
لا شك بأن بعض الأنظمة العربية الحاكمة، وخاصة التي ثارت عليها الشعوب وأسقطتها كالنظام السوري المخلوع، هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن دفع بعض الحركات والجماعات والعرقيات والطوائف إلى البحث عن الانفصال. لقد فشل معظم الأنظمة العربية على مدى أكثر من ستين عاماً في بناء دولة لكل مواطنيها، مما جعل شرائح واسعة من مجتمعاتها تتطلع إلى الانفصال. كثيرون فشلوا في خلق دول بالمعنى الكامل للكلمة مما جعلها دائماً مهددة بالتفكك والانهيار كما يحدث الآن في العراق، وسوريا، واليمن ولبنان، وليبيا.
فبفضل طريقة الحكم التي كانت قائمة على الدوائر الضيقة والمقربين جداً وحرمان الناس من المشاركة السياسية حتى في إدارة البلديات تمكنت بعض الأنظمة من تفتيت مجتمعاتها وقطع كل الروابط البسيطة التي كانت تجمع بينها، فزاد التعصب القبلي والطائفي والعشائري وحتى العائلي، بحيث أصبحنا ننظر إلى سايكس وبيكو على أنهما ملاكان رائعان، لأنهما على الأقل لم يتلاعبا بطوائفنا ومذاهبنا وعوائلنا وقبائلنا ونسيجنا الاجتماعي والثقافي الداخلي، كما لعبت أنظمتنا الأقلوية بمختلف أشكالها.
يقول المثل الشعبي: «الثلم الأعوج من الثور الكبير». بعبارة أخرى، فإن تلك الأنظمة المسماة دولاً زوراً وبهتاناً لم تضرب «لرعاياها» مثلاً يُحتذى في بناء الدولة والحفاظ عليها وجعلها قبلة جميع العرقيات والطوائف والمكونات التي تتشكل منها. ماذا تتوقع من أي شعب إذاً عندما يرى نظامه يحكم على أسس قبلية وطائفية ومناطقية؟ هل تريده أن ينزع في اتجاه الاندماج أم في اتجاه الانتماء الضيق وربما الانفصال والانسلاخ؟
فطالما أن هذا النظام أو ذاك جهوي أو طائفي بامتياز، فلا بأس أن يحافظ الناس على طائفيتهم وعصبيتهم ويتمسكوا بهما. كيف نطالب الشعوب العربية بأن تتقارب من بعضها البعض وتتوحد إذا كانت أنظمتنا تمعن في طائفيتها ومذهبيتها وقبليتها المقيتة؟ وبالتالي فإن الانفصاليين والمتمردين على الدولة المركزية العربية لا يستحقون دائماً أبداً تهمة الخيانة، فالخائن الحقيقي ليس الذي يطالب بالانفصال كصرخة ضد التهميش والعزل والإهمال والظلم والغبن والمحاباة والأبارتيد العرقي والطائفي والمناطقي، بل أولئك الذين دفعوه إلى الكفر بالوحدة الوطنية المزعومة.
*ماذا يستفيد الشعب إذا انتقل من تحت الديكتاتور الأكبر إلى تحت الديكتاتور الفرعي الأصغر؟ لا تنسوا أن كل الفروع التي تحاول أن تستقل عن الأصل هي نسخة طبق الأصل عن الأصل في طريقة التفكير وحتى في الرموز والشخصيات التي ستحكمها
لكن مع كل ذلك، فالانفصال وتفتيت الأوطان ليس حلاً أبداً، وخاصة للطوائف والجماعات والأعراق التي كفرت بالدولة المركزية. فالزمن ليس زمن الدويلات والكانتونات العرقية والطائفية والمذهبية، بل زمن التجمعات والتكتلات الكبرى. فالقوى التي تهيمن على العالم كلها اتحادات وليست دويلات. الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، الهند كلها تجمعات كبرى مكونة من أعراق ومذاهب وأديان مختلفة. ولا تنسوا أنه حتى القوى الكبرى الأخرى في العالم تتحد ضمن تجمعات عملاقة، كما يحدث اليوم في مجموعة «بريكس» التي تضم عمالقة العالم. فهل يعقل إذاً أن تنحو بعض الجماعات الصغيرة في بلادنا في اتجاه الانفصال عن دولها الصغيرة في وقت يتحد فيها الكبار ضمن تكتلات عظمى؟ والسؤال الأهم: هل نجحت أي جماعة انفصلت عن الدولة الأم في بناء دول يٌحتذى بها في المنطقة؟ لقد صارع جنوب السودان عقوداً وعقوداً كي ينفصل عن الشمال، ونجح أخيراً في الانفصال والاستقلال في دولة جنوب السودان. لكن ماذا أنتجت الدولة الجديدة؟ هل ازدهرت اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وثقافياً؟ أم إنها ازدادت تخلفاً؟ ألم يصبح جنوب السودان منذ استقلاله الحديث مثالاً للصراعات القبلية والسياسية والجهوية والدولة الفاشلة؟
لقد ظن الجنوبيون أن كل شيء سيصبح على ما يرام بمجرد إعلان الانفصال عن الشمال دون أن يدروا أن دولتهم الجديدة نقلت معها كل أمراض الشمال السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا يعني أن الحل لا يكمن في الانفصال أبداً، بل في معالجة الأسباب التي تدعو الناس إلى الانفصال. هل يختلف الديكتاتور سيلفا كير عن الجنرال البشير؟ بالطبع لا، فهذا الفرع من ذاك الأصل. كل الطبقة السياسية التي تتحكم بجنوب السودان الآن هي نسخة طبق الأصل عن الطبقة الحاكمة في الشمال. وطالما ظلت تتصرف بعقلية الشمال، سيبقى الوضع على حاله، وربما يتفكك الجنوب ذاته.
لقد نجح بعض الجماعات العرقية في الشرق الأوسط في الاستقلال جزئياً عن الدولة الأم، وأصبح لها سفارات وقنصليات واقتصاد خاص وبرلمان. لكن هل يختلف نظام الحكم في المناطق المستقلة عن النظام الحاكم الذي استقل عنه، أم إنه أيضاً يحمل كل أمراضه السياسية والسلطوية بشكل مصغر؟
هل الحل في الانفصال عن الأصل وتشكيل كيانات مصغرة عنه بنفس الأمراض والتصرفات والسياسات؟ ماذا يستفيد الشعب إذا انتقل من تحت الديكتاتور الأكبر إلى تحت الديكتاتور الفرعي الأصغر؟ لا تنسوا أن كل الفروع التي تحاول أن تستقل عن الأصل هي نسخة طبق الأصل عن الأصل في طريقة التفكير وحتى في الرموز والشخصيات التي ستحكمها.
لا يمكن أبداً أن نحل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتقسيم الأوطان وتفتيتها إلى كانتونات ودويلات ومحميات صغيرة انتقاماً من هذا النظام أو ذاك. هذا ليس حلاً، بل هو إمعان في تدمير الأوطان وشرذمتها. وبدل أن نشرذم بلادنا ونقطعها إرباً إرباً، تعالوا نحتكم إلى الديمقراطية الحقيقية وبناء دولة المواطنة القادرة على جمع كل المتناقضات والطوائف والمذاهب والأعراق وصَهرها في بوتقة واحدة.
فعندما يشعر الجميع بأنهم مواطنون، بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وأعراقهم، لن يفكر أحد منهم أبداً بالانفصال أو الاستقلال، بل سيدافعون جميعاً عن الوطن يداً واحدة.
تعالوا نبني أوطاناً لكل أبنائها! تعالوا نتقاسم السلطات والثروات بدل تقاسم الأوطان!
