من الخطأ الأفتراض أن العرب الآن على شفير الهاوية وأن الأمة العربية مقبلة على النهاية . صحيح أننا نمر بأوقات عصيبة وأزمان لم نتوقعها ، ولكنها ليست النهاية . نحن مقبلون على نهاية حقبة وليس نهاية أمة . والحقبة التي امتدت منذ عهود الأستقلال في أربعينيات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه لم تكن حقبة انجازات وتنمية وسعادة بقدر ما كانت حقبة كوارث وأزمات سواء أكانت تلك الكوارث والأزمات من صنع أيادينا أو من صنع آخرين . ولكن تبقى الحقيقة المرﱠة أن الأنظمة العربية ساهمت في جعل تلك الكوارث ممكنة ، والشعوب العربية تتحمل جزأً من المسؤولية كونها فشلت في وضع حد لتلك الأنظمة وفي تقديم التضحيات اللازمة لفرض التحول الديموقراطي عليها . وهكذا فإن المسؤوليه تمس الجميع ، وعملية التجريم والتخوين لن توصلنا إلى شئ ولن تعيد إلينا ما فقدناه . وفي الوقت نفسه فإن البديل الذي طرحته الجماعات الأسلامية لحل مشاكل العرب بإعادتهم ألف وأربعمائة عاماً إلى الوراء من خلال نموذج دولة الخلافة الأسلامية لن يؤدي إلى توفير الحل السحري لمشاكل العرب ، بل سوف يزيدها تعقيداً واتساعاً لتشمل أيضاً مشاكل الدول والمجتمعات الأسلامية . فمهما تشدق الأسلاميون بالقول ، فإن ايران تبقى إيرانية أولاً والأسلام يأتي بعد ذلك ، وتركيا تبقى تركية أولاً والأسلام يأتي بعد ذلك وهكذا. فالأيمان بدين شئ والأنتماء لوطن شئ آخر ، ولا أحد منهما يمكن أن يحل مكان الآخر .
وإذا ما استعرضنا حال المنطقة العربية منذ بدايات عهود الأستقلال في أربعينيات القرن الماضي مروراً بنكبة عام 1948 ثم حرب السويس عام 1956 ثم حرب اليمن عام 1963 ثم حرب الأيام الستة عام 1967 ثم حرب عام 1973 بين مصر وسوريا واسرائيل ثم الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 ثم توقيع اتفاقات كامب ديفيد وخروج مصر من حلبة الصراع مع اسرائيل عام 1978 ، ثم اندلاع الحرب العراقية – الأيرانية عام 1980 ثم معركة بيروت عام 1982 ثم احتلال العراق للكويت عام 1990 ثم حرب الخليج الأولى عام 1991 ، ثم حرب الخليج الثانية عام 2003 ، ثم انطلاق مرحلة الربيع العربي منذ عام 2010 في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والأردن وغيرها ، وبداية مرحلة الأنهيار العربي التي نعيـشها الآن، لتـَوَصلنا إلى الحقيقة المؤلمة أن العرب لم يعيشوا حياة طبيعية تسمح بالأستقرار والتنمية ، بل عاشوا مسلسلاً من الحروب الدامية والخسائر التي أثرت عليهم وعلى مستقبلهم . وأن ما هم بصدد فقدانه الآن قد لا يكون في نهاية الأمر شيئاً مأسوفاً عليه شرط أن لا يكون البديل أسوأ .
مر العالم العربي منذ عهود الأستقلال بثلاث محطات رئيسية ساهمت في ايصال العرب إلى ماهم فيه الآن من انحلال وفرقة وتمزق ، وهي حسب تتابعها الزمني : أولاً : نكبة فلسطين عام 1948 ، ثانياً : هزيمة العرب عام 1967 وثالثاً : مرحلة السقوط العربي وهي مرحلة تراكمية أهم معالمها قيام دكتاتوريات عسكرية ابتدأت بانقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949 وما تلاه من انقلابات ساهمت في تدمير الحياة السياسية في الدول العربية التي حكمتها ، بالأضافة إلى فشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961 ، وفشل العرب في انقاذ لبنان من حربه الأهلية المدمره التي ابتدأت عام 1975 واستمرت لمدة خمسة عشر عاماً مما فتح الباب أمام الآخرين للتفكير في أن تقسيم الدول العربية وبلقنتها أمراً ممكناً ، بالأضافة إلى خروج مصر من حلبة الصراع مع اسرائيل بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ، ومحاولة خلق قومية بديله مقزمة من خلال تشكيل مجلس التعاون الخليجي عام 1981 ، والفشل العربي في الحفاظ على المبدأ الأساسي في مفهوم الأمن القومي العربي والمتمثل في عدم دعم العرب لأي قوة أجنبية في عدوانها على أي دولة عربية ، وذلك عندما ساهم بعض العرب مع أمريكا والغرب في العدوان على العراق عام 1991 مما فتح الباب لاحقاً للمساهمة في العدوان على العراق مرة أخرى وعلى ليبيا والآن العدوان على سوريا واليمن . وقد جعل هذا من استباحة الأرض العربية بمساعدة عربية لصالح الأجنبي أمراً عادياً بل ومقبولاً . وأخيراً سقوط الخيار القومي على أيدي أنظمة وأحزاب قومية ساهمت في القضاء على الحياة السياسية في بلدانها وجعلت من مرحلة السقوط العربي أمراً حتمياً . من الواضح أن تلك المحطات على أهميتها يجب أن لا تؤخذ منفردة وبمعزل عن السياق التاريخي وتطور الأحداث ، بل يجب أن تؤخذ بصفتها التراكمية التي تنقل الواقع من مرحلة إلى مرحلة أخرى في سياق تاريخي يعكس واقع الأمور ونتائجها السلبية .
ما نحن بصدده حقيقة هو إنهيار المفاهيم قبل إنهيار الدول والكيانات السياسية المرتبطة بها أو الممثـِلـَةِ لها . ومسعى تدمير الدول والكيانات السياسية العربية الجاري الآن ما كان يمكن أن يتم لولا النجاح في تدمير الأسس والمفاهيم التي استند إليها النظام العربي بعد سايكس – بيكو والذي اعتمد على اعتبار الدولة الوطنية هي الوحدة الأساس ، وأن الأطار العربي هو إطار نظري رومانسي يربط تلك الدول ببعضها البعض سواء من خلال مؤسسة قومية حتى ولو كانت ضعيفة وشكلية مثل جامعة الدول العربية ، أو من خلال القبول الشعبي العام لمواطني تلك الدول بأنهم عرب وأنهم جزء من أمة عربية . وعندما ابتدأت عملية التشكيك بذلك من خلال الهجوم على هذه الرابطة واعتبارها عبئاً على الدولة الوطنية ، ابتدأت في الوقت نفسه عملية إضعاف و تفكيك النظام العربي ومكوناته وأهمها الدولة الوطنية نفسها . وابتدأت عملية تجاوز الخطوط الحمراء التي توافق العرب عليها من خلال الرابطة القومية وأهمها العداء لأسرائيل طالما أصرت على البقاء كقوة احتلال . ومن هنا قفزت العديد من الدول العربية إلى حالة من السلام الخفي و التطبيع الطوعي والمجاني مع اسرائيل وبـَدَأ العـِقـْد العربي بالأنفراط وأخذ الكل يتصرف على هواه . وسقط برقع الحياء عن وجوه العديدين ، وابتدأت مرحلة جديدة من الأحتلال الأسرائيلي للأرادة العربية تميزت بنظرة عربية جديدة لأسرائيل باعتبارها دولة حليفة وصديقة ضد مخاطر قادمة من داخل العالمين العربي والأسلامي . وقد قلبت هذه الرؤيا الموازين وجعلت من اسرائيل مثلاً دولة حليفة استراتيجياً لبعض الدول العربية في صراعها مع ايران الأسلامية .
لا نستطيع الأدعاء بأن تاريخ العرب الحديث هو تاريخ فاشل تماماً . فبإستثناء السياسة ، كانت الأنظمة العربية الدكتاتورية القمعية متسامحة في المجالات الأخرى من العمل العربي المشترك سواء في الأقتصاد أو التعليم أو الفنون أو الثقافة أو مؤسسات العمل العربي المشترك ومؤسسات المجتمع المدني مما خلق أرضية واسعة للتفاعل المجتمعي ولكن دون أي امكانية للتقارب السياسي أو للتصرف من منطلق سياسي قومي . وهذا سَهـﱠل بالنتيجة إضعاف مفهوم الأمة دون الحاجة إلى اختراقها من أجل ذلك . والجهة الوحيدة التي كانت تهتم باختراقها في كل الأحوال هي اسرائيل ولأسباب اسرائيلية بحتة . فاسرائيل تحتل الأرض الفلسطينية مباشرة ، وتسيطر على الأرض العربية من خلال تفوقها العسكري ، ولكنها تريد أيضاً احتلال القلب العربي ، والتاريخ العربي والمستقبل العربي حتى يصبح احتلالها احتلالاً كاملاً وأبدياً ، ويتحول من احتلال طارئ إلى تطور طبيعي في السياق التاريخي للمنطقة ولكن بقيادتها كدولة شرعية في الأقليم .
إن البديل المطروح أمامنا للواقع المهترئ الذي نحن فيه هو تقسيم المنطقة وتحويلها إلى دويلات مذهبية . ولكن هل من المعقول أن تصبح عودتنا إلى عهود المذهبية ، وهي شكل من أشكال القبلـية الدينية ، هي النتيجة الحتمية للتطورات الحالية في المنطقة وأن يصبح هذا مطلباً جماهيرياً لأتباع كل مذهب؟
القـَبليـّة المذهبية هي التوجه الحتمي في ظل غياب أي بديل آخر . فالهوية القومية العربية بمفهومها السياسي يتم التخلي عنها أو التنصل منها بسرعة وعلى أرضية عدم توافقها مع طموحات الدولة الوطنية . والهوية الأسلامية يرفضها الكثيرون كونها هوية إقصائية عنيفة تستثني غير المسلمين من جهة والمسلمين اللذين لا يؤمنوا بالهوية الدينية من جهة أخرى ، بينما تحاول أن تجمع في كيان واحد طيفاً من البشر لا يملكوا أي قاسم مشترك فيما بينهم سوى الدين. وفي ظل هذا الوضع ، لا يبقى أمام المواطن العربي إلا الهوية الوطنية التي تمثلها الدولة الوطنية . ولكن هذه الهوية هي نفسها قيد الألغاء كون ما يجري الآن من أحداث وتطورات قد يؤدي إلى تفكيك الدولة الوطنية إلى كيانات سياسية مذهبية تُلغي بالنتيجة الهوية الوطنية . وهذا يعني أننا بصدد العودة إلى الواقع القبلي والعشائري ولكن بمسميات جديدة . ولكن هل هذا قدر محتوم أم ما زال بالأمكان تجاوز المحنة التي نمر بها ؟
تشير التطورات الأخيرة إلى أن هنالك تجربتان ناجحتان يمكن أن تشكلا بوصلة للآخرين لتجاوز الأخطار المحدقة بهم ، وهاتان هما : التجربة المصرية والتجربة التونسية .
بالرغم مما يطرحه البعض ، تبقى مصر هي حجر الأساس للمستقبل العربي . فمصر هي الدولة العربية التي سبق وجودها ، بحدودها المعروفة حالياً ، وجود العديد من الدول ومنها دول أوروبية . وقد وصف المفكر العربي منح الصلح العالم العربي بقوله "مصر والقبائل العربية" . مصر إذاً هي الدولة الأساس والدولة الأم وهي مركز الثقل "واذا ما صلح حال مصر صلح حال العرب" ، وبالطبع العكس صحيح . إذاً على العرب أن ينظروا إلى مصر مرة أخرى وأن يعملوا على اصلاح حالها ودعمها إن كان هنالك فعلاً حاجة حقيقية لذلك لأن في ذلك صلاح أمور العرب ، وأن يمتنعوا في المقابل عن إلحاق أي أذى بمصر تحت أي عذر . وقد استوعبت أمريكا هذا الكلام مبكراً وعملت بالتالي على اخراج مصر من حلبة الصراع مع اسرائيل من خلال اتفاقات كامب ديفيد . ومؤخراً حاولت أمريكا تفكيك الدولة المصرية من خلال دعمها لحكم الأخوان المسلمين لمصر بهدف تحويلها إلى دولة فاشلة ثم إلى أرض مشاع للمسلمين يقطنها المصريون وغير المصريين كما أصبح عليه الحال في سيناء تحت حكم الأخوان المسلمين . ولو قـُدﱢر لهذا المخطط النجاح لكان فيه دمار العالم العربي وتحويله إلى مجموعات بشرية متناحرة . وفي هذا السياق ومع أنه لا يختلف إثنان على أهمية الديموقراطية ، إلا أن السؤال يبقى في مدى المنفعة من تلك الديموقراطية فيما لو تمزقت الدولة واندثرت وتحولت إلى قبائل مذهبية متناحرة ؟ وهنا يجب على الجميع تقييم التجربة المصرية من هذا المنظور لأن الديموقراطية هي في النتيجة في خدمة الدولة وليس العكس . الديموقراطية هي نظام سياسي وإطار حامي للدولة بمكوناتها ، لا أكثر ولا أقل .
إن نجاح التجربة الديموقراطية في تونس وقدرة المجتمع المدني التونسي على فرض ارادته في المحافظة على مدنية الدولة التونسية ضمن إطار ديموقراطي يعطي مؤشراً لباقي الدول العربية على امكانية إجراء التغيير والتحول بالوسائل السلمية وبإطار ديموقراطي دون الحاجة إلى تدمير البلد وسفك الدماء . وهكذا ، فإن الأمل في وضع حد لعملية الأصلاح والتغيير الجارية بشكل دموي ومدمر في بعض الدول العربية ما زال ممكناً وقائماً إذا ما توفرت النية والأستعداد للتضحية من أجل ذلك . المصريون قدموا التضحيات ونجحوا والتونسيون قدموا التضحيات ونجحوا . ومحاولات الأخرين الخروج من المأزق الدموي بسفـك المزيد من الدماء وإلحاق الدمار ببلادهـم ، أو بالأكتفاء بتقديم القرابين والتضحيات المالية فداء لكراسيهم وعروشهم ، أو بالأستسلام الكامل لأرادة الأجنبي ، لن تؤدي إلا إلى مزيد من الدمار الذي سينتهي بالتقسيم والأندثار . وهنا يكمن الخيار إما إنقاذ البلاد من خلال التكاتف الوطني والتضحية أو الأستسلام لأرادة الأجنبي ولما هو قادم من حلول قبلية مذهبية .
عندما تـُفلس الأمة ترتقي الحُثالة إلى السطح : القبلية الجديدة في ثوب مذهبي !!
بقلم : د. لبيب قمحاوي* ... 03.11.2014