"الاسلام دين ودولة" هي المقولة السياسية الأكثر رواجاً ووطأة وتأثيراً في أوساط جماعات الإسلام السياسي التي نشأت خلال العقود الماضية وتستمر معنا إلى الآن في المشهد السياسي العربي والإسلامي، وقد سك هذه المقولة وأطلقها حسن البنا مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" في عشرينيات القرن الماضي. ورغم أنها مقولة سياسية بامتياز وليست مبدأ دينياً إلا أنها تطورت خلال العقود الماضية وانتقلت من جيل حركي إلى آخر في أوساط الإسلاميين لتتحول إلى قناعة دينية. الترداد المتكرر لها في الأدبيات الإسلاموية ودفاع منسوبي الجماعات الإسلامية عنها رفعها إلى مصاف ما هو مُقدس مما لا يُناقش فيه ولا يفكر في نقده أو الاعتراض عليه. والآثار العميقة والمدمرة لهذه المقولة خلال العقود الماضية تجاوزت بطبيعة الحال القناعات النظرية لتُترجم عمليا في شكل محاولات مُستميتة لتطبيقها على الأرض، بما عناه ذلك من إطلاق لصراع دموي مرعب على السلطة باسم الدين ولتطبيق جانب الدولة فيه.
من ناحية نظرية وتاريخية ونصية، وكما يجادل الصديق رضوان السيد، فإن هذه المقولة لا أساس تأصيليا لها، بل هي مُستحدثة وجديدة، انتجها الإسلام السياسي السني والإسلام السياسي الشيعي، كل لأهدافه الخاصة به، لكنها لا تقوى على الوقوف أمام أي نقاش ديني ونصي حقيقي، وفي أحسن الأحوال (بالنسبة لمناصيرها) لا تتعدى أن تكون فكرة سياسية خلافية، لكنها بالتأكيد ليست من صلب الدين ولا من أركانه.
عندما صاغ حسن البنا هذه الفكرة، أي "الإسلام دين ودولة"، كان في العشرينيات من عمره، ولم يكن عالماً في الدين أو متضلعا في سجالات الشريعة والسياسة، واغتيل وهو في النصف الثاني من أربعينات عمره. كل الكتب والترجمات التي سجلت تاريخ الرجل تكاد تتفق على قدرته التنظيمية، لكنها تتفق أيضا على تواضع علومه الدينية وبكونها لم تؤهله لأن يكون عالماً أو مجتهداً فضلاً على أن يكون "إماماً" ومجدداً. معنى ذلك انه استنزف جل وقته وحياته القصيرة نسبيا في الانشغال في بناء تنظيم "الإخوان" وإدارة الصراع السياسي مع الخصوم الحزبيين، ومع حكومة الملك فاروق، وأيضا في إدارة التوترات الداخلية مع بروز أجنحة مختلفة داخل التنظيم نفسه. في كل ما نشره البنا ليس هناك تأصيل شرعي وديني عميق لأي مسألة من المسائل الشائكة التي واجهت علوم السياسة الشرعية، مثل أصول الحكم وعلاقة الدين بالسياسة. بل معظم ما تركه يدور حول مقولات وشعارات مصوغة بأسلوب خطابي شديد التأثير، قابل للحفظ وغير قابل للنقاش، والقصد منها التعبئة والحشد وتأهيل الأعضاء والمنتسبين وفق منظومة تربوية وحزبية محددة. والغريب المدهش لاحقاً أن معظم إن لم يكن كل تلك المقولات رددتها أجيال "الإخوان" بشكل أعمى وغير نقدي ومن دون تمحيص واختبار. وتجد كثيرين من قيادات الإخوان ممن هم في الثمانينيات من عمرهم وممن مرت عليهم تجارب طويلة، وشهدوا تغير الظروف، والزمن، والسياسة، وهم يقتبسون بكل إقرار وشبه تقديس من "الإمام البنا"، ويكررون مقولاته وكأنها خارقة للمكان والزمان وتتسم بالتأبيد المعرفي.
بطبيعة الحال من حق كل حزب، وكل قائد حزبي أن يسطر أية مقولات أيديولوجية وتعبوية تهدف إلى حشد الأنصار وترويج برنامجه السياسي، بيد أن الأمر يختلف عندما يحدث هذا في إطار حزب ديني يركب الطروحات السياسية التي يتبناها على روافع دينية. ففي هذه الحالة تتمثل الخطورة الشديدة والمدمرة في تحول المقولة السياسية أو الفكرية (الإسلام دين ودولة مثلاً) إلى قناعة دينية. ويمكن القول هنا إنه لو أتيحت وسيلة ما لإجراء مسح بحثي وعلمي على قناعات شرائح عريضة من القواعد والأعضاء لـ"الإخوان" وغيرهم وسؤالهم حول هذه المقولة لكانت النتيجة مدهشة لجهة اعتقاد كثيرين منهم بأن هذه الفكرة هي جزء من الدين ومبادئه. ونعرف جميعاً أن تأثير هذه المقولة امتد ليتجاوز فكر "الإخوان" ومناصريهم، وليطال كل تشكيلات الإسلام السياسي، بل وليصل إلى بعض مناهج التعليم الرسمية في بعض الدول العربية والإسلامية.
الخطورة التي لا ينتبه لها حتى أشد المتدينين في أوساط الأحزاب الإسلاموية تتمثل في أن المقولات التي تصوغها أحزابهم، مثل "الإسلام دين ودولة"، تتسرب تدريجياً وخلال المسيرات والمصائر الحزبية الطويلة وعبر آليات التعبئة الداخلية، والتأهيل المغلق وغير النقدي، إلى وعي الأفراد والقيادات وتحتل مواقع مجاورة للقناعات الدينية. وانطلاقا من تلك المواقع والقناعات، أي القناعة بأن الإسلام دين ودولة، يتم خوض السجالات والمعارك السياسية ثم الانتخابية إن أصبحت الظروف مواتية. وعلى رافعة الشعبية واتساع رقعة المناصرين ثم الفوز في الانتخابات وما يتلوها من مشاركة في الحكم أو تغلب فيه، يُصار إلى ترجمة تلك القناعة على الأرض: عملياً، وسياسياً، ودستورياً إنْ امكن، وتلبيسها ثوبا دينياً. وهكذا تتسلل مقولة سياسية عبر العمل الحزبي الدؤوب، ثم الفوز على الخصوم السياسيين انتخابيا وديمقراطيا، إلى مبدأ ديني يترجم على شكل مبادئ دستورية، بكونه قاعدة لا نقاش فيها. معنى ذلك أن الأحزاب السياسية التي تستخدم الدين في السياسة تسير في مآلات تقودها إنْ آجلاً أم عاجلًا إلى التلاعب في طبيعة الدين نفسه وإقحام سياساتها في قلبه ومبادئه، وكأنها تغير طبيعة الدين ذاته.
ما يجب أن يدركه "الإسلاميون" قبل غيرهم أن ما يقومون به عبر تديين السياسة وتسييس الدين إنما يعمل على تشويه الدين فضلا عن تدمير السياسة. وتشويه الدين يتجاوز هنا ما هو منُاقش ومعروف من آليات التوظيف المباشر للدين لخدمة السياسة، ونقل الصراع السياسي إلى ساحة الدين، وساحة الصواب المطلق والحق، مقابل الخطل المطلق والضلال. إنه تشويه يصل الى العبث بالجغرافيا القيمية والمعيارية للدين وإدخال معايير جديدة اصلها وفصلها هو الحركية الاسلاموية ونظرتها للسياسة واساليبها.
انتهاك ثوابت الدين بمتغيرات السياسة!!
بقلم : د. خالد الحروب ... 06.12.2013