بقلم : طارق حمود ... 27.04.2009
كانت دورة المجلس الوطني التي انعقدت في الجزائر عام 1988 محطة فاصلة في لوحة التنظير السياسي الفلسطيني، حيث أعاد بناء الاستراتيجية النظرية للثورة الفلسطينية بما ينسجم مع طرح المجتمع الدولي المنحاز إلى «إسرائيل»، وتبنّى القرارات الدولية التي كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد رفضتها سابقاً ومنها قرار 242. وكانت هذه المحطة التمهيدَ المهم لما سيحدث لاحقاً من تبني المنظمة «خيار السلام» استراتيجياً، وهذا ما أُكِّد في مؤتمر مدريد عام 1991 الذي أطلق عملية التفاوض رسمياً بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني (الانطلاق غير الرسمي بدأ سراً عام 1988).
لذلك تلقت قضية اللاجئين الفلسطينيين الصفعة الأولى من الرسمي الفلسطيني عند قبوله التفاوض على أسس القرارات الدولية التي تختزل القضية الفلسطينية بكل مكوناتها في حدود عام 1967 بعيداً عن ديار اللاجئين في أرض عام 1948. ومع انتهاء جولة التفاوض التي أوشكت على توقيع اتفاق أوسلو، كانت هناك خطوات بروتوكولية خطيرة يجب على طرفي التفاوض إنجازها تمثلت برسائل الاعتراف المتبادل، فوجّه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات رسالةً إلى رئيس حكومة العدو إسحق رابين تضمنت في كلماتها شطباً لتاريخ حقبة كاملة من النضال، ومثلت انهياراً دراماتيكياً لكل القيم الثورية التي كانت قد تشكلت في فكر الشعب الفلسطيني ويومياته سلوكاً وشعارات وأغاني لأكثر من ربع قرن من الزمن، كان اعتراف منظمة التحرير «بحق إسرائيل في الوجود وسيادتها على 78% من أرض فلسطين» يمثل كل أشكال اللطم والصفع والرفس.. لقضية اللاجئين الفلسطينيين، فقد أعطى «الممثل الشرعي والوحيد» للكيان الصهيوني حقاً بأرض مات من أجلها آلاف الشهداء تحت راية منظمة التحرير، واعتبار الميثاق الوطني الفلسطيني «كادوك»؛ لاغياً.
وبعد هذه الرسالة بيوم، جاءت رسالة رابين التي تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني «في ضوء التزاماتها السابقة» (يقصد الواردة في رسالة عرفات)، بمعنى أن رسالة الاعتراف لم تأتِ معترفةً بسيادة المنظمة ولو على شبر واحد من فلسطين، بل إن الاعتراف بتمثيلها للشعب الفلسطيني هو اعتراف مشروط بالتزام تعهدات المنظمة السابقة من نبذ للمقاومة وسيادة الكيان الصهيوني على أراضي أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني، وبعدها بيومين تم توقيع اتفاق أوسلو الذي كان اللاجئ الفلسطيني هو الخاسر الأكبر فيه، فقضيته مؤجلة إلى مفاوضات الحل النهائي التي ستبدأ بعد ثلاث سنوات (مرّ 15 سنة!).
*مسار التخلي عن العودة
بذلك تمّ عزل قضية عودة اللاجئين وتجزيئها عن كلها المتجانس لتناقش وحدها وبمعزل، رغم كونها أكبر مكونات القضية الفلسطينية. وكان لفصل قضية الشعب (اللاجئين) عن قضية الأرض الأثر البالغ في نفوس جموع اللاجئين الذين حاولوا تشكيل أنفسهم ضمن مؤسسات غير حكومية ولجان تدافع عن حق العودة انتشرت في أوساطهم بكثرة.
مع أن ما حل بقضية اللاجئين الفلسطينيين في بداية مشروع التسوية لم يكن كافياً لتذويب هذه القضية، فقد دأب أصحاب مشروع التسوية على الدخول في محاولات حثيثة لاقتراح (حلول) لاقتلاع هذه العقبة الكأداء في سكة قطار التسوية. ففي عام 1994 وقعت وثيقة عُرفت بوثيقة أبو مازن – بيلين حاول المفاوض الفلسطيني من خلالها إيجاد رؤية مشتركة مع الإسرائيليين للحل النهائي، ووضعت هذه الوثيقة رؤى في عدة محاور لم يكن الرسمي الفلسطيني يجد حرجاً من طرحها علناً كرؤية سياسية فلسطينية، إلا أن الخطير في هذه الوثيقة هو ما لم تكن الرؤية الفلسطينية الرسمية تجرؤ على طرحه، حيث مثلت أول صك رسمي فلسطيني يدخل في تفاصيل تذويب قضية اللاجئين من خلال الاتفاق على عدم عودة اللاجئين إلى ديارهم بحيث يكون الحل قائماً على أساس التعويض وتذويب عدد من اللاجئين في عدة دول منها (الدولة الفلسطينية)، وبقيت هذه الوثيقة طيّ الكتمان إلى حين توافر الظرف المناسب لإعلانها، إلا أن يوسي بيلين أعلنها من طرفه بعد عدة سنوات.
*اللعب بثقافة المجتمع
في هذه الأثناء كانت تداعيات التسوية الموقعة في أوسلو تلقي بظلالها على واقع اللاجئين الاجتماعي أيضاً في مخيمات الضفة والقطاع، فمع دخول قوات الأمن الفلسطينية إليهما عام 1994 تغيّرت مفاهيم عديدة هناك، وكانت المخيمات التي تشكل نسبة مهمة من مجموع الفلسطينيين هي الأشد تأثّراً بالمفاهيم الجديدة، فلم يعد التفاخر بعدد الشهداء والأسرى من أبناء مخيم أو أسرة رأسمالٍ حقيقي تُبنى عليه المفاهيم الاجتماعية الطبقية، وهو شيء طبيعي في كل المجتمعات الثورية وصاحبة القضايا التحررية، فقد انقلب المفهوم الطبقي ورأس المال الاجتماعي مع دخول السلطة الفلسطينية لقيادة اللاجئين في الضفة والقطاع بعدما قادتهم البندقية لسنوات طويلة.
إلا أن هذه المفاهيم تبدلت في كثير من جوانبها بمرور الوقت، وخاصة بعدما أثبتت التجربة أن المشروع السياسي القائم على أوسلو لا يمكن أن يكون مشروع شعب، وخصوصاً مع انخراط اللاجئين الفلسطينيين في الداخل في فعاليات انتفاضة الأقصى التي أعادت تركيب المعاني المجتمعية في الواقع الفلسطيني ككل، كذلك فإن وقفات اللاجئين ومخيماتهم والصمود الباهر ضمن فعاليات انتفاضة الأقصى كان له أثر مهم في التغيير، كما حصل في مخيم جنين في الضفة، ومخيم جباليا في القطاع، فضلاً عن أن المخيمات جميعها كانت مربضاً رئيسياً للمقاومين ولانطلاق العمل الجهادي.
*مخاضات
في عام 2002، مع اشتداد العمل المقاوم، كان مسؤول في منظمة التحرير من أشدّ الشخصيات حماسةً لمشروع التسوية يوقع اتفاقاً مع شخصية أمنية صهيونية رفيعة المستوى في وزارة الخارجية في اليونان، في ما عُرف بوثيقة سري نسيبة – عامي أيالون، من دون أن يجعل من أعمال المقاومة وانتفاضة الأقصى عائقاً في وجه طموحاته، وكانت هذه الوثيقة أقل شأناً من الوثيقة السابقة التي وقعها أبو مازن، إلا أنها ركزت على «عدم منطقية وعملية» حق العودة الفلسطيني، وبالتالي لا بد من إيجاد حل آخر غير العودة، وبقيت الوثيقة سرية حتى أعلنها الكيان الصهيوني كعادته.
إلا أن العلنية الفلسطينية جاءت بعد عام واحد فقط بتوقيع وثيقة جنيف – البحر الميت التي كان ياسر عبد ربه (أمين سر اللجنة التنفيذية في م.ت.ف) عرابها الأول. ومع أن هذه الوثيقة لم تأتِ بأكثر مما جاءت به الوثائق السابقة، إلا أنها تميزت في أكثر من نقطة.
فهذه الوثيقة هي الوثيقة العلنية الأولى التي توقعها جهات رسمية فلسطينية مع الصهاينة الذين لم يمثَّلوا بشخصيات رسمية. وهذه الوثيقة لم تقتصر على شخصية فلسطينية وحيدة كسابقاتها، بل جمعت عدداً من الشخصيات، ومنهم ممثل عن الرئيس عرفات آنذاك، بمعنى أنها وُقِّعت بمباركة رأس الهرم السياسي الفلسطيني. كانت وثيقة جنيف أكثر خطورة من سابقاتها على قضية اللاجئين بحكم النقاط السابقة، بعدما تضمنت «لا عودة للاجئين الفلسطينيين» ممهورة بتوقيع قيادة رسمية فلسطينية بمختلف مواقعها.
وربما كانت أعمال انتفاضة الأقصى التي شهدت خلال عامي 2002 – 2003 نمواً متزايداً في العمل المقاوم سبباً مهماً في عدم قدرة هذه الوثائق على أخذ دورها العملي، إلا أن خطورتها قائمة من ناحية أنها لا تزال موجودة، والناحية الثانية أنها عكست مدى انخفاض السقف السياسي الفلسطيني الذي لم ينجح حتى في استغلال صعود العمل المقاوم في انتفاضة الأقصى كورقة يمكن الاستفادة منها والضغط بها، إلا أنه كان من الواضح أن مشروع التسوية كان منعزلاً تماماً عن الأداء والحراك الشعبي الفلسطيني.
*«أنابوليس»
في خضم الحديث عن الوثائق السرية والعلنية التي وُقِّعت في ظل مشروع التسوية مع الكيان الصهيوني والتي كان قاسمها المشترك إلغاء قضية حق العودة، جاء قبيل انعقاد مؤتمر أنابوليس في نهاية 2007 توقيع وثيقة جديدة يمكن حملها إلى أنابوليس، حيث وقَّع صائب بامية، رئيس اتحاد الغرف الصناعية في السلطة الفلسطينية ما عرف بوثيقة (إكس)، ومجمل هذه الوثيقة هو إيجاد الآليات لما سبق الاتفاق عليه من خلال تحويل الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حق العودة إلى مركبات اقتصادية، أي التعويض في ظل الحالة الاقتصادية المتردية لغالبية اللاجئين الفلسطينيين الذين قد يكونون تحت ضغط الحالة الاقتصادية، بما يمكّن أصحاب التسوية من فرض حلول كهذا، والمهم أن هذه الوثيقة وُقِّعت مع رئيس جهاز الشاباك الصهيوني.
ومن خلال كل الوثائق السابقة، هناك نقطتان مهمتان هي قاسم مشترك في كل الوثائق:
الأولى: إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين بغض النظر عن البديل.
الثانية: هي في النظرة الأمنية الصهيونية لكل هذه الوثائق، فالتوقيع الصهيوني كان يتم على أساس تحقق الرؤية الأمنية الصهيونية في الاتفاق، بل في وثيقتي (إكس) ونسيبة، كان الطرف الإسرائيلي يشغل منصباً أمنياً رفيعاً، بمعنى أن الرسمي الفلسطيني قبل أن يناقش قضية سياسية بامتياز مثل قضية اللاجئين من منظور أمني صهيوني بحت.
*خيار الشعب
رغم كل هذا التوافق الفلسطيني «التسووي» والإسرائيلي على طريقة حل قضية اللاجئين، لا تزال هذه القضية من أصعب وأعقد ما يمكن التطرق له في السياسة الفلسطينية، وهذا لا يمكننا أن نعزوه إلا إلى خيار الشعب الفلسطيني اللاجئ الرافض لأية حلول غير الحل الطبيعي والمنطقي، وهو حق العودة. ورغم أن قضية اللاجئين الفلسطينيين مرت في أخطر مراحلها ومحطاتها في ظل مشروع التسوية، فإنها ما زالت تتصدر رأس الثوابت الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً مع تلاشي آمال البعض في تحقيق تسوية مع الكيان الصهيوني بعد معركة غزة وانتصار خيارات المقاومة الشعبية فيها.