عتمد مجلس حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، أمس الجمعة، قرارا يدعو إلى إجراء تحقيق عاجل في الفظائع المرتكبة في الفاشر السودانية، التي سيطرت عليها قوات «الدعم السريع»، وذلك عبر بعثة لتقصي الحقائق توثق الأدلة وتحفظها من أجل المساءلة، مع ضمان وصول إنساني فوري وغير مشروط وإدانة الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.وكُلِّفت البعثة بتوثيق جميع انتهاكات القانون الدولي المرتكبة من جانب جميع الأطراف في الفاشر التي شهدت انتهاكات كثيرة في الأسابيع الأخيرة، وكذلك تحديد هوية المرتكبين المفترضين، حيثما أمكن ذلك، لضمان محاسبتهم.وعقد المجلس جلسة خاصة لمناقشة الأوضاع الإنسانية وحقوق الإنسان في مدينة الفاشر والمناطق المحيطة بها، في ظل الحرب المستمرة في السودان منذ أبريل/ نيسان 2023.وشهدت الجلسة طيفاً واسعاً من المداخلات الرسمية، شملت كبار مسؤولي الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وممثلين عن أكثر من مئة دولة ومنظمة دولية وإقليمية، إلى جانب منظمات مجتمع مدني سودانية ودولية.وخلال الجلسة، التي دعا إليها عدد من الدول الأعضاء بقيادة المملكة المتحدة وهولندا والنرويج وأيرلندا، حذر مسؤولون أمميون من أن ما يجري في الفاشر «كان متوقعاً وقابلاً للمنع»، لكن المجتمع الدولي فشل في اتخاذ التدابير اللازمة لوقفه.وافتتح رئيس مجلس حقوق الإنسان، يورغ لاوبر، الجلسة، بالتذكير بأن الطلب لعقدها جاء استناداً إلى المادة 121 من قرار المجلس 5/1، وأن 43 دولة عضواً و31 دولة مراقبة أيّدوا انعقادها.فيما حذر المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، من أن الفظائع التي تشهدها الفاشر بعد سيطرة قوات «الدعم السريع» عليها في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هي امتداد لنمط منهجي من الانتهاكات.وقال إن مكتبه أصدر أكثر من 20 بياناً حول الفاشر خلال العام الماضي، وإن التحذيرات بشأن «الحصار الخانق» وانتشار المجاعة وتهديد سقوط المدينة «لم تلقَ الاستجابة اللازمة».وأضاف: «لا ينبغي أن يفاجأ أحد بما نراه اليوم: عمليات قتل واسعة، إعدامات ميدانية ذات طابع عرقي، عنف جنسي بما في ذلك الاغتصاب الجماعي، وخطف مقابل الفدية، واستهداف المنشآت الصحية والإنسانية».وحذر من أن «البقع الدموية التي تُرى من الأقمار الصناعية في الفاشر» أصبحت شاهداً على الفظائع، بينما لا يظهر «العار على سجل المجتمع الدولي» رغم كونه لا يقل خطورة.ودعا المفوض السامي إلى اتخاذ خطوات عاجلة، أبرزها، تشمل تأمين حماية المدنيين وضمان ممرات آمنة للخروج من المدينة، وتمويل كامل للبرامج الإنسانية، وفتح مسارات الإغاثة دون عوائق، بالإضافة إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة، مع تأكيد متابعة المحكمة الجنائية الدولية للأوضاع ووقف تدفق السلاح والتمويل للأطراف المتحاربة، ودعم إحالة الوضع في السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية.كما وجّه تحذيراً خاصاً بشأن تصاعد العنف في ولايات كردفان، قائلاً: «كل المؤشرات موجودة. يجب ألا تلاقي كردفان مصير دارفور».وفي بيان مشترك، قال المبعوث الخاص للاتحاد الأفريقي لمنع الإبادة الجماعية، السفير أداما دينغ، متحدثاً بالنيابة عن مستشار الأمم المتحدة لمنع الإبادة، تشالوكا بياني، إن الوضع في السودان بلغ «منعطفاً مأساوياً».وأشار إلى أن الصراع أدى إلى تهجير أكثر من 14 مليون شخص ومقتل أكثر من 40 ألفاً، مؤكداً أن معلومات موثوقة تشير إلى استهداف منهجي لمجتمعات الفور والزغاوة والمساليت.وقال إن الحصار واستخدام التجويع كسلاح حرب في مدن كالفاشر وكادقلي يمثلان انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني، مضيفاً: «خطر الإبادة الجماعية في السودان حقيقي، ويتفاقم كل يوم».ودعا البيان المجتمع الدولي إلى منع تدفق السلاح والمقاتلين إلى السودان، ودعم العدالة والمحاسبة، وحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، بما فيها التمييز والتهميش.وأوضح رئيس اللجنة التنسيقية لآليات الإجراءات الخاصة، سورايا ديفا، أن الخبراء الأمميين تلقوا تقارير «مروّعة» عن عمليات قتل جماعية، وإعدامات ميدانية، وعنف جنسي واسع النطاق، وتجنيد أطفال، واستهداف متكرر لمخيمات النازحين.وكشف أن النساء في الفاشر تعرضن لاعتداءات جنسية «أمام ذويهن»، وأن قوات الدعم السريع اقتحمت ملاجئ النازحين قرب جامعة الفاشر و«اختطفت نساء وفتيات تحت تهديد السلاح». وقال إن السودان يشهد «أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم» مع أكثر من 12 مليون نازح داخلي ولاجئ.فيما قدمت منى رشماوي، عضو بعثة تقصي الحقائق الدولية المعنية بالسودان، تقريراً قالت إنه استند إلى شهادات ناجين وأدلة رقمية، وأكدت أن ما جرى في الفاشر «من أكثر الفظائع التي وثقتها البعثة منذ بدء الصراع».
وذكرت أن قوات «الدعم السريع» حوّلت جامعة الفاشر إلى «ساحة قتل»، وأن جثث المدنيين «تكدست في الشوارع وفي خنادق جماعية». وأشارت إلى اختفاء آلاف المدنيين، بينما تمكنت «بضعة آلاف فقط من الفرار».وتحدثت عن عمليات إعدام ميداني لرجال بسبب انتمائهم العرقي، وعمليات اغتصاب جماعي على طول طرق الهروب، وأوردت أن مقاتلين من الدعم السريع «قاموا بتصوير الجرائم ونشرها».وحذّرت من أن نمط الانتهاكات في كردفان يشير إلى مخاطر تكرار سيناريو الفاشر.وفي رسالة مصورة، قدّمت نعمات أحمدي رئيسة «منظمة مجموعة عمل نساء دارفور» مشاهد قالت إنها وصلت من الفاشر لـ «أطفال عُلّقوا على الأشجار، رجال أُعدموا في صفوف، ونساء قُتلن وترك أطفالهن يتجولون بجانب الجثث». وأكدت أن مستشفى في المدينة شهد مقتل 450 مريضاً وعاملاً صحياً بعد اقتحامه.وقالت إن «الدعم السريع» نفذت هجمات ممنهجة أدت إلى تفريغ مخيمات أبو شوك وزمزم التي كانت تضم أكثر من مليون نازح، معتبرة أن ذلك «محاولة لاقتلاع سكان دارفور من أرضهم».ودعت المجلس إلى «رفض أي مسار سياسي يمنح هذه القوات شرعية»، مؤكدة أن «مرتكبي الجرائم لا يمكن أن يصنعوا السلام». وقدم ممثلو عدد من الدول مداخلاتهم. وركزت الدول الغربية، مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا وكندا، على ضرورة المحاسبة الدولية ودعم عمل بعثة تقصي الحقائق وإحالة الوضع للمحكمة الجنائية الدولية.في المقابل، شددت دول أخرى، مثل الصين وإيران والجزائر، على ضرورة احترام سيادة السودان ورفض «تسييس» عمل المجلس.ودعت المجموعة الأفريقية، عبر ممثل غانا، إلى وقف فوري لإطلاق النار، بينما ركزت دول الخليج على الحلول الإقليمية وفتح ممرات إنسانية آمنة.وقدمت المملكة المتحدة، باسم مجموعة الدول الراعية، مشروع القرار الذي أعلن ممثل السودان أن بلاده لن تعترض عليه رغم رفضها فقرات تتعلق ببعثة تقصي الحقائق، وفي الوقت نفسه اتهم دولة الإمارات بـ «دعم الميليشيا» في إشارة لقوات «الدعم السريع»، قائلاً إن «المجتمع الدولي يعرف ذلك». ثم اعتمد المجلس القرار، وأعلن رئيسه اختتام أعمال الجلسة، مشيراً إلى أن تقريرها سيُتاح للدول خلال أسبوعين لمراجعة ملاحظاتها النهائية.ولاحقا، رحبت وزارة الخارجية السودانية بصدور القرار الذي» أدان الانتهاكات الجسيمة لقوات «الدعم السريع» والمجموعات المتحالفة معها في مدينة الفاشر ومحيطها»، مؤكدة أن القرار «جاء واضحًا في توصيف الفظائع والانتهاكات المرتكبة خلال الفترة الماضية».وقالت الوزارة إن القرار «وثّق جملة من الجرائم، من بينها القتل على أساس العرق، والتعذيب، والإعدامات خارج نطاق القانون، والاحتجاز التعسفي، والتجنيد القسري، إضافةً إلى استخدام الاغتصاب والعنف الجنسي كسلاح في الحرب». وأعربت عن تقديرها لما تضمّنه القرار من «تأكيد قوي على احترام سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه، إلى جانب تضامن المجلس مع الشعب السوداني».وأشادت بما ورد في القرار من «مطالبة صريحة لجميع الأطراف والدول باحترام وحدة السودان وسلامة ترابه، ورفض أي محاولات لإنشاء سلطة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيا المتمردة، معتبرة ذلك تأكيدًا لموقف الحكومة السودانية الرافض لأي ترتيبات خارج إطار الدولة ومؤسساتها الشرعية».وجددت موقف الحكومة «تجاه محاولات إدراج آليات محل خلاف ضمن القرار»، مشيرة إلى أن بعض تلك الآليات استندت إلى قرارات سابقة لم تحظَ بموافقة السودان».وأكدت الوزارة التزام الحكومة بالتعاون والتنسيق مع آليات حقوق الإنسان العاملة داخل البلاد، بما في ذلك المكتب القطري للمفوضية السامية لحقوق الإنسان والخبير المعين المعني بحالة حقوق الإنسان في السودان، في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز حماية الحقوق وضمان تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب.وشددت على أن المكتب القطري للمفوضية السامية لحقوق الإنسان هو الآلية الموجودة فعليًا على الأرض، والقادرة على رصد ورفع التقارير حول الفظائع والانتهاكات التي ارتكبتها الدعم السريع في الفاشر، إلى جانب الانتهاكات الواسعة في ولايات ومدن أخرى، وذلك بالتنسيق مع الآليات الوطنية المعنية!!

