**الدبس و"العنطبيخ" و"الملبن" مؤونة الشتاء تطبخ على نار هادئة في الصيف.
يعتبر موسم جني العنب وطبخ الدبس فأل خير ورزق على الفلسطينيين في الخليل إذ يوفر فرص العمل للنساء والرجال كما أنه يوفر مؤونة الشتاء من الدبس و”العنطبيخ” و”الملبن” يطبخونه على نار الحطب الهادئة ويعدونه بأسلوب تقليدي لم يتغير منذ حياة الأجداد إلا في جزء ضئيل منه.
الخليل (الضفة الغربية) – “مواقد الدبس” تقليد فلسطيني سنوي، تمارسه الكثير من العائلات بمدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية، وخلاله يجري طبخ العنب وتخزين أغلبه لاستهلاكه في فصل الشتاء.
ويستغل المزارعون والتجار والعائلات غالبا، عطلة نهاية الأسبوع خلال الصيف (الجمعة والسبت) لإعداد “الدبس” وهو عصر العنب بعد الطبخ، و”العنطبيخ” وهو حبات العنب مطبوخة، و”الملبن” وهو عصير العنب مطبوخا مع السميد ثم مجففا، وذلك في ساحات البيوت أو حقول العنب.
ورغم أن المهمة شاقة وساعات العمل طويلة، يجد الفلسطينيون متعة في الاجتماع حول المواقد نهارا أو بعد غياب الشمس وحتى منتصف الليل، حيث يطبخ غالبا على الحطب وفي قدور نحاسية.
الحاج محمد إسماعيل عرفة (69 عاما) أحد أقدم مصنعي العنب بالطرق التقليدية، شارك جده ثم والده أول مرة في تصنيع العنب قبل أكثر من نصف قرن، واليوم أصبح أحد أكبر من عملوا بهذه المهنة في بلده، بطاقة تصنيع تتجاوز 300 طن من العنب، يذهب أغلبها للاستهلاك المحلي.
يجد المسن الفلسطيني غاية المتعة في مهمته التي تستمر ثلاثة شهور كل عام، لكنه يشكو زحف العمران على الأراضي الزراعية، موضحا أن “ما تبقى في الخليل من كروم العنب لا يتجاوز 3 في المئة من التي كانت قبل ثمانينات القرن الماضي”.
ويحافظ عرفة على قطعة أرض صغيرة بمحيط منزله القديم، وسط تزاحم البناء الحديث والعمارات التجارية والسكنية، وفيها يُصنّع العنب. ويقول “أعشق أجواء مواقد الحطب ورائحة الدخان ونكهة الدبس خلال الغليان واجتماع العائلة حولي”.
قبل خمسة عشر عاما طوّر عرفة أدواته بنفسه، فبدل أن يعصر العنب على قدميه كما الكثير من الناس، صمم مكبسا آليا، وبدل تحريك العنب ساعات طويلة بيديه، صمم محراكا آليا، كما صمم مصافٍ من أدوات بسيطة.
وتظهر الآثار المكتشفة في فلسطين، تصنيع المزارعين للعنب منذ آلاف السنين، حيث تنتشر المعاصر المحفورة في الصخور، ومنذ نحو 55 عاما، لم تتغير منتجات عرفة من الدبس والعنطبيخ والملبن.
تجاريًا، شكلت جائحة كورونا تحديا مهما للمزارع الفلسطيني، الذي يأمل بفتح المعابر حتى يستطيع إيصال إنتاجه إلى الأردن، فهناك نسبة لا بأس بها من زبائنه، وأغلبهم مغتربون من الخليل.
قبل الجائحة كان عرفة يخطط لتصدير منتجاته إلى الإمارات والسعودية وبريطانيا، لكنه لم يتمكن من ذلك للعام الثاني على التوالي “لوجود إجراءات معقدة والحاجة لعدة موافقات وإجراءات لا تتناسب مع منتج بلدي محلي”.
ولا يستخدم عرفة إلا الحطب وقدور النحاس في طبيخ الدبس في عملية تستغرق 12 ساعة. ويقول عرفة الذي يساعده أبناؤه، وبينهم مهندسون، إنه جرب الطبيخ على الغاز، وفي قدور من مختلف المعادن، ولم ينجح إلا بالحطب، وفي قدور النحاس التي أحضر آخرها من مدينة حلب السورية.
ويتابع “دبس العنب الصحيح لا يصلح إلا بالنحاس، فالألمنيوم لا يصلح.. ولكن النحاس لا يبرد بسرعة، ولا يتأكسد أو يتفاعل مع ما يطبخ بداخله”. أما عن الحطب فقال إنه “يعطي ميزة للدبس على مدى 12 ساعة على النار، الدخان يدخل في الطعم ويعطي نكهة، لكن ليس كل الحطب يصلح، إنما شجرة السرو فقط”.
ويعتبر أن “كل المواد المفيدة موجودة في العنب”، ويقتنع أنه يحمي من السرطان، مستشهدا بتمتع كبار السن قديما بالصحة.
ويمر العنب بعدة مراحل، فيوضع في مكبس يشبه إلى حد كبير مكابس عصر الزيتون، ويعصر ببطء لاستخلاص المياه، ثم توضع خلاصة العنب (اللبش) في أكياس خيش، ويعاد عصرها بمكبس، لاستخراج آخر قطرات الماء منها.
يقول عرفة “نضع رشات من الحِوّر (تراب أبيض) على العنب خلال عصره لأنه يصفي الماء لاحقا من كل الشوائب”.
بعد فرز ماء العنب عن اللب والقشر والعناقيد يطبخ ليلا في القدور حتى درجة ما قبل الغليان، ثم يترك حتى صبيحة اليوم التالي، فيكون قد صفي تماما وترسبت الشوائب.
ويضيف “نأخذ الماء الصافي ونضعه في القدر على نار عالية حتى يبدأ في الغليان، ثم يترك على نار متوسطة لمدة 12 ساعة، فيكون قد نضج”.أما العنطبيخ، فيوضح، أنه “يتم انتقاء حبات العنب الجيدة وتغسل وتوضع في القدر وتحرك آليا لثماني ساعات”.
وعن أسعار المنتجات فيوضح أنها تباع بأسعار تعادل ثمانية دولارات للكيلوغرام الواحد، وتعد منتجات العنب وجبة غنية ودافئة ويستلذها الفلسطينيون في فصل الشتاء.
لدبس الشمس قصة أخرى يرويها الأربعيني جعفر سلطان، الذي يشارك والده في تصنيع العنب في حقولهم إلى الغرب من مدينة الخليل.
يقول سلطان “موسم العنب جميل، وما يزيد جماله مواقد طبيخ الدبس في الليل، واجتماع العائلة لعصيره وتصنيعه نهارا”.وإضافة إلى طريق تصنيع الدبس بالغليان، يشير إلى طريقة أخرى تعتمد على الشمس، لكن مع نفس طرق العصر والتنقية السابقة.
ويوضح “بعد أخذ الماء النقي نطبخه على النار حتى يصل إلى منتصف مرحلة النضوج، ثم نضعه في أوان ذات أطراف عالية ويعرض للشمس بين 7 إلى 10 أيام حتى يفقد المياه ويتحول إلى سائل يشبه العسل في اللون واللزوجة”.
مزارع كروم العنب في الخليل لا تتجاوز 3 في المئة من التي كانت قبل ثمانينات القرن الماضي بسبب الزحف العمراني
يوضح سلطان أن تصنيع الدبس عن طريق الشمس يحتاج إلى مهارة وحذر وعناية، “فيجب تغطيته بالقماش بعد مغيب الشمس، ووضع شوادر أو بلاستيك في حال وجود غبرة أو أمطار”.
ويوضح أن هذا الصنف من الدبس لا يشتريه عامة الناس، وإنما من يسميهم “المتذوقون” الذين يستلذون هذا النوع من الدبس. ويقول سلطان إن سعر هذا النوع من الدبس مرتفع مقارنة مع الدبس العادي “لأنه إنتاج قليل بسبب طول مدة تجهيزه”.
ووفق معطيات مجلس العنب الفلسطيني (غير حكومي) فإن إنتاج العام الحالي يقدر بنحو 50 ألف طن، أكثر من نصفها تنتجه مدينة الخليل وحدها بواقع 27 ألف طن.
وقدر رئيس المجلس رضوان أبوعياش، مساحة الأراضي المزروعة بالعنب بحوالي 63 ألف دونم (الدونم يعادل ألف متر مربع) في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وأشار إلى وجود أكثر من 17 صنفا للعنب في جبل الخليل، منه عنب المائدة المعروف بقساوته، وعنب الطبيخ المعروفة بغزارة مياهه، موضحا أنها جميعا من الأصناف البعلية (دون ريّ) وتحتاج لنسب أمطار تتراوح بين 400 و600 ملم.
وذكر أبوعياش أن جميع الإنتاج الفلسطيني يسوّق محليا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي نهاية أكتوبر يصدّر إلى الأردن، لكن إجراءات جائحة مكافحة كورونا تحول دون ذلك.
وأشار إلى تحديات ناتجة عن الاحتلال بينها الاستيلاء على الأراضي، وإدخال المنتج الإسرائيلي في ذروة الإنتاج الفلسطيني، مما يلحق الخسائر بالمزارعين.
وترتفع أعلى نقطة بمدينة الخليل حوالي 1065 مترا عن سطح البحر، مما يساعد على زراعة وإنتاج العنب البعلي، ووفق آخر معطيات نشرها الجهاز المركزي للإحصاء عام 2010 كان يشكل العنب 12 في المئة من مجمل الإنتاج الزراعي ويحتل المرتبة الثانية بعد الزيتون من حيث كمية الإنتاج.
مواقد الدبس.. تقليد سنوي يؤنس الفلسطينيين في الخليل!!
05.09.2021