بقلم : رشاد أبو شاور ... 08.04.2009
السفينة تائهة، فقد ضيّعت الاتجاه، وبوصلتها تعطّلت، ولم يتبق بنجاتها سوى قليل من الأمل، تحت طبقة كثيفة من الألم.
تصدر منها إشارات توحي بأنها ما زالت طافية، وإن كانت لا تسري إلى هدفها، ووجهتها التي انطلقت إليها، وكأنما طفوها مبرّر كاف للبقاء!
هي سفينة بلا قبطان، وبحّارتها يصدرعنهم صراخ، وزعيق، وهم في حالة اضطراب وارتباك، فكل واحد منهم يصيح على ليلاه، في ليل السفينة الثقيل الوطء، والوحشة، والفقدان...
حملت السفينة عند انطلاقها من ميناء الغربة والشتات الأمل، والوعد، والضوء، والعناد، وروح المغامرة، وما تيسّر من أدوات للاشتباك مع قطعان القرش، بحّارتها أغلقوا آذانهم حتى لا تسلبهم الساحرات في المضيق اتزان عقولهم، وتجرّهم ليقعوا في براثنها. وعيونهم ترى الساحرة التي تنصب الفخاخ لمسخهم إلى خنازير، والسكلوب يتربّص بهم بعينه الواحدة، فإن قبض عليهم فسيحشرهم في المغارة مع الخراف ليسمنهم ويأكلهم واحدا واحدا!
بحّارة أذكياء، تسلحوا بنبض القلب، ولهفة الروح، ويقظة العقل، لتحمل مخاطر ومهالك الرحلة الرهيبة، في العودة إلى (إيثاكا) العصر الحديث: فلسطين...
فلسطين التي لا ميناء، ولا مرسى، ولا وجهة غيرها، أو بديلاً عنها...
فلسطين التي لا ينطلي عليها زيف القبطان الخاوي الهمّة، الهش، قليل الحيلة، الجاهز للمقايضة في مُنتصف الطريق...
فلسطين التي لا ترضى بأقل من أبطال كاملي البطولة، طاهري النفوس والأيدي والأرواح، عنيدي الإرادة، يواصلون الرحلة وسط أنواء هائجة، مدوّخة، تصيب الضعفاء الغشماء بالدوار، وتحيلهم إلى خرق رخوة، ليرتموا عاجزين، تاركين مصير السفينة للأقدار.
نحن نرى السفينة رأي العين، وقد توقفت آلاتها، وعجزت عن إكمال إبحارها، ومنها تنبعث جلبة، فهناك من يتصارع على الدفّة، وما هو بقبطان، وهناك من يتصارعون على المحتويات، غير مبالين بمصير السفينة، وبمآل الهدف الذي انطلقت لتحقيقه.
ليس هذا هو الأمل بسفينة نوح الفلسطينيّة، فالحمامة لم تعد بغصن الزيتون...
في منقار الحمامة شريحة من لحم بحّار مزق جسده قرش رهيب الأشداق ..أهذه هي البشارة؟!
في البحر مسافات من ماء، وقروش، ومضائق، وخلجان، وكلّها مسكونة بمتربصين...
والسفينة بلا قبطان بصير، وبلا بحّارة يوحدهم وعد غصن الزيتون ـ البشارة؟!.
فتح، وهذا ما يرفض الاعتراف به المستفيدون من اسمها، الحنتشيون ـ حنتش بنتش واللي يلحق ينتش..وبالعربي الفصيح: انهب ما تستطيع، وانفد به، انتشه قبل غيرك! ـ لم تعد قائدة سفينة فلسطين، والغصّة في الروح، والقلب، والعقل، أنه لا ربابنة، ولا بحّارة، ينقذون السفينة، وقد طال الانتظار، وهو في حالتنا من دم ولحم، من وطن يضيع، وهو وطن ينأى وتبتعد شطآنه، وهو حلم وأمل يتبدد، وهو سفينة أضلّها قصار النظر، المستعجلون على المكاسب.
سفينة فلسطين تدوّم في البحر، تدور حول نفسها، والبحّارة ينطرحون دائخين، وكّل واحد يبحث عن ما يُمسك به، يستقوي به، يلوذ به...
قيادة السفينة ليست فردا، ووجهتها لا تكون ارتجالاً، وهمّة المبحرين بها لا يحددها التغنّي بأمجاد لم تتحقق، وهدف تمّ التخلّي عنه...
مؤتمر، أو لا مؤتمر؟!
يؤجّل المؤتمر، أو ينعقد المؤتمر؟ أين، وبمن، و..السفينة تتبعّج جدرانها، والماء يتدفّق إليها، وهي تغرق، وهم يتفوقون على علماء بيزنطة في الجدل حول عدد الملائكة على رأس الإبرة!
أغرب ما يحدث أن ما نسمعه عن التحالفات، والانتقالات من مجموعة إلى أخرى، غير مبني على فكر ومبادىء، وصراع بين من يتقدّم ببرنامج إنقاذ السفينة، ومن يتهاون، ويتلكأ، ويساوم.
بحّارة شاخوا لا يستفيدون من طول الرحلة والمعاناة والتجارب، فهم تكلّست عقولهم، وتجمد وعيهم، يمشون مسرنمين من هول ما يرون ويعجزون عن مواجهته، تشبثا بحياة لا هدف لها سوى العيش في المشهد!
وشباب هم في واقع الأمر كهول، ملّوا من انتظار دورهم في التسيّد على السفينة، رغم أنهم فعلوا كّل ما يمكنهم من الأمر، باستثناء أن يدفعوا بالسفينة إلى الأمام، لأن هذا الأمر مكلف، فهو يعني إصلاح السفينة إصلاحا يمكنها من استئناف رحلتها، بهمّة بحّارة يتفوقون على من سبقهم، بحيث تمسك أيديهم القويّة بالراية، والمجاذيف، والدفّة، لتندفع السفينة في رحلتها مشتبكة مع اسماك القرش، لا متحالفة معها على السفينة و..الأمل، والحق، ووعد غصن الزيتون الذي يبحر له شعب تجسّد السفينة أمله، وحلمه، وهمّته.
بعد أن ابحرت بنا سفينة (سولفرين) من ميناء بيروت يوم 22 آب/اغسطس 1982 متوجهة بنا إلى ميناء بنزرت التونسي، بدأت تتجلّى سلوكيات الفساد والحقارة والأنانيّة.
على السفينة كان جرحى أبطال من معركتنا المجيدة التي استمرّت قرابة ثلاثة اشهر.
على السفينة كان مقاتلون بواسل جرحى أبدان وأرواح...
على السفينة كان شعراء، كتّاب، صحافيون مثقفون، أكاديميّون...
وكان على السفينة جهلة سفلة أدوات، يحرّكهم جهلة يفشون فيهم روح العدوانيّة على من هم معهم في السفينة...
يشهد الله أن أولئك الأشخاص كانوا جبناء في المعركة، وأن من يوجهونهم ادعوا أنهم كانوا يقودون في الميدان، بينما يعرف كل من على السفينة، ومن عاش معركة بيروت، أنهم تواروا، واختبأوا، وعاشوا مرتاحين وعندهم كل ما يلزمهم بانتظار الرحيل عن بيروت، بينما من رابطوا في محاور القتال اكتفوا بجرعة الماء، وكسرة الخبز اليابس، ليصنعوا مجد بيروت.
هؤلاء، وتلامذتهم، يتصارعون على الهيمنة على السفينة، فهم ينتمون لمدرسة الحنتش بنتش، وهم يتحالفون مع القرش، ومنهم من ينتفعون إذ يتنازلون عن هدف السفينة، ورايتها، ووجهتها...
مؤتمر سادس موعود يخرج فتح من مأزقها، لتستأنف دورها في قيادة سفينة فلسطين، السفينة التي بناها شعبنا من عظام شهدائه، وجعل من دمه وقودها، يُحاسب، يُعيد النظر في المسيرة وأسباب الفشل والخسارات..أهذا هو المؤتمر السادس حقّا؟!
ما هي الخلافات بين المتصارعين، وعلى ماذا هم مختلفون؟!
القيادة تضحية وفداء وعطاء وبذل وإبداع وقدرة على مواجهة الشدائد..فأين هُم من هذه الصفات؟!
مخلوقات مترهلة، أو مخلوقات تدفعها شهوة السلطة للتوحّش، بحيث لا يرى فيهم شعب فلسطين سوى مافيات تتّجر بدمه، وبقضيته، وتتموّل من أعدائه، وتتقافز على تراثه، وتضلل، وتبيع و. تنطنط من تبعيّة إلى تبعيّة، ومن علاقات إلى علاقات لا تُشرّف والهدف: امتيازاتها، ومصالحها، وإثراؤها من ثورة انمسخت إلى ثروة!
سفينة سطا عليها من فضحهم تيه السفينة، وضياعها، وتبديد أهدافها، ومع ذلك ما زالوا على متنها بصلف، واستقواء يستمدونه من كل من لا مصلحة له أن تبحر، وقد حددت وجهتها، ونوعية بحّارتها، ومن هو صاحب السفينة!
السفينة تائهة، وصاحبها شعب فلسطين يتفجّع ويتحسّر، يُحاصر، يُنتهب أرضا وتراثا وأهدافا...
فمن سينقذ السفينة، ويطرد منها القوارض التي بعد أن أكلت كلّ شيء ها هي تكشط بأنيابها جدران السفينة، وتمعن في لعق دم البحّارة الجرحى الشجعان.
سفينة شعبنا تنادي على من ينقذها ويقودها بعقل جماعي، ببحارة متحدين يعرفون دورهم، وصعوبة وقسوة مشوارهم، يؤجج حميتهم نبل غايتهم.
سفينة أضاعت هدفها، يوشك أن يقفزعلى غرفة قيادتها منتحلون، وزعران، ومارقون، بلا قُدرات فكريّة، وبلا سير حميدة، بلا قيم، ولكن بإفساد وتخويف وشراء ذمم، وباستعداد لتأجير السفينة لمن سيستخدمهم في سوقها إلى ميناء مهجور، ويسدل على سيرتها التي ابتدأت ملحميّة، وانتهت كوميديا سوداء ..ستار النهاية!
وافجيعتنا، وبوارنا ..إن لم ننـــقذ سفيــنتنا قبل أن تدهمنا هذه النهاية!