المفاوضات ليست مجرد محادثات أو دردشات، وإنما هي أخذ ورد بين أطراف المفاوضات بهدف الوصول إلى نتائج مرضية لكل الأطراف أو للطرفين في غالب الأحيان. وحتى تكون النتائج مرضية للطرفين لا بد من توفر مقومات تفاوضية تؤدي إلى النجاح المأمول، وغياب هذه المقومات لن يؤدي إلا إلى الفشل لأن أحد الأطراف سيغبن وسيصحو على نفسه ذات يوم ليتألم من نتائج لم يستطع عقله التفاوضي أن يستوعبها في حينه. ومن الوارد جدا أن يتمرد الطرف المغبون على نتائج المفاوضات ويحجم عن الالتزام بها، فينشب الصراع من جديد وكأن مفاوضات لم تجر. وعندما يدرك طرف مفاوضات أنه لا يملك مقومات التفاوض الناجح فإنه يجنح إلى الاستسلام بدون طاولة مفاوضات، وهذا هو عين العقل. فهو يدرك أنه لا يستطيع الوصول إلى نتيجة مرغوب بها وأن الطرف الآخر هو الذي يمسك بطاولة التفاوض ولا ضرورة عندها للمكابرة وخداع الذات تفاوضيا.
ربما في المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية ما يجعل هذا الأمر أكثر وضوحا. لقد ذهب الفلسطينيون إلى طاولة سموها طاولة مفاوضات، ولكن دون مقومات تفاوضية فخسروا أنفسهم وربحت إسرائيل واستمرت في عدوانها على الشعب الفلسطيني.
يشير النموذج الإيراني الأمريكي التفاوضي إلى نجاح، وخرجت الأطراف المختلفة راضية عن النتائج. لم يحقق أي طرف نجاحا كاملا ولا فشلا كاملا. أنجز كل طرف شيئا مقابل تقديم تنازلات، ونجح الطرفان في تجنب الحرب التي كان يمكن أن تكون مدمرة للمنطقة العربية الإسلامية فيما لو نشبت. وواضح أن كل طرف احتفل خطابيا وبالتصريحات الإعلامية على طريقته الخاصة.
السؤال الأولي قبل التفاوض
من المفروض أن يسأل كل طرف في عملية تفاوضية متوقعة عن أوضاعه قبل كل شيء وذلك بالسؤال: هل سأذهب إلى طاولة المفاوضات كندّ للطرف الآخر، أم سأكون مجرد ملحق لطاولة يتناولها الإعلام على أنها طاولة مفاوضات؟ وحتى يتمكن المفاوض من الإجابة، عليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة. هل أملك من القوة العسكرية ما يكفي لإقناع الطرف الآخر بأنه لا يستطيع أن ينتصر في أي مواجهة عسكرية ضدي أم لا؟ ومن ثم عليه أن يسأل عن قدراته الاقتصادية وكيف يمكن أن تؤثر في الخصم إن قرر اتخاذ خطوات افتصادية عقابية؟ هل أستطيع التأثير في اقتصاد الطرف الآخر وإيقاع خسائر اقتصادية به؟ ومن ثم عليه أن يقيم قوته الأخلاقية وفيما إذا كان شعبه يملك قوة أخلاقية استثنائية تفرض نفسها على الجو العام للمفاوضات. والأسئلة يجب أن تستمر حول القدرات العلمية والتماسك الاجتماعي ومنسوب احترام الإنسان في الدولة، الخ.
ليّ الأذرع
لا يذهب المرء إلى طاولة المفاوضات للي ذراع الطرف الآخر وإنما لتحقيق نتائج مرغوب فيها، لكنه يذهب بوعي تام حول قدراته على ليّ الذراع فيما إذا تطلب الوضع التفاوضي ذلك. المفروض أن يذهب كل طرف إلى طاولة المفاوضات وبيده أوراق يمكن أن يستعملها أثناء العملية التفاوضية لتليين مواقف الطرف الآخر وإقناعه أن عدم الخروج بنتائج أسوأ بكثير من نتائج لا تلبي تطلعاته وآماله. لكن هذه الأوراق لا يتم كشفها دفعة واحدة، ومن المتوقع أن يكشف الطرف المفاوض من الأوراق ما يكفي لإقناع الطرف الآخر أن هناك ما يكفي من القوة للتعامل معه في أحلك الظروف. المعنى أن المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض، وإنما وهو متمكن وقادر. والمفاوض يكشف أوراقه تدريجيا وذلك تبعا لسير العملية التفاوضية. فعند كل منعطف وعر يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعا. فإيران مثلا كانت تعمد إلى القيام بمناورات عسكرية بالتزامن مع جولات المفاوضات مع ظهور أسلحة جديدة متطورة وذلك لتقديم رسائل واضحة للمفاوضين الغربيين بأن الحرب لن تكون نزهة فيما إذا قرر الغرب ضرب المنشآت النووية الإيرانية. ولذلك انخفض سقف أهل الغرب من التهديد المستمر بضرب إيران وتدمير منشآتها إلى الارتياح لتجنب الحرب وحل الإشكاليات سلميا حتى لو أبقت إيران البنية التحتية لمشروعها النووي.
الانكشاف
يجب أن يعمل المفاوض دائما على الاحتفاظ بأسرار الدولة وقدراتها ومقومات صمودها واستطاعتها على المواجهة. إنها مشكلة كبيرة أن ينكشف المفاوض أمام الطرف الآخر لما في ذلك من فرصة كبيرة للطرف الآخر لتكييف أوضاعه بطريقة تتناسب مع ما يملك المفاوض الآخر من مقومات البقاء والاستمرار والمواجهة. الدولة المخترقة أمنيا، أو المفاوض المكشوف أمام الطرف الآخر لا يتميز بقوة المفاجأة، ولا يستطيع أن يكون ندا على الطاولة. الخصم يبرمج أوضاعه بطريقة تتناسب مع رغباته، وهو يكون أكثر قدرة على اللعب بأوراقه عندما تتوفر لديه معلومات وافية عن الطرف الآخر. وهذه مشكلة طالما عانى منها العرب والفلسطينيون بسبب انكشافهم أمام الإسرائيليين. تملك إسرائيل معلومات وفيرة حول البلدان العربية وأنظمة الحكم والجيوش والأجهزة الأمنية، وعادة تذهب إلى المفاوضات وبحوزتها معلومات عن الطرف الآخر أكثر مما يعرف الطرف العربي عن نفسه. وقد حصل أن سأل المفاوض الفلسطيني المفاوض الإسرائيلي عن مواقع فلسطينية أثناء العملية التفاوضية.
إيران منكشفة إلى حد قليل أمام إسرائيل والغرب، وسبق أن تمكنت إسرائيل من اغتيال علماء نوويين إيرانيين، لكن إيران استطاعت أن تعمل بالسر، وأبقت على الكثير من المعلومات التقنية والعلمية بعيدة عن أعين الغربيين. وواضح أن أهل الغرب لا يعرفون تماما قدرات إيران العسكرية والعلمية والتقنية، وفي كثير من الأحيان يرتدعون بسبب قلة المعلومات لديهم حول الطاقات الإيرانية. طبعا لا يوجد دولة في العالم محصنة من الانكشاف بما فيها الدول النووية، لكن المسألة نسبية، وإيران تحرص على أسرارها ليس من قبيل التكتيك فقط وإنما من قبيل االعقيدة الإسلامية أيضا إذ قال عليه الصلاة والسلام: " استعينوان في قضاء حوائجكم بالكتمان." ولولا أن إيران أبقت على سرية نشاطاتها لما وضعت أهل الغرب وإسرائيل في حيرة من جدوى الحرب عليها.
القدرات العلمية
الدول العظيمة تحرص جدا في هذا الزمان على التطوير العلمي لأنه هو أساس المعرفة، وهو أساس التطوير التقني. لا تتمكن الدول من إحراز تقدم تقني بدون إحراز تقدمي علمي، ولن تتمكن من تحقيق الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية ما لم تكن مستقلة علميا وتقنيا. الدول العظيمة هي التي تحرص على صناعة العلماء في مختلف التخصصات وتقدم لهم مختلف التسهيلات لإجراء البحوث العلمية المتنوعة، وهي تحرص أيضا على استقطاب العلماء من مختلف الدول وتقدم لهم الإغراءات من أجل أن يعملوا في جامعاتها ومراكز أبحاثها. لم تبخل إيران في توظيف الجهود والأموال من أجل الانتقال من دولة مستوردة للمعرفة إلى دولة منتجة لها. لقد أيقنت إيران منذ عام 1979 أنها لا تستطيع مواكبة الركب العلمي العالمي إلا إذا انتهجت التفكير العلمي والمناهج العلمية في عملية بناء الدولة، وهذا ما مكنها من بناء مؤسسات علمية رائدة، ومن تطوير تقنية تمكنها من الاعتماد على نفسها. أما نحن العرب فما زال علماؤنا يهجرون أوطانهم هاربين إلى الغرب، وما زلنا ننفق أموالا طائلة لشراء السلاح الغربي.
قوة الشعب
يحتاج المفاوض سندا قويا يدعمه في العملية التفاوضية، وقوة الشعب هي أفضل سند يمكن أن يعتمد عليه المفاوض. الشب الراقي أخلاقيا الذي يؤمن بقدراته وكرامته يعطي المفاوض قوة دفع بسبب صموده وذكائه في امتصاص الآلام والمحن والأحزان. الشعب الملتزم وطنيا والمؤمن بوطنه والمتماسك اجتماعيا لا يلين أمام الضغوط ولا يسمح بتنازلات على طاولة المفاوضات تؤثر على مستقبل الشعب والأوطان. عندما يكون هناك شعب ناهض متمسك بحقوقه ولديه الاستعداد للتضحية من أجل قضاياه، فإن المفاوض يستمد قوته من هذا الشعب كما أن الخصم يخشى الشعب الحي المتماسك والمتمع بدرجة عالية من الالتزام، ويدرك تماما أن شعبا من هذا القبيل لا يمكن أن يحترم اتفاقيات لا تحترم كرامته وعزته وتاريخه. ولهذا من الحيوي أن يقيم المفاوض قدرات شعبه قبل أن يحمل حقيبته التفاوضية.
وضوح الهدف
على المفاوض أن يكون صاحب رؤية وصاحب هدف. يجب أن يكون هدف المفاوضات واضحا لديه، وليس بمعزل عن الشعب. المفروض أن يشارك الناس في صياغة الأهداف عبر مختلف الوسائل والأطر حتى لا يضل المفاوض الطريق. وهذا ما حرصت عليه إيران أثناء عملية التفاوض بكافة مراحلها. أراد الإيرانيون تجنب الحرب لكن دون التخلي عن برنامجهم النووي، وحصروا المفاوضات في مسألة واحدة فقط وهي البرنامج النووي، ولم يسمحوا للغرب بتوسيع نطاق المفاوضات.
الضعف والاستجداء
الضعف ليس حالة جيدة للذهاب إلى طاولة المفاوضات لأن المفاوض خالي الوفاض ولا يلوي على أي نوع من أنواع القوة يقنع بها خصمه لن يستطيع فعل شيء يؤثر سلبا عليه. والخصم يقابل المفاوض الضعيف وهو يعي أنه لن يفاوض بجدية وإنما يجري مفاوضات من قبيل الإحسان. أي هو الذي يقرر ماذا يعطي للضعيف، وهو الذي يقرر مسار التفاوض والمواضيع التي يجب التركيز عليها. في هذه الحالة، يلجأ الضعيف إلى الاستجداء وطلب العون من الآخرين. إنه لا يملك قدرات تفاوضية، ويستعيض عن ذلك بالبكاء والعويل والاستنجاد بهيئة الأمم المتحدة وما ينبثق عنها من مؤسسات. ومجرد أن بدأ الضعيف بعملية الاستجداء، يدرك الطرف الآخر أن خصمه قد استسلم.
الوسيط
هناك من المفاوضين من يستقوون بالوسطاء ولا يجدون في النهاية من يسعفهم. هذا العالم عالم قوة ومصالح، والوسيط في النهاية لا يتبنى أهداف الضعفاء وإنما أهداف الأقوياءئ. هذا ما فعلته أمريكا مع الفلسطينيين الذين طلبوها وسيطا لحل الصراع وتجهيز حل للقضية الفلسطينية. الوسطاء لا يقدمون أنفسهم قرابين لمساعدة المساكين والضعفاء، وإنما يحرصون دائما على تحقيق مصالحهم. وإذا كان لمفاوض أن ينجح فإن عليه أن يبني أسباب قوته. وإذا كان لضعيف أن يفاوض وهو على وعي بضعفه فإنه لا يسعى إلى حل المشاكل وإنما إلى توريط شعبه بسوء صنيعه.
إيران تجاوزت الضعف
إيران لم تحقق مجرد نجاح في المفاوضات مع الغربيين فقط، وإنما صنعت لنفسها مكانة عالمية تجبر الدول العظمى على احترامها. لقد أيقنت إيران منذ البداية أن من لا يستطيع صناعة الحرب لا يستطيع صناعة السلام، فعملت بكل طاقاتها على بناء قواها في مختلف المجالات وكانت مفاوضا صلبا عنيدا وملتزما. ولهذا سيعمل الذين فاوضوها على حقوقها النووية على كسب ودها مستقبلا ولو على حساب الضعفاء في المنطقة العربية الإسلامية.
مقومات التفاوض الناجح: النموذج الإيراني!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 30.04.2015