يعيش الفلسطيني زهير الرجبي في منزله في حي سلوان شرقي القدس المحتلة، محاطًا بشاشة مسطحة مقسمة إلى مربعات كبيرة لا تبث أخبارًا أو برامج ترفيهية، بل ترتبط بعشر كاميرات مثبتة في محيط المنزل لمتابعة تحركات المستوطنين الإسرائيليين.وتوفر هذه الكاميرات نوعًا من "الحماية" لزهير وعائلته، ويستخدمها في "الدفاع عن نفسه" أمام القضاء في حال وصل مستوطنون إلى منزله أو عملية اقتحام للشرطة، وفق ما يقول.ويخوض الفلسطينيون والمستوطنون في سلوان المنطقة الكبيرة والفقيرة، معركة عقارية تستند إلى وثائق أرشيفية.يعيش الرجبي (49 عامًا) في حي بطن الهوى في سلوان الواقعة على تلة إلى الجنوب من البلدة القديمة للقدس، حيث البناء غير المنظم والمنازل المتلاصقة وأسلاك الكهرباء التي تتدلى في الهواء.يلوح الرجبي بورقة كتبت بالعربية وتحمل أختام السلطات الأردنية التي كانت تشرف على القدس الشرقية قبل حرب 1967 واحتلال هذا الجزء من المدينة.ويقول "هذه الورقة تثبت أن والدي اشترى هذه الأرض من فلسطيني في 1966".ويوضح الرجبي وهو أب لأربعة أطفال، أن والده اشترى 150 مترًا مربعًا من أرض تبلغ مساحتها الإجمالية خمسة دونمات ومئتا متر مربع، على حد قوله، وفي أيار/مايو 2015، تسلم زهير الرجبي نص دعوى رفعت عليه من ممثلين عن الأوقاف اليهودية، لتبدأ معركته في القضاء.في المحكمة، يواجه الرجبي ثلاثة إسرائيليين يطالبونه باستعادة "حقهم" في ملكية الأرض التي بنت عائلته على جزء منها، منزلها الذي يتألف اليوم من 7 شقق سكنية.ويستند الثلاثة وهم أبراهام شيفرمان ومردخاي زاربيب وإسحق غالبغ، إلى قانون صدر 1970 يسمح لليهود الذين خسروا عقارًا كانوا يملكونه قبل تأسيس إسرائيل في العام 1948، باستعادته. كذلك يستندون إلى وثائق تعود إلى القرن التاسع عشر والعهد العثماني، تفيد بأن يهودًا يتحدرون من اليمن كانوا يعيشون على تلك الأراضي وغادروها إبان "الثورات" الفلسطينية التي حدثت بين 1929 و1936.وعينت المحكمة المركزية في القدس في 2001 المدعين الثلاثة، أوصياء على هذه الأراضي. في العام 2002، أقرّ "الوصي العام" الهيئة الحكومية المسؤولة عن إدارة الممتلكات التي يعتبر أصحابها غائبين، منحهم قطعتي أرض، إحداها تلك التي بنت عائلة الرجبي منزلها على جزء منها.ويعتبر وجود المستوطنين في سلوان والذي بدأ في ثمانينات القرن الماضي، غير قانوني. فهي جزء من القدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل في 1967 وضمتها في 1980، في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي.ويبرر المستوطنون وجودهم في الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية وسعيهم المستمر إلى التوسع فيها، بعلاقاتهم التوراتية بالمكان، بزعم أن الملك داود كان أقام عاصمته قبل ثلاثة آلاف عام في هذا المكان.ويعيش مئات المستوطنين بين نحو 50 ألف فلسطيني في سلوان، ويمكن تمييز منازلهم من الأعلام الإسرائيلية المرفوعة على الأسطح و النوافذ، أو من خلال كاميرات المراقبة المزروعة عليها، بالإضافة إلى تجهيزات متطورة قربها مثل ملعب رياضي محاط بأسلاك.على جانبي منزل زهير الرجبي عقارات يسكنها إسرائيليون وكان فيها فلسطينيون قبلهم، ما يجعله غير متفائل بالحكم النهائي في المحكمة التي يمكن أن تقضي بإخلاء منزله كما حدث مع كثر أمثاله في السابق.ويقول الرجبي وهو يراقب الشاشة التي علقت على الجدران الداخلية للمنزل المطلية باللونين الرمادي والبرتقالي، إن القضاة "لا يهتمون بالأقدمية السكنية".ويرى أن المسألة "سياسية تتواطأ فيها جميع أذرع دولة إسرائيل". وتندد منظمات مناهضة للاستيطان بتنسيق بين الدولة ومنظمات المستوطنين من أجل طرد الفلسطينيين.ويمكن أن يتسلم المقيم الفلسطيني أمرًا بالإخلاء لصالح المستوطنين حتى ولو لم يكونوا من الملاك السابقين للعقار.وفي العام 1992، أشارت لجنة حكومية إسرائيلية في تقرير "كلوغمان"، إلى "تصرفات خاطئة" و"تضارب مصالح" في نقل الملكية من هيئات حكومية إلى منظمات استيطانية. ووفقًا للقانون الدولي، لا يمكن للمحتل نقل السكان من أرض محتلة أو استبدالهم بمواطنين آخرين.تقول منظمات إسرائيلية مناهضة للاستيطان إن المدعين الثلاثة ينتمون إلى جمعية "عطيرت كوهنيم" التي تجاهر بأن هدفها "جعل الحياة اليهودية أكثر ازدهارًا" في القدس.وتؤكد "عطيرت كوهنيم" عدم تورطها في الشق القانوني، قائلة إنها مجرد "وسيط" بين البائعين الفلسطينيين والمشترين الإسرائيليين.ويقول المدير التنفيذي للمنظمة دانيال لوريا "ينطلق عملنا من العقار الأيديولوجي". ويضيف "نحن لا نجبر أحدًا على البيع، لكن إذا أراد عربي أن يبيع فلن نقول له إننا غير مهتمين".ويوافق بعض الفلسطينيين فعلًا على صفقات بيع للمستوطنين، على الرغم من أن ذلك يعتبر "خيانة" تصل عقوبتها وفق القانون الفلسطيني إلى الإعدام.وينظر الفلسطينيون الذين يزيد تعدادهم شرقي القدس عن 300 ألف نسمة، والذين يصارعون من أجل البقاء في المدينة، بقلق إلى كل عملية بيع ممتلكات يقوم بها فلسطينيون. ويعيش نحو 210 آلاف يهودي في القدس الشرقية.وتمنع إسرائيل السلطة الفلسطينية من العمل في القدس الشرقية. لكن السلطة تسعى للحفاظ على نفوذ فيها ولو كان محدودًا.وأوقفت إسرائيل محافظ القدس في السلطة الفلسطينية عدنان غيث مرات عدة العام الماضي على خلفية تحقيق حول صفقة بيع أراض، إذ يقول الفلسطينيون إنه حاول التصدي لمثل هذه العمليات.ووفقا لمنظمة "السلام الآن" المناهضة للاستيطان، يواجه 700 فلسطيني اليوم خطر إخلاء منازلهم لصالح المستوطنين. ويؤكد الرجبي أن عطيرت كوهنيم "استولت حتى اليوم على سبعة منازل لفلسطينيين".في العام 1991، تلقت عائلة الشلودي التي تقطن في منزل مساحته 70 مترًا في حي وادي حلوة في سلوان، نص دعوى في قضية مرفوعة ضدها من مستوطنين، على ما يقول عبد الحليم الشلودي.وبعد أكثر من عقد، وتحديدًا في العام 2003، يقول عبد الحليم إنهم تسلموا أمر إخلاء صادرًا عن المحكمة المركزية في القدس. لكنهم يرفضون حتى الآن إخلاءه طوعًا.منذ ذلك الوقت، لم يعد بإمكان عبد الحليم الأب لأربعة أبناء، النوم. ويقول "فقدت الأمل منذ زمن طويل"، لدرجة لا يعلّق آمالا على ما يقوم به محامون تنتدبهم السلطة الفلسطينية يقفون في مواجهة "مستوطنين نافذين جدًا ومطلعين".لكنه يقول بأسى "لا أتصور نفسي لا أمشي في هذا المنزل".وتقول حاغيت عوفران من منظمة "السلام الآن"، إن لدى المستوطنين "ميزانية غير محدودة وهم مستعدون لإنفاق الملايين على قطعة أرض صغيرة"، وتضيف "إنها لعبة غير متكافئة".وكشف تحقيق لهيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) مؤخرًا النقاب عن تلقي منظمة "إلعاد" الاستيطانية التي تنشط في وادي حلوة بين 2005 و2018، أكثر من مئة مليون دولار من مالك نادي تشيلسي الإنكليزي لكرة القدم رومان أبراموفيتش، من خلال شركات وهمية.ولم يصدر عن أبراموفيتش أي تعليق. أما إلعاد فقالت في ردها على سؤال وكالة فرانس برس، إنها "لا تتطرق إلى أسماء المتبرعين".ووجد الفلسطينيون حلفاء لهم في هذه المعركة العقارية، مثل تركيا التي تعمل من خلال وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، على ترميم منازل ومحال تجارية في البلدة القديمة في القدس الشرقية المحتلة عن طريق مؤسسات محلية، بهدف "تخفيف التحديات التي يواجهها المسلمون في القدس الشرقية بسبب سياسة التهويد الإسرائيلية".في هذا الإطار، أنشأ جواد صيام في سلوان "مركز معلومات وادي حلوة"، على بعد أمتار من مدخل "مدينة داوود" الأثرية بإدارة "إلعاد".ويتركز عمل المركز على كشف الحقائق وتوثيق "انتهاكات الاحتلال والجمعيات الاستيطانية في سلوان خصوصًا والقدس بشكل عام". وتساند المركز في عمله، لجنة الحي التي تتألف من شخصيات اعتبارية. ويقول صيام "أسست هذا المركز ليبقى اسم سلوان نابضًا".لكنه يرى أن دور المركز واللجنة غير كافيين، لأن "عطيرت كوهنيم لديها إمكانات أقوى من الدولة".ويتصدى مدير المركز ولجنة الحي لعمليات البيع للمستوطنين من خلال بيع أو تأجير العقار فور خلوه لفلسطينيين، وبالتالي جعل عملية حصول مستوطنين عليه أكثر تعقيدًا.ويقول جواد (51 عامًا) "من حقنا رفض الوجود الاستيطاني في القدس وسلوان (...) لكنهم يلاحقوننا للسيطرة على كل شبر وكل أرض فارغة".ويقول صيام الذي يطل منزله في وادي حلوة على سور البلدة القديمة الجنوبي مباشرة، بحزم "هذه معركة أبدية لن تنتهي إلا بزوالنا أو زوالهم".تسكن الإسرائيلية نيرا رابينوفيتش وهي أم لسبعة أطفال، بجوار عائلة الرجبي. وتقول وهي تقف على سطح المنزل الذي انتقلت إليه في العام 2006، "لسنا هنا لمعارضة العرب". وترى رابينوفيتش أن أي مستوطن إسرائيلي في الحي يحمل "مهمة عظيمة للغاية"، تتمثل في "إظهار حق الصهيوني في العيش حيثما يشاء في القدس"، والعودة على حد قولها "إلى حيث كان اليهود دائمًا يسكنون".لكن بالنسبة الى عبد الحليم، "الجميع عاشوا في القدس"، في إشارة إلى الإمبراطوريات التي توالت على المدينة. ويضيف "اليوم، نحن ندفع ثمن كل ما حصل هنا قبل ثلاثة آلاف عام".ويرى لوريا أن "العرب لم يكونوا في سلوان قبل عام 1882 (...) الوحيدون الذين يمكنهم المطالبة بالعقارات هنا هم اليهود".وقال المحامي الإسرائيلي ومؤسس جمعية "عير عميم" دانيال سيدمان إنه "حتى لو كان ذلك قانونيًا، فإن القانون جزء من نظام يخدم الاحتلال ولا يدافع عن الفلسطينيين".وأضاف أن "القانون يسمح لليهودي باستعادة الممتلكات التي كانت تملكها عائلته قبل العام 1948، ولا يسمح بالشيء ذاته للفلسطيني"، قائلًا "قد يكون هذا قانونيًا لكنه غير أخلاقي".ويسعى المستوطنون إلى التوسّع في مناطق أخرى غير سلوان في القدس الشرقية المحتلة، مثل الشيخ جراح والطور والبلدة القديمة، وغيرها.ويرى المحلل السياسي الخبير في شؤون القدس مناحيم كلاين أن "المشكلة الاستراتيجية لإسرائيل" هي أنها تسعى إلى "جعل المدينة يهودية بينما جزء كبير من السكان فلسطينيون". في المقابل، يرفض الفلسطينيون التنازل عنها لأن "القدس جزء من هويتهم".ويعلّق الرجبي في منزله أيضًا خارطة للحي تظهر عليها البؤر الاستيطانية الحالية والمنازل المهددة بالإخلاء. ويضع فوق طاولة الطعام ملفًا سميكًا يحتوي مئات الوثائق الرسمية لمعركته القضائية المستمرة.وفي حال أصدرت المحكمة حكمًا لصالح المستوطنين، فإن خيارات زهير ليست كثيرة وأمامه "الشارع"، كما قال مؤكدًا "سأبني خيمة أمام المنزل (...) أفضّل الموت في منزلي على أن أتنازل عنه".!!
*المصدر : القدس دوت كوم
القدس: تقرير.. نزاع على كل شبر عقارات بين المستوطنين والفلسطينيين..صور!!
20.12.2020