يقول الإمام الغزالي " الدين يفسد السياسة، والسياسة تفسد الدين".
يتمثل الدين بنوعين من العلاقات، علاقات خاصة محصورة بين العابد والمعبود، وعلاقات عامة بين الإنسان والإنسان على صعيد الأسرة والمجتمع الذي يعيش فيه. إنها علاقات تشبه لحد ما السياسة الخارجية، حيث تقسم العلاقات الى ثنائية ومتعددة الأطراف. فالعبادات تعتبر علاقات ثنائية محددة بطرفين فقط، هما الذات الإلهية الخالدة والنفس البشرية الفانية. وهناك عدد من الآيات الكريمة تؤكد هذه الحقيقة، ففي سورة المدثر/47(( كل نفس بما كسبت رهينة)) وفي سورة الزلزلة/ 7-8((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)). لذا أثرها ديني خالص، ومحصلتها مصير الفرد في الآخرة. بلا أدنى شك إن الإلتزام بالفرائض الإسلامية وأعمال البرٌ والتقوى، تعني توثيق العلاقة بين الخالق والمخلوق، ومن شأنها إن تدخل الإنسان المؤمن الجنة. وضعف تلك العلاقة أو إنعدامها بمعنى الركون الى الشرٌ وإتباع وسوسة الشيطان، من شأنها إدخال الجاحد والشرير إلى جهنم وبئس المصير.
تتجسد العبادات في أداء الشعائر وهي الفرائض الخمسة مضافا اليها فريضة الجهاد مع ما يتعلق بها من أمور ذات صلة بالعقيدة وهي مسائل مُسلم بها ولاتحتاج أصلا الى التحديث والتعديل لأنها وضعت بفعل وإرادة إلهية تتلائم مع كل الأزمنة والأمكنة. كما إن المُثل الاسلامية العليا لا تحتاج أيضا الى تعديل وتحديث لأنها مرتكزات أساسية تبني عليها شخصية الإنسان أولا، والمجتمعات البشرية ثانيا، وقد تضمنتها الأديان السماوية والوضعية على حد سواء. لا يوجد دين يحث على الفتن والكراهية والفرقة والخصال السيئة، هناك فرق ولكن ليست أديان.
أما المعاملات فهي علاقات متعددة الأطراف بين الأفراد، سواء الفرد مع الفرد أو مع المجتمع، وقد حددت معالمها التعاليم السماوية وتركت للإنسان الخيار. لذا فإن آثارها الظاهرية دنيوية بسبب تأثرها وتأثيرها في المجتمع، ولكن محصلتها النهائية مزدوجة في حساب الدنيا والآخرة. ومع إختلاف النوعين من العلاقات من حيث الميزات والوسائل والنتائج، لكن هذا لايعني إنهما منفصلتان عن بعضهما البعض، بل يكمل احداهما الآخر. لأن إختلال التوازن في المعاملات من شأنه ان ينعكس على العبادات، والعكس صحيح. ومن المؤسف أن الخيط الفاصل بين العبادات والمعاملات قد قُطع عند بعض الحركات الاسلامية والنخب الثقافية عن عمد او جهل او خلط في المفاهيم مما أدى الى تشابك وضعين أحداهما يتعلق بشئون السماء(المعبود) والآخر بشئون الأرض (العباد).
وهذا الأمر يمكن ملاحظته في الدول التي تحكمها أحزاب إسلامية أو تعتمد القرآن الكريم كمصدر رئيس للتشريع الدستوري كما تزعم، وهي الأبعد عن الإسلام فعلا وممارسة، كنظام الملالي الحاكم في إيران ونسخته المشوهة العراق. العراق نموذج حي للخلل في هذه المعادلة، فقد مسخه الإحتلال الأمريكي الإيراني إلى شعب من قش وحكومة من ورق. والأحزاب الحاكمة في العراق هي أحزاب دينية من حيث التسمية والظاهر، بإستثناء بعض الأحزاب العلمانية كالحزبين الكرديين في شمال العراق والقائمة العراقية وبعض الأحزاب المنزوية بعيدا على الخارطة السياسية للبلد.
فحزب الدعوة الإسلامية بشطريه والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية وحزب الله وحزب الفضيلة والتيار الصدري وعصائب أهل الحق، ومنظمة بدر جميعها ذات ولاء للنظام الحاكم في إيران، وهي تدار وتوجه من قبله مباشرة. ولا يُخفى بأن إيران هي اللاعب الرئيسي في العراق بعد أن أفرغت له إدارة الغزو الامريكي الساحة من بقية اللاعبين المنافسين! ومحاولة التنويه بقوة التأثير الخليجي والتركي سيما على أهل السنة هي في الحقيقة محاولة مفلسة يتذرع بها أقزام الولي الفقيه في العراق لا أكثر، وحتى ان وجد تأثير ما في جانب معين، فأنه لا يمكن أن يقارن في أي حال من الأحوال بالتأثير الإيراني! فإيران هي الحاكم الفعلي في العراق بإعتراف المسؤولين العراقيين أنفسهم قبل الإيرانيين. وأفضل معيار لفصل هذه المسألة هو عدد الميليشيات الحاكمة في العراق ولأي جهة ولائها.
لقد أساءت الأحزاب الدينية ـ التى إتخذت من صفات الذات الإلهية والإسلام إسما لها ـ إساءة بالغة إلى الذات الإلهية المقدسة وللدين الإسلامي على حد سواء، إنها التجارة بأسم الله والإسلام لا أكثر، وهذا الأمر ينطبق على كافة الأحزاب الإسلامية سواء الشيعية أو السنية، فإن نجحت هذه الإحزاب كان الخير لها فقط، وان فشلت كانت تبعات فشلها على الله والإسلام! وكان الأولى بمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تصدر بيانا لا يجيز للأحزاب السياسية المتاجرة بإسم الذات الإلهية والإسلام، فقد أساءوا اليهما بما لا يقل عن أساءات أعداء الإسلام.
بلا أدنى شك إن تنوع الاحزاب والكتل السياسية دون التستر بالدين لا ضرر منه البتة، فهذا التنوع كالزرع المختلف الذي يشبع الحاجات البشرية المتعددة، اذا كانت التربة واحدة والرعاية متساوية والثمار للجميع، ولكن بسبب عمالة الأحزاب الحاكمة، وتنفيذها أجندات خارجية لشق الصف وإثارة الفتن، والعمل وفق رؤية حزبية ضيقة، ومآرب مصلحية وإنتهازية، فهذا الأمر يجعل المصالح الوطنية في الشرق، ومصالح الأحزاب العميلة في الغرب، ولا يمكن أن يلتقيا يوما. الأحزاب الإسلامية الحاكمة في العراق مثلا أقل ما يقال عنها هي أحزاب خسيسة، وزعمائها وعناصرها جواسيس لأنهم ينفذون أجندة اجنبية ويعملون لصالح أعداء الشعب. والتستر من قبل هذه الأحزاب بالدين إنما يزيد من رصيد سيئاتهم، فهم أبعد خلق الله عن الدين، واقرب خلق الله للشياطين.
قادة هذه الأحزاب الفاسدة وبيادقهم في الحكومة ومجلس النواب كما يتراءى للبعض هم من الملتزمين بالدين! حيث ترى جباههم مختومة بختم البطاطا الناري كمؤشر على كثرة الصلاة! رغم معرفتنا بشيوخ قضوا عمرهم في العبادة والصلاة والزهد، ووجوهم تشع أيمانا ونورا دون أن تتوسم جباههم الشريفة بختم البطاطا(التاتو التعبدي)! العجيب ان المرجع الأعلى علي السيستاني نفسه لا يمتلك ختم في جبهته!
الأعجب منه في أمر التاتو التعبدي وهو ـ كما يبدو ما لا يعرفة الزعماء والمراجع الشيعية ـ إن الختم كان من أبرز من صفات عبد الرحمن بن ملجم، كدلالة على إيمانه وتعبده، ولم يكن هناك ختما في جبهة الإمام علي بن أبي طالب كما نشير الروايات الشيعية، يا لخيبتهم! إنهم يقلدون من قتل إمامهم! ذكر البلاذري " كان ابن ملجم رجلا أسمر حسن الوجه أبلج، شعره من شحمة أذنيه،مسجدا- أي في وجهه أثر السجود ـ".(الأنساب/505). وعند الرجوع الى كتاب مقاتل الطالبيين وغيرها من الكتب التأريخية لا نجد إشارة إلى وجود التاتو التعبدي في جبهة علي بن أبي طالب.
يحاول الزعماء السياسيون أن يظهروا أنفسهم كأصحاب الحجيج السنوي الدائم، مع انهم يسرقون الشعب من صياح الديك لحد نعيق البوم. كأن العبرة في عدد الحجات! مع إن النبي محمد(ص) لم يحج في حياته الا مرة واحدة فقط وهي حجة الوداع وكان يعيش قرب الكعبة المشرفة! عن قتادة قال" قلت لأنس بن مالك كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة في ذي القعدة وعمرة الحديبية وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة ،إذ قسم غنيمة حنين". (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي). وقال إبن القيم" لا خلاف أنه (ص) لم يحج بعد هجرته، إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع سنة عشر هجرية". (زاد المعاد). وفي موسم الحج يتعطل عمل البرلمان والحكومة العراقية، ليتفرغوا لحجهم غير المبرور، وسعيهم غير المشكور، فأصل الحج عندهم ليس حُسن التعبد، بل التصنع والمباهاة. ولا نعرف كيف يبتهلون إلى الله وأياديهم المرفوعة قد سرقت ثروة الشعب، واصابعهم ملوثة بدماء شعبهم المبتلى بهم؟
في شهر رمضان أيضا يشلٌ عمل البرلمان والحكومة، ويسافر النواب الصائمون وغير الصائمين إلى دول الغرب (بلاد الكفار) حيث تسكن عوائلهم، ليشاطرونهم السحت الحرام! ونحن لانشكك في صحة صومهم، فالله اعلم ما في القلوب لكن نشكك في قبوله عند الله تعالى! فالصوم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس صوما، بل (ريجيم) أي نظام غذائي لتخفيف اجسامهم المترهلة لتتناسب مع ضعف ضمائرهم وخفة ايمانهم.
الدين الحق لا يحتاج إلى مظاهر التزين والتبرج الرجالي كالعمامة والسبحة والخواتم المتعددة في الأيادي، واللحية الكثة، والنسب الكاذب وتاتو البطاطا الجبهوي، فهذه مظاهر البراقة غرضها الضحك على ذقون الجهلة والحمقى بغرض إستغفالهم وابتزازهم. الإيمان الحقيقي يكمن في القلب، وينعكس على السلوك الإنساني والعلاقة الطيبة والتفاعل الإيجابي مع الآخرين. التقوى أساس العبادة، كما ورد في سورة الحجرات/13(( إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) . والحديث النبوي الشريف" المسلمون أخوة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى". (راجع تفسير إبن كثير).
من المؤسف أن تُستغل تلك المظاهر الدينية لخداع الجهلة والمتعلمين على حد سواء، فيبالغون في تقديم الولاء والطاعة لمن هم أقل منهم معرفة وعلما وزهدا وربما ايمانا وشرفا، فيطلقون على الدجالين لقب (مولانا، سيدنا، شيخنا، مرجعنا) وعلى الدجالات (علوية وزينبية). وبعض السذج من الناس على إستعداد لإشباع رغبات السادة المادية بل والجنسية أيضا لأن جدهم رسول الله! الذي إنتهى نسله بوفاته، ولم يخلف من يحمل إسمه، لحكمة يعلمها الله وحده!
المعممون بدورهم إستفرغوا جهودهم في تعلم فنون الدجل والخديعة، فأصطنعوا مختلف السبل لإبتزاز أتباعهم ماليا وماديا واخلاقيا، فقلبوا الحقائق الى خرافات وأساطير ودجل، وشوهوا سمعة الأئمة بالخزعبلات التي سرعان ما ترسخت بمرور الزمن في عقولهم الجهلة الخاوية. وعملوا بجد وعزم على نشر الأمية بين أتباعهم ليضمنوا غفلتهم وسهولة إستغلالهم بالخمس(سرقة بإسم الدين)، وصرفوا عقولهم الواهنة والمثقلة بالمتاعب عن الواقع المرير الذي يعيشون فيه، ثم أفرغوا عقولهم و جيوبهم وإنتهكوا أعراضهم، ولنا في ممثل المرجع الأعلى مناف الناجي ـ رمز المرجعية كما سماه السيستاني بعد ان إنتشرت الفضيحة وليس قبلها ـ أسوة سيئة. لقد نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين دون أوراق ثبوتية من الله تسمح لهم بذلك الحق.
لاشك ان رجال الدين عندما غادروا مساجدهم وحوزاتهم ومنابرهم ودخلوا في أقبية ودهاليز الحكومات والبرلمانات فشلوا فشلا ذريعا في الجانبين الديني والسياسي معا. فضيعوا المشيتين معا أي أشبه بقصة الغراب الذي أراد ان يغير مشيته كالطاووس فلا هو نجح في تقيلد الطاووس، ولا تمكن من الرجوع الى مشيته السابقة كغراب. إنهم لم يرضوا الله تعالى كرجال دين، ولم يرضوا العباد كسياسيين. لقد تحولوا إلى فقهاء السلطان، يفتون بكل ما يريح الحكام ويخدمون سياسته الرعناء في أذاء الشعب، بل تنصلوا حتى من إبداء المشورة الصحيحة للحاكم إبتغاءا لوجه الله تعالى أو صالح الناس. وهذا الأمر ليس بجديد! ففي تأريخنا الإسلامي الكثير من الشواهد، لأن فقهاء السلاطين يتناسلون كما يتناسل نظرائهم الطغاة.
ولم يكتفوا بتكثيف همتهم كوعاظ للسلاطين وإنما تمادوا في غييهم ليكونوا وعاظا للمحتلين يروجون لمشاريعهم الإستيطانية وإثارة الفتن الطائفية والعنصرية، ويباركون قوات الإحتلال بلا حياء، ويقفون بالضد من المقاومة الشرعية، بل يحرمون الجهاد ضد القوات الغازية.
قال الشاعر:
من ينصر الخوان فهو شريكه ومن يألف الكذاب ساءت مقاصده
وهذه الحالة الشاذة نادرة في تأريخ الشعوب المستعمرة. مع إن الفرق بين الإستعمارين القديم والحديث هو أن الأول كان يعتمد القاعدة (فرق تسد) والثاني طورها إلى (فرق،عرق، لفق، تَسد!).
احزاب الإسلامية ولكن بنزعات شيطانية؟
بقلم : علي الكاش ... 16.06.2015