عاش قطاع غزة واحدة من أسوأ ليالي الإبادة، مع تجدد الغارات الإسرائيلية التي شنها جيش الاحتلال على مناطق واسعة في المدن والمخيمات، غير آبه باتفاق وقف إطلاق النار. وأسفرت هذه الغارات عن استشهاد 104 فلسطينيين، بينهم 46 طفلاً و20 امرأة، بحسب ما أعلنته وزارة الصحة في القطاع، ليصل مجموع الشهداء منذ وقف إطلاق النار المبرم في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري إلى 211 شهيداً.كما خلّفت الغارات الإسرائيلية ليلة أمس وصباح الأربعاء، أكثر من 253 إصابة، وفق إحصائية وزارة الصحة، بينهم 78 طفلاً و84 امرأة، ليرتفع إجمالي عدد الإصابات منذ إعلان اتفاق وقف إطلاق النار إلى 597 إصابة.ليلة مرعبة ودامية عاشتها غزة لم تتوقف فيها الغارات، وأصوات الانفجارات وإطلاق النار من الآليات تجاه منازل الفلسطينيين في أنحاء عدة في القطاع، مع تحليق مكثف للطائرات، لتذكر الأهالي بليالي الإبادة الجماعية، قبيل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وتبدد آمالهم بوقف دائم لنزيف شلال الدم، وعيش هدوء يمنحهم فرصة للحياة بعد حرب إبادة دمرت مساحات واسعة من القطاع، وراح ضحيتها أكثر من 68 ألف شهيد و170 ألف جريح.مشاهد قاسية ووداعات أليمة، إذ امتلأت ساحات أقسام الطوارئ المنهكة بالمستشفيات بمئات المصابين، وتراصت جثامين الشهداء داخل مشرحة الموتى والشهداء، واستفاقت غزة في الصبح لتشيعُ شهداءها، وكأنَّ الحرب لم تضع أوزارها، وكأن الاتفاق لم يكن سوى حبر على ورق. ومنذ إبرام الاتفاق، لم تعش غزة يوماً واحداً دون انتهاكات من جيش الاحتلال، وشن غارات عديدة وإطلاق نار يومي على الأهالي الذين يحاولون العودة إلى منازلهم.نور القيشاوي وعائلتها استفاقت، صباح اليوم الأربعاء، على أصوات صرخات قادمة من خارج البيت، بعد اتصالات من ضباط جيش الاحتلال يدعوون فيها إلى إخلاء مربعهم السكني والذي يعرف ببلوك "11" في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، ويضم عائلات؛ أبو العوف، والقيشاوي، وأبو توهة، وأبو حطب، وأمهلوهم عشر دقائق. ومع توارد أخبار مصدرها الإعلام العبري، أن وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ الساعة العاشرة صباحاً، زادت آمال أحمد وبقية الجيران بأن يتراجع الاحتلال عن تنفيذ تهديده بقصف المربع السكني.تقول القيشاوي التي فقدت منزلها نتيجة الهجوم لـ"العربي الجديد": "خرجنا بأرواحنا فقط، ولم نستطع حمل شيء. كنا قبل مدة عدنا إلى البيت بعد رحلة نزوح، وحمدنا الله أن وجدناه قائماً ليؤوينا بعد حرب وتشرد ونزوح طويل. اعتقدنا أن الحرب انتهت، لكننا نرى حروباً يومية يشنها الاحتلال ويدمر أي شيء يريده".بفعل القصف العنيف، تعرّض منزل القيشاوي ومنزلين بمحيطه لتدمير كامل، فضلاً عن تضرر خمسة بيوت بمربعهم السكني، لتقف أمام تشرد جديد، بلا بيت أو ملابس أو مقتنيات هي وبقية أبناء مربعهم السكني، واقفين بوجوه مليئة بالصدمة، على أطلال منازل مدمرة، كانت للتو مليئة بالحياة، يفكرون في البديل القادم وهو غير متوفر.تضيف بحسرة: "لا أعرف أين أذهب؟. لا يوجد مأوى. تعرّض بيت أهلي للدمار أيضاً، ولدي طفلان وأنا حامل بالشهر التاسع، كنت أريد الولادة ببيتي لأربي ابني بعيداً عن حياة الخيام. أشعر بصدمة كبيرة، لأنني اعتقدت أن الحرب انتهت، وأنني وجدت بيتاً. عندما نزحنا في المرة الأخيرة نقلنا كافة الأغراض معنا، ثم أعدناها لكنها دفنت الآن تحت الأنقاض، حتى الحذاء لم أستطع ارتدائه".وليلة أمس، كسر اتصال مفاجئ الهدوء الذي كان يعيشه أحمد أبو نحل بعد تلقي مكالمة من شقيق زوجته الساعة الحادية عشرة مساء بتوقيت غزة، يطلب منه الحضور فوراً بعد استهداف قريب في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، وكان قد أرسل طفلته كنزا (7 سنوات) التي طلبت منه المبيت عند بيت جدها للاحتفال بميلاد خالتها، وجلبت معها هدايا. يروي الأب المكلوم لـ"العربي الجديد": "ذهبت للمنطقة، فكان الاحتلال قد استهدف بيتاً مقابلاً يعود لعائلة سالم أدى لاستشهاد سبعة مواطنين منه، وأصيبت طفلتي بشظية برأسها أدت لاستشهادها نظراً لتلاصق المنزلين، وأصيب معظم أخوالها وخالاتها وجدتها بالقصف".ويستذكر آخر لحظات الطفلة التي بدت سعيدة بيوم ميلاد خالتها، مضيفاً وهو يتلقى التعازي: "جاءتني ورأيتها سعيدة، وطلبت شراء أغراض لخالتها كمفاجأة جميلة منها، وشاركتها في انتقاء وشراء بعض الأغراض وذهبت، ليتحول الفرح إلى حزن، وينطفئ وهج شمعة الميلاد بنار الصاروخ. ذهبت إلى المستشفى وجدتها على الأرض جثة هامدة تنام كالملاك بلا نبض".في وسط القطاع، لم يسلم مخيم يضم عشرات المرضى السرطان والكلى، من استهداف جيش الاحتلال فجر اليوم، فبينما كان يوسف حمو الذي تعرض لإصابة خلال الحرب، ينتظر موعد إجراء عملية جراحية له في الصباح، أفاق على صوت قصف ونيران مشتعلة، وسحابة دخان باستهداف خيمة في المخيم الواقع بالقرب من مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط القطاع.كان المخيم ملاذ مرضى السرطان والكلى، ليكونوا قريبين من المستشفى، محاولين التخفيف من عناء التنقل بين جلسات العلاج وغسيل الكلى المستمرة والمنهكة، فجمعهم المخيم كما وحدهم الألم، ليعيشوا المصير نفسه نتيجة بقصف دامٍ.يروي حمو لـ"العربي الجديد": "وقع الاستهداف الساعة الرابعة فجراً، نتج عنه ستة شهداء والعديد من الإصابات، وتدمير عشر خيام. عشنا لحظات مرعبة، كانت الشظايا تتطاير فوق رؤوسنا والنار تشتعل، أصيب طفلي محمد (16 سنة) بشظية في رأسه واستطاع الأطباء إخراجها. كنت أرى أشلاء الشهداء متناثرة، وطفلي غارقاً بدمائه، ومرضى لا يستطيعون الهروب، وحالة ذعر وخوف وبكاء بين الأطفال والنساء".ويتساءل حمو عن سبب "قصف مخيم إيواء يضم 80 مريض كلى و20 مصاباً بالسرطان، وهو يقع بالقرب من مستشفى شهداء الأقصى؟"، ويتابع بقهر: "بعد رحلة نزوح من حي الزيتون نزحت بالقرب من المستشفى لمتابعة وضعي الصحي، ولم أدرِ أننا سنتعرض للاستهداف بمكان الإيواء، وهذا ما يؤكد أن لا مكان آمن في غزة، وأن الاحتلال لا يلتزم بالاتفاقيات الموقعة".خيام ممزقة، وأمتعة وطعام محترق، وبقايا دخان لم ينطفئ لا زال يتصاعد، هكذا كان المشهد داخل المخيم، في لحظة بدأ حمو يستصلح ما نجى من بعض الملاءات، وسقفهم بالشادر ليأوي نفسه من جديد بين جمر ونار سيبقى شاهداً على جريمة مستمرة.
*المصدر : العربي الجديد






























