توفر لدينا منذ أشهر العديد من المؤشرات وحتى البراهين على أن هناك ترجعاً ما حدث في موقف دمشق مما يسمى بمحور «الممانعة والمقاومة» الذي كانت سوريا تتفاخر بأنها أهم أعمدته في المنطقة. لقد بدأنا نلحظ نكوصاً أو فرملة في العلاقة بين المحور المذكور والنظام السوري، فعلى ما يبدو أن حليمة عادت إلى عادتها القديمة، فمن المعروف عن النظام تاريخياً أنه في الظروف الحرجة يتنصل من كل شعاراته المقاومجية ويضع كل أوراقه في السلتين الإسرائيلية والأمريكية كما فعل منذ عقود وعقود، حتى خلال حرب ألفين وستة بين «حزب الله» وإسرائيل وقبلها أثناء الغزو الأمريكي للعراق. واليوم يعيد الكرّة. لاحظوا كيف جرى خلال الأشهر الماضية اغتيال عدد كبير من الشخصيات الإيرانية النافذة على الأرض السورية. وقد وجهت إيران أصابع الاتهام إلى السلطة السورية واتهمت بعض أركانها بإعطاء الإحداثيات لإسرائيل كي تصطاد قيادات إيرانية عليا على الأرض السورية. وهذا يؤكد أن النظام يعرف كيف يلعب بالبيضة والحجر عندما تصبح رقبته في خطر.
واليوم في ظل الأجواء الأكثر توتراً بين إيران وإسرائيل، بدأنا نتأكد أكثر فأكثر أن السياسة السورية القديمة (النأي بالنفس) عندما يجد الجد تطل برأسها من جديد، فقد خرس النظام تماماً منذ بداية عملية طوفان الأقصى. ويتخذ بشار اليوم وضعية المزهرية منذ بداية الحرب على غزة، ولم يطلق تصريحاً يتيماً لصالح الفلسطينيين، لا بل إنه منع المساجد في سوريا من الدعاء لأهل غزة.
وقد وصل الأمر بالنظام إلى تجاهل كل الأحداث الخطيرة التي ألمت بمحور الممانعة في الأيام الماضية، فلم يقدم حتى التعزية باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ولا باغتيال فؤاد شكر الشخص الثاني في «حزب الله». وقد امتنع أيضاً عن التعليق على حادثة مجدل شمس التي أودت بحياة عشرة أطفال سوريين من الجولان السوري المحتل، كما لو أنه يقول لإسرائيل والغرب والعرب (أنا ماليش دعوى).
ولم يكتف بشار بالصمت، بل إن صحيفة خليجية نشرت خبراً يقول إن النظام أوعز لقواته في عموم البلاد وخاصة على الحدود مع إسرائيل بالصمت التام وعدم المشاركة في أي عمليات حربية قادمة، حتى لو تعرضت لاعتداءات إسرائيلية مباشرة.
وينقل الباحث السوري جورج فاضل متى عن مصادر مطلعة أن بشار الأسد أمَر ممثله الديبلوماسي في لبنان «علي دغمان» بعدم المشاركة في مراسم تشييع القائد العسكري لـ «حزب الله» وأوعز لإعلامه بعدم بث خطاب «نصرالله» وأبلغ بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل رسمياً بأنه «غير معني بتوسع الحرب» ولا يعنيه اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس أو فؤاد شكر بشيء، وبأنه ملتزم بـ «تفاهم 1974 الأمني (السري) مع إسرائيل، بما في ذلك منع أي جهة من استخدام الأراضي السورية للتعرض لإسرائيل أمنياً».
*بشار الأسد ملتزم كوالده بالمقايضة التاريخية الكبرى المبرمة بين نظام الأسدين وإسرائيل وهي سلامة الجولان وهدوء الحدود مقابل بقاء العائلة في قصر المهاجرين
ومن المعلوم أن النظام أبرم تفاهماً أمنياً سرياً مع إسرائيل في 28 أيار/ مايو من العام المذكور لـ«حماية حدودها ومستعمراتها في الجولان من أية أعمال إرهابية فلسطينية أو غيرها». وقد وقعه يومها في القصر الجمهوري «هنري كيسنجر» كضامن للتفاهم وكممثل للحكومة الإسرائيلية و«عبد الحليم خدام» كممثل للنظام، وقام العقيد «محمد الخولي» رئيس فرع المخابرات الجوية والمستشار الأمني الخاص للرئيس «الأسد» الأب آنذاك، بتسريب صورة منه إلى أصدقائه في محطة مخابرات ألمانيا الشرقية في دمشق.
ويبدو أنه كلما لاحت عاصفة او زلزال سياسي يتقدم تفاهم كيسنجر- الأسد الأب وتطويب أولبرايت ـ للأسد الابن على كافة خيارات النظام، ومن الواضح أيضاً أن الأسد تعلم الدرس جيداً وحفظه كما فعل أبوه من قبل وأدرك تماماً أن أي «فتيشة» (ألعاب نارية بلغة السوريين) تطلق في اتجاه إسرائيل سيكون ثمنها رأس النظام وهذا ما حصل مع صدام حسين، وابراهيم رئيسي والقادة الفلسطينيين، وهذا هو اليوم سر تلكؤ وتباطؤ وتقاعس إيران عن ضرب إسرائيل، فإسرائيل خط أحمر وبشار ملتزم كوالده بالمقايضة التاريخية الكبرى المبرمة بين نظام الأسدين وإسرائيل وهي سلامة الجولان وهدوء الحدود مقابل بقاء العائلة في قصر المهاجرين، وهذا هو سر هذا البقاء الأزلي لنظام المقاولة الكاذب رغم الأنواء العاصفة التي ضربت وزلزلت وقوّضت أنظمة وحلفاء لإسرائيل أقوى منه بكثير كبن علي ومبارك. ولا تلتفتوا أبداً لجعجعة أبواق النظام وخطابه عن المقاومة، فبقاؤه في السلطة جاثماً على صدور السوريين هو خياره المفضل الأول والأخير ولتذهب المقاومة والمقاومون إلى الجحيم.
ويبدو ما يسمى بمحور المقاومة اليوم كبالع الموس على الحدين في تعامله مع النظام السوري، فمن ناحية فهو يشعر بالخيبة والخذلان، وقد وصل الأمر بحسن نصر الله في خطابه قبل الأخير إلى الغمز من قناة النظام السوري عندما قال حرفياً: «نحن في المقاومة سنرد على إسرائيل مباشرة، ولن نلجأ إلى التكتيك السخيف وهو الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين» وهي الديباجة الممجوجة التي يستخدمها نظام الأسد منذ عقود للتهرب من الرد على الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. لكن نصرالله عاد في خطابه الأخير ليبرر تقاعس النظام السوري في دعم المقاومة، عندما قال إن سوريا غير معنية بدخول الحرب، وأنه يتفهم وضعها. والسبب أن إيران والحزب يحتاجان إلى سوريا حتى لو تقاعست عن نصرتهما، لأنه لولاها لما استطاعت إيران تمرير قطعة سلاح واحدة للحزب. والنظام يعرف من أين تؤكل الكتف في التعامل مع إيران وإسرائيل والعرب في مثل هذه الظروف الحرجة والدقيقة.
وأخيراً، فإن السؤال الأهم الذي لا بد أن نطرحه: هل فعلاً بدأ يبتعد النظام السوري عن حلف المقاومة في إطار استراتيجية سورية جديدة مستقلة تحت تأثير المغريات العربية والدولية والدواعي الوطنية، أم إنه مجرد تكتيك مرحلي صوّري ومناورة مفضوحة معتادة بمباركة إيرانية لكسب قلوب العرب والغرب مرحلياً لمساعدته في الخروج من أزمته القاتلة وتجنيبه ضربة إسرائيلية هو بغنى عنها؟ باختصار هل خرجت سوريا من المحور، أم أُخرجت، أم تناور كما فعلت منذ عقود ولعبت على كل الحبال العربية والإيرانية والإسرائيلية؟ وإذا انقلبت فعلاً، من يعوض السوريين عن خمسين عاماً من الذبح والقمع والسحق والنهب والسلب بحجة الصمود والتصدي وخزعبلاته المكشوفة؟
هل خرجت سوريا من «محور المقاومة»؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 10.08.2024