاً خلال الأشهر الستة السابقة بتسلم جمهورية التشيك رئاسة الاتحاد الأوروبي, تطرح أوروبا مشروعها القيمي بيد, وتصفعه باليد الأخرى. في الندوة التي استضافتها هذه القاعة الطويلة كان هناك نقاش عن مستقبل فلسطين بعد حرب غزة. فلسطين هي الاختبار الأهم والأكبر والأدق لمجموعة القيم الأوروبية التي حاربت هذه القارة طويلاً كي تكرسها, لكنها فشلت في اجتيازه. كارثة فلسطين ومأساتها ومأساة تشرد شعبها هي أوروبية الجذر, و"ضمير أوروبا" الأخلاقي الذي تعذب وما زال جراء ما اقترفته القارة وأنظمتها وحتى شعوبها تجاه يهودها, يصيبه تكلس مخجل عند مواجهته بما اقترفته القارة وأنظمتها تجاه فلسطين وشعبها. خلال حرب غزة انحط الاتحاد الأوروبي مستويات إضافية تحت مستوى الانحطاط الأخلاقي المعروف لسياسته تجاه فلسطين. قبيل الحرب بشهرين أو أقل كانت مؤسسات الاتحاد الأوروبي ترفع مستوى العلاقة مع إسرائيل, وتمنحها ميزات تجارية إضافية أصبحت من خلالها الصادرات الإسرائيلية تدخل إلى دول الاتحاد وقد أزيلت من وجهها ما نسبته 95 % من العوائق الضريبية. بعيد الحرب بقليل, أي في شباط 2009, كان البرلمان الأوروبي يصادق على معاهدة الملاحة الجوية مع إسرائيل وهي ترفع أيضا من مستوى العلاقة والميزات التي تتمتع بها الدولة المحتلة والباطشة. إسرائيل هي الدولة التي تتمتع بأكثر الامتيازات سواء التجارية, أو الدبلوماسية, أو الأمنية, أو التعليمية, أو العلمية مع الاتحاد الأوروبي, ولا ينافسها في ذلك أي دولة غير عضو في الاتحاد. هذا فضلا عن العلاقات المتميزة على المستوى الثنائي بين إسرائيل وكل دول الاتحاد التي قادها المندوب الإسرائيلي كقطيع مطيع إلى خارج قاعة مؤتمر العنصرية في جنيف مؤخراً عندما وُصفت إسرائيل بما هو فيها: العنصرية.
الاتحاد الأوروبي, في نفس الوقت, هو الممول الأكبر للسلطة الفلسطينية والداعم المالي الرئيسي للشعب الفلسطيني: حقيقة مهمة لا يمكن, ولا يجب التغاضي عنها. لكن كل ذلك التمويل لا يصل إلى مستويات الدعم المباشر وغير المباشر الذي تحظى به إسرائيل, سواء عن طريق المعاملة المميزة من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو من قبل دوله الأعضاء منفردين. والأهم من ذلك بألف مرة هو أن ما هو مطلوب من أوروبا ليس تحويل قضية فسطين إلى تبرعات خيرية ودعم إنساني, بل المطلوب موقف سياسي يدعم "القيم الأوروبية" نفسها في فلسطين ضد احتلال وظلم ما زال مستمراً منذ ستة عقود. المطلوب من الاتحاد الأوروبي موقف متميز وليس تابعا لواشنطن من جهة, ولا متأثرا بتل أبيب من جهة ثانية. والمطلوب من الاتحاد الأوروبي التخلي عن السياسة المترددة والجبانة أيضاً والتي لا تساوي بين المحتل ومن يعاني من ذلك الاحتلال وحسب, بل وتبرر للمحتل أساليب بطشه ووحشيته كما رأينا خلال الحرب الماضية من تبريرات لها بكونها "دفاعاً عن النفس".
فشلت جمهورية التشيك خلال ترؤسها للاتحاد الأوروبي في أن تُظهر أدنى قيم "ربيع براغ 1968" أو "الثورة المخملية 1989", حتى لا نعود بعيدا في التاريخ ونقول قيم قديسها المشهور وينسيسلاس السلمية والإنسانية والمضادة للظلم واستمرار الحروب. ما نأمله أن تكون الرئاسة الجديدة, السويدية, للستة أشهر القادمة, أخلاقية ومبدئية, ونصيرة لقيم العدل وتتأسى بتركة "أولف بالمه" رئيس وزرائها الأسبق الذي اغتيل في الثمانينات لأنه مثل ضمير أوروبا في جانبه المشرق.