يقف الشرق الأوسط الآن على شفير حرب إقليمية مذهبية مخطط لها أن تطيح بالعديد من دول المنطقة وتحصد مئات الآلاف من أرواح أبنائها وتعيد تشكيلها على أسس مذهبية فضفاضة تفتقر إلى الهوية الوطنية والأرث الحضاري والإنتماء إلى كيان وطني .
هذا التطور الخطير لم ينبع بشكل طبيعي عفوي من داخل المنطقة العربية بقدر ما تسلل إليها على يد أدوات محلية تتصرف بإيحاء ودعم وتشجيع من دول من خارج المنطقة . لقد وَفـﱠرَتْ تلك الدول ما يلزم من دعم لمجموعة موتورة من البشر أبدت استعداداً وقدرة على القيام بالدور المناط بها بهدف التمهيد لهدم النظام السياسي العربي السائد وتمزيق دول المنطقة حتى لو تطلب الأمر إستعمال أقسى الوسائل وأكثرها دموية من أجل تحقيق ذلك .
ما نحن بصدده إذاً هو شئ يلامـس الحقيقة في واقعه الدموي الشرس والمُدَمـﱢر وأقرب إلى الخيال في أهدافه ونتائجه الغامضة . وهذه المعادلة نمطية ومتوقعة عندما تكون الأحداث مفروضة من الخارج والتحكم بنتائجها محصوراً في أيدٍ أجنبية . وحتى نعي أبعاد هذه الحقيقة المُرﱠة تماماً ونعترف بها وإن بغضاضة ، فإننا يجب أن نعترف أولاً بأن قدرتنا على استيعاب وفهم الأهداف النهائية لما يجري تبقى محدودة إن لم تكن معدومة كون العوامل المؤثرة عليها موحى بها من الخارج ولا يملك أهل المنطقة الوسائل للتحكم بمجرياتها أو السيطرة على نتائجها.
وعلى أي حال ، وفي حين لا يوجد أي إجماع على ماهية داعش وما تسعى إليه ، يوجد إجماع متنامي على صعوبة التنبؤ بمستقبل المنطقة وما ستتمخض عنه الصراعات المتتاليه التي تعصف بها وبدولها من تناحر وقتل وتشريد وتدمير وإستباحة للثروات الوطنية وتدمير للتراث التاريخي والإنساني استرضاء لأكذوبات تعود بنا مئات السنين إلى الوراء وتحاول إحياء طقوس ومفاهيم عفا عليها الزمن .
الزمن الذي احتاجته “داعش” حتى تتحول من فكرة آثمة إلى قوة ضاربة تثير الذعر والخوف في العالم هو قياسي في قِصَرِه . وإذا ما استوعبنا حقيقة أن داعش لم تبدأ كتنظيم بقدر ما ابتدأت كفكرة موحى بها من خارج المنطقة ، فإن المنطق يفترض أن داعش تلقت دعماً ملحوظاً من دولة أو أكثر بشكل مَكـﱠنَها أن تختصر المتطلب الزمني الطويل حتى تتمكن من الوصول إلى ما وصلت إليه في زمن قياسي .
ولكن ما الذي جعل من داعش التنظيم الأكثر والأسرع نمواً ؟ هل السبب يعود إلى كونه الأكثر دموية ؟ أم لوجود فراغ مدوي في أوساط الشباب الغاضبة ؟ أم لغياب بديل فاعل في واقع ملئ بالتناقضات ؟ أم للنجاح السريع الذي أحرزته داعش ؟
الواقع يشير إلى أن الأجابه الأقرب إلى الصحة تقبل كل التساؤلات الواردة أعلاه . ومع أن داعش إختارت أن تتجاهل القضية الفلسطينية وكذلك إسرائيل بإعتبارها عدواً للعرب والمسلمين ، إلا أن شعبية داعش المتنامية بين أوساط المقهورين والغاضبين تجاوزت ذلك وهي في ازدياد سواء أكانت تلك الشعبية صامتة أم صاخبة . ومن الصعب الحسم فيما إذا كان ذلك الموقف نتيجة لسقوط القضية الفلسطينية أصلاً من الإهتمام العام العربي والإسلامي ، أم لأن “داعش” إفراز أمريكي ملتزم بأمن إسرائيل ؟ أم كليهما ؟
أهم الأساليب التي تستعملها داعش من أجل الوصول إلى أهدافها هي غرس الخوف في نفوس أعدائها خصوصاً ، وفي نفوس الجميع عموماً ، وبشكل يجعل من إستسلامهم لإرادتها أمراً محتوماً . إن إدارة الصراع الدائر حالياً بالخوف والرعب أصبح الآن مرتبطاً بوضوح دامٍ بداعش وهي التنظيم الأكثر حداثه والأكثر خطورة ودموية والأسرع نمواً .
وقد زاد الأمر سوءاً أن العديد من الأفراد والجماعات التي تختار مبايعة داعش أو الإلتحاق بها تفعل ذلك بتصميم ملحوظ وعلى الرغم من الأخطار المحيطة بذلك القرار . وهذا يعني أن الأسباب التي تدفع البعض للإلتحاق بداعش لا تنحصر بالإسلام تحديداً بقدر ما يؤججها الغضب والرغبة إما في الإنتقام من أنظمة فاسدة ومتسلطة مهما كان ذلك الإنتقام وحشياً أو الرغبة في التغيير مهما كان ذلك التغيير دموياً . ولكن المأساة هي في كون هؤلاء الساعين للإلتحاق بداعش لا يعلمون أن هذا التنظيم إنما هو جزء من مؤامرة كبيرة ضد العرب والمسلمين . وهم بذلك ، ودون أن يعوا الحقيقة ، يساهموا في تدمير الشئ الذي يحاولون حمايته. إن الخداع الذي تمارسه وسائل الأعلام الدولية ووسائل الإتصال الحديثة يساهم في تحويل السراب إلى حقيقة ويخلق الوهم لدى الجميع بأنهم أمام تنظيم حقيقي قادر ، وأن العالم يقف عاجزاً أمامه .
النجاح ، كما يُقال ، يولد مزيداً من النجاح والفشل يولد مزيداً من الفشل . وداعش نجحت في بداياتها نجاحاً ملحوظاً . وهذا ، على ما يبدو ، قد شجع القوى القائمة على أمرها بالسماح لها بتوسيع برنامجها ومهامها ، خصوصاً وأن العديد من المجموعات الإسلامية الجهادية أو المتطرفة المبعثرة في كافة أرجاء العالم العربي قد تطوعت بالإعلان عن مبايعتها أو إنضمامها إلى داعش . وكبرت الفكرة وأخذ الهدف المحدود والمتمثل بتمزيق العراق وسوريا ينمو ليغطي معظم أرجاء العالم العربي الذي أصبح مفتوحاً أمام النشاط الإرهابي الدموي بإسم داعش دون أن يكون بالداعي مرتبطاً تنظيمياً بها كون داعش هي عنوان أكثر منها تنظيم . وهذا يعني أن الأوامر قد لا تصدر بالضرورة من قيادة واحدة لتنظيم واحد ، ولكن من قيادات مختلفة في بلاد مختلفة تؤدي دوراً واحداً متمثلاً بتدمير الدولة الوطنية لصالح شئ مبهم وغير مفهوم .
وفي هذا السياق تأتي مثلاً مبايعة تنظيم “بوكو حرام” الإسلامي النيجيري المتطرف لتنظيم داعش والإلتزام بطاعة زعيمه لتضيف بعداً جديداً إلى نشاطات داعش حيث ابتدأت في تجاوز حدود العالم العربي إلى أفريقيا . وهكذا انتقلت مرحلة إعادة النظر في نتائج سايكس – بيكو بسرعة مذهلة من هدم وتفتيت دول سايكس – بيكو إلى هدم وتفتيت النظام السياسي العربي بأكمله وتمزيق دُوَلِهِ كلما أمكن ذلك . والآن أخذت الأمور منحاً جديداً من خلال امتداد نشاطات داعش أو المنظمات التابعة لها إلى دول إسلامية غير عربية في أفريقيا ، ولا أحد يستطيع الآن تحديد أثر ذلك على دول شمال أفريقيا العربية .
ما يتعرض له العرب إذاً هو محاولة جدية وحثيثة لتدمير كلا الهويتين القومية العربية والحضارية الإسلامية وتحويل العرب من أمة إلى أفراد بهويات مذهبية بديلة لا معنى ولا قيمة لها ، بالإضافة إلى تصنيف الإسلام كمنبع للإرهاب وتحويله إلى دينٍ منبوذ دولياً من خلال إضفاء صفات الدموية الوحشية عليه وجعله عدواً للعالم المتحضر بإعتباره يوفر المبررات لقتل الناس وتدمير حضاراتهم وآثارهم الإنسانية تحت شعارات بائدة .
سير الأمور إذاً في إتجاه تجهيز الأرضية المناسبة لإنطلاق حرب إقليمية مذهبية يختلط فيها الحابل بالنابل وتفقد فيها الهويات الوطنية والحضارية أي قيمة وتصبح فيها حدود الدولة الوطنية أمراً لا معنى له . وما دار مؤخراً من قتال في قضاء الدور العراقي شاركت فيه ميليشيات لبنانية (حزب الله) وميليشيات إيرانية شيعية ضد قوى سنية عراقية ومعها داعش قد يكون مؤشراً على بداية حرب إقليمية مذهبية تختلط فيها الأمور وتختفي فيها الحدود . والمعضلة التي يجابهها سنة العراق الآن وخصوصاً في منطقة الأنبار هي الخيار بين داعش أو إيران . والمحزن أن وجود داعش هو مفتاح التدخل الإيراني في العراق تحت مسببات التخلص من داعش وإجرامها ، في حين أن وجود إيران من خلال سيطرتها على الحكم الشيعي المتسلط في العراق هو السبب الذي تسللت من خلاله داعش إلى منطقة الأنبار العراقية السنية تحت شعار مكافحة المد الشيعي . خياران أحلاهما مُرّ وكلاهما له نفس النتائج الوخيمة على العراق .
إن تعاظم الدور المذهبي الإقليمي لإيران لا يأتي فقط من قدرة إيران على لعب هذا الدور من خلال قوتها العسكرية حصراً . فإيران تتصرف بإعتبارها دولة قائدة في الشرق الأوسط ولها دور حضاري هام ومعترف به . ومطالب إيران في المنطقة هي جزء من الفلسفة السياسية للدولة التي تهدف إلى السيطرة على الدول الواقعة في محيطها مثل العراق بإعتبار ذلك استرداداً لما هو مفقود منها وحقاً وطنياً وتاريخياً وحضارياً لها . وإيران بذلك لا تتصرف كقوة إحتلال بقدر ما تتصرف كقوة استعمارية . وإذا كان الغطاء الذي تستعمله إيران لتنفيذ خططها مذهبياً شيعياً ، إلا أن أهدافها ومطامحها تبقى في أصولها قومية فارسية .
وفي هذا السياق فإن الأردن ، وهو دولة سنية ، قد يكون بصدد لعب دور إقليمي مذهبي أكبر منه ومن قدراته وذلك بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن قوى أخرى عربية وغير عربية تسعى إلى فتح باب التقاسم السياسي الإقليمي المذهبي مع إيران مبكراً وقد يكون ذلك على حساب عروبة المنطقة وإستقرارها . وهكذا يسعى الأردن ومن خلفه العديد من الدول العربية إلى الإنتقال من الشق العسكري لجهود مكافحة الإرهاب والقفز إلى مرحلة الحصاد السياسي للمرحلة التي تلي ذلك من خلال التمهيد لتحالفات إقليمية جديدة على حساب النظام العربي المنهار لصالح المذهبية الجديدة .
وهكذا نلاحظ أنه وللأسف الشديد لا يمكن تحليل الأوضاع الحاليه وتطوراتها المستقبلية دون الإستعانة بالمفردات المذهبية مما يعطي مؤشراً على الكيفية التي ستنتهي إليها الأمور في هذه المنطقة .
إن إنشاء “داعش” يهدف إلى أن يتم تنفيذ أحدث مخطط أمريكي ضد العرب بأيدي عربية وتحت عنوان إسلامي ، وأن يتم تدمير وتقسيم الدول العربية القائمة ، والإساءة إلى الإسلام إلى حد ربطه بالإرهاب والمطالبة بإعادة النظر فيه كدين ، وأن يتم تدمير التراث الحضاري والأرث الأنساني العربي بأيدي العرب والمسلمين . بإختصار أن يقوم العرب والمسلمون بتنفيذ مخطط قد لا تكون أمريكا أو إسرائيل قادرتين عليه أو راغبتين في تنفيذه مباشرة وبأنفسهما . وقد يكون الهدف وَضْع العبئ التاريخي والمعنوي والأخلاقي للكلفة البشرية لذلك المخطط ونتائجه على أكتاف العرب أنفسهم ، مع أنهم في النهاية هم الضحية بالرغم من أن الجَلاﱠد منهم أيضاً .
إن ما تقوم به داعش الآن أمر لم يشهده العرب أو يقوموا به من قبل . إن غرس عقدة الخوف وفرض الأنصياع الكامل المبنى على الرعب ، وتدمير الهوية العربية وكياناتها القطرية وتشويه الهوية الإسلامية وتدمير التراث الحضاري والإنساني لشعوب المنطقة وحرق المكتبات الوطنية وتدمير المتاحف والآثار وإستنزاف الثروات النفطية وسرقة الآثار وبيعهما إلى الخارج بأثمان زهيدة وعمل كل ذلك بإسم العرب ولصالح أمريكا وإسرائيل وعدم إتخاذ أي موقف عدائي من أمريكا وإسرائيل ، كل هذا وأكثر هو من إنجازات داعش .
لقد نجحت داعش في خلق طقوس وثقافة داعشية تجمع بين النمطية والمثابرة الدموية وجهزت الأرضية لتفتيت دول المنطقة العربية وفتح الباب أمام حروب مذهبية دينية وصفقات مذهبية سياسية سوف تدفع المنطقة إلى حلول بعيدة عن العروبة وضمن رؤيا إسلامية أو عرقية جديدة أساسها إما المذهبية الدينية أو المذهبية العرقية التي تهدف إلى إستبدال الهوية العربية بهويات أضيق بكثير تترجم نفسها بدويلات لا قيمة لها إلا إذا أصبحت تدور في الفلك الإسرائيلي أو الإيراني أو، ربما، التركي.
الحرب الإقليمية المذهبية: داعش كذبة عالمية كبيرة والعرب والمسلمون صَدﱠقوها!!
بقلم : د. لبيب قمحاوي ... 10.03.2015