من هو صاحب المصلحة الحقيقية في إضعاف وشل المؤسسات الدستورية للدولة الأردنية ، وفي تدمير التعليم بمستوياته المختلفة ، وفي إفقار المواطن الأردني واغراق اقتصاد الأردن بمديونية لا قدرة له على سدادها ناهيك عن خدمتها ، وأخيراً لعب دور عدو الشيطان أو صديقه في تحالـفات أدت إلى خلق بعض منظـمات الإرهاب حيناً والحرب عليها حيناً آخر ؟
ما هو الشئ الذي يجعل هذا البلد الصغير الفقير قادراً على أن يضرب الأرض برجليه مطالباً العرب بهذا ومطالباً العالم بذاك ، ومتمتعاً بهدوء ظاهري على السطح وأّمْنٍ أسبابه غامضة في الوقت الذي ينزف فيه الكبار من حوله حتى الموت . هل هي حكمة القيادة وذكائها الخارق ؟ أم موقع الأردن الجيوبوليتيكي على أطول حدود مع إسرائيل ؟ هل هو انعكاس لقدرة أردنية ذاتية أم لقرار خارجي أجنبي ؟
من المعروف أن كل العرب القريبين جغرافياً من محيط إسرائيل لا يريدون أي نقطة تماس معها. ومن المعروف أيضاً أنه منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي ، كان موقف الأنظمة العربية، حتى الثورية منها ، سلبياً تجاه أي محاولة تهدف إلى تغيير نظام الحكم في الأردن خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تدخل إسرائيل العسكري في الوقت الذي يفتقر فيه العالم العربي إلى القدرة على التصدي لها . إن مثل هذا الوضع الذي لم يطرأ عليه تغيير جذري حتى الآن قد تم استيعابه من قبل النظام الأردني الذي أخذت حساسيته تجاه الشعب تخف مع مرور الوقت نظراً لقناعته المتزايدة بأن بقاءه في الحكم لا يعتمد على الشعب بل على تأييد ودعم قوى خارجية .
تسير الدولة الأردنية بخطى ثابتة نحو الإنحدار التدريجي من وضع ما إلى ما هو أسوأ منه ومن مرحلة ما إلى ما هو دونها . فهذه الدولة التي ابتدأت كتجمعات عشائرية تفتقر إلى البنية الأساسية للدولة انتقلت بخطى ثابتة نحو التحول إلى مجتمع أردني وبناء مؤسسات الدولة طبقاً لدستور عام 1952 . واستطاعت أن تبنى اقتصاداً مختلطاً بسيطاً بعيداً عن المحسوبية والرشوة والفساد وأن تضع الأساس لنظام تعليمي حظي باحترام عام خارج الأردن بحيث كان خريجي الجامعة الأردنية يحظون بالتقدير في دول الخليج وفي داخل الأردن . وفي بدايات الثمانينات من القرن الماضي ابتدأت يد الخراب والفساد تعبث بالتعليم العالي والأقتصاد ومؤسسات الدولة الدستـورية بواسطة النظام وعلى يد بعض كبار المسؤولين فيه .
بدأ الخراب في التعليم العالي من خلال سياسة المكرمات الملكية بالإضافة إلى تـَدَخـُلْ الأجهزة الأمنية في تعيين أعضاء الهيئة التدريسيه وموظفي الجامعات ليؤدي كل ذلك إلى بداية عملية إنهيار مريعة فاقمها نظام البعثات الحكومية للدراسات العليا والذي تدخلت فيه المحسوبية ونفوذ أجهزة المخابرات على حساب الكفاءة ليعود أولئك المبتـَعَثين بمستوى علمي متدني . وأدى إشغال هؤلاء المبتـَعَثين في وظائف التدريس في الجامعات الأردنية أو شغل المناصب العليا في مؤسسات الدولة إلى تسارع ملحوظ في انحدار مستوى الأداء في تلك المؤسسات والجامعات وإنحدار مستوى خريجيها أيضاً إلى الحد الذي أساء بشكل ملحوظ لسمعة جامعات هامة مثل الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا . وهَبَطَ مستوى التعليم الثانوي بمناهجه التي عبثت بها جهات عدة لتُخـَرﱢج أجيالاً دون مستوى التحصيل اللائق للألتحاق بالجامعات. وانحدر مستوى الجامعات بالتالي من طرفيها الأساسين ، الطلبة والأساتذة ، وإستمر هذا الإنحدار في التفاقم إلى أن أصبحت الشهاده الصادره عن أي جامعة أردنية نهاية الطريق لحاملها وليس بداية الطريق .
وإمتد هذا الوضع ليشمل معظم مؤسسات الدولة الأردنية التي اعتمدت معايير ومقاييس تفتقر إلى النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرصة ، وأعطيت الأولوية للجهوية والعرقية والمحسوبية وأصبحت الكفاءة هي أقل المعايير أهمية وأبعدها عن التأثير على فرص المتقدم للحصول على الوظيفة . وابتدأت يد الأجهزة الأمنية تطول إلى أن وصلت إلى كافة مفاصل الدوله وأصبح رضى الأجهزة الأمنية هو المقياس الأهم والرافعة الأقوى للوصول إلى المنصب الهام أو المنصب العام .
وابتدأ التداخل بين مؤسسات الدولة الدستورية من خلال تشابك منابعها الأمنية المشتركة . الوزير لا يصبح وزيراً والنائب لا يصبح نائباً والعين لا يصبح عيناً وكذا السفير واستاذ الجامعة الخ ... إلا برضى وموافقة الأجهزة الأمنية . وتم تأهيل أجيال من الناقدين والأعلاميين ومسؤولي الصف الأول والثاني جميعها تدور في فلك الفخ الأمني الذي يُدير الأردن . وهكذا تداخلت الأمور وسيطرت مؤسسة واحدة ، وهي المؤسسة الأمنية ، على كافة مؤسسات الوطن الأردني ، وابتدأ السباق في التغول بين مؤسسات الدولة كل مؤسسة تريد السيطرة على الأخرى ولكن دائماً تحت راية المؤسسة الأمنية . والأهم في سباق التغول كان وما زال بين الحكومة كسلطة تنفيذية ومجلس النواب كسلطة تشريعية ولم يكن للأسف تنافساً ضمن الأطر الدستورية ولكن تنافساً أقرب ما يكون إلى التنافس الإحلالي ، بمعنى أن كل طرف يريد أن يهيمن على الطرف الآخر وأن يستحوذ على سلطاته . وبالطبع فإن موقف الجهاز الأمني من أي موضوع خلافي هو الفيصل الذي يحسم الأمور من خلف الستار .
ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد . فقد تفاقمت إلى حد انتزاع السلطات الدستورية من يد الحكومة ووضعها في الديوان الملكي وهو إطار وظيفي وليس دستوري . وأصبحت السلطة التنفيذية الحقيقية في قضايا السياسة الخارجية والأقتصاد بالأضافة إلى القوات المسلحه والأجهزة الأمنية محصورة بالديوان الملكي وموظفيه .
إن حصر عملية إتخاذ القرارات الهامة والمصيرية في أيدي أشخاص قليلين معظمهم لا يشغل مناصب ذات صفة دستورية مثل الحكومة أو مجلس النواب هو بحد ذاته مدخلاً لمزيد من الإضعاف للمؤسسات الدستورية وإلغاءاً عمليا لمبدأ الشفافية والمحاسبه . وتم شل قدرة مجلس النواب على ممارسة دوره الرقابي على السلطة التنفيذية بينما يتم في الوقت نفسه استثناء السلطة التنفيذية من حقها الدستوري في ادارة شؤون الدولة واتخاذ كافة القرارات التي يسمح بها الدستور طبقاً لمبدأ تقاسم السلطة الدستوري الذي يسمح لمجلس النواب بمراقبتها ومساءلتها ومحاسبتها في حين لا يجُيز الدستور لمجلس النواب فعل الشئ نفسه مع الملك أو مع موظفي الديوان الملكي الذين يديرون الأمور بالفعل .
يحاول البعض تبرير ما يجري في الأردن من خلال الأدعاء بأن الأردن مفروض عليه استيعاب عواقب التغيير الأقليمي والفلسطيني . كلام كبير ولكن يفتقر إلى الحقيقة . فلا شئ يتم بالأكراه سوى الأحتلال العسكري . وما دون ذلك فهو عباره عن صفقات بين نظام الحكم المعني وقوى خارجية . وهذا الأمر عادة ما يتم بمعزل عن الشعب أو مؤسسات الحكم باستثناء قلة من المسؤولين والمستشارين اللذين يشكلوا نواة مؤسسة الحكم . وهكذا يتم إتخاذ قرارات مصيرية في الأردن وتمريرها بمعزل عن أي مشاركة شعبية أو رقابة دستورية . وفي المقابل يكون الموقف الشعبي من تلك القرارات إما سلبياً أو قابلاً بها أو رافضاً لها إذا ما شعر الشعب بأن تبعات ذلك القرار أو تلك السياسات سوف تؤثر سلباً على مصالحه أو على مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة . وهذا ما نلحظه بوضوح في الموقف الشعبي من التدخل الأردني في الأزمة السورية سواء أكان ذلك التدخل علنياً أو غير معلن ، وكذلك النتائج المترتبة على ذلك الموقف من ناحية اللجوء السوري الهائل إلى الأردن وفشل الأردن أو عدم رغبته في استغلال ذلك اللجوء لفرض بعض التهدئة في سوريا . وقد تطور هذا الأمر ليجر الأردن إلى مستنقع مقاومة الإرهاب من خلال المد الداعشي في كل من العراق وسوريا . وقد ساهم ذلك في تعميق الخلاف بين النظام والشعب في الأردن ليتفاقم بعد سقوط مقاتلة أردنية وإعتقال قائدها معاذ الكساسبة من قبل داعش . المحصلة النهائية هي موقف شعبي أردني عام يرفض اعتبار نتائج تلك السياسات المطبوخة في مطبخ النظام قضايا أردنية وأن المعركة الناتجة عن تلك السياسات ليست بالتالي معركة الشعب الأردني .
لم تأت سياسة فتح حدود وأبواب الأردن للمهاجرين من سوريا كقرار عشوائي أو كإستجابة ضميرية لرابطة الأخوة العربية ، بل كانت أقرب ما يكون استجابة لقرارات ، إن لم يكن إملاآت ، قادمة من الخارج تهدف إلى خدمة استراتيجية مرسومة ضد النظام السوري والتمهيد لدور أردني تفاعلي مع تلك الأستراتيجية . وفي البداية نجحت تلك المخططات في تسهيل أمور تنقل المعارضين السوريين ، وتدريبهم وتسليحهم ، ولكن الثمن كان باهظاً بالنسبة للأردن الفقير في موارده وإمكاناته ، حيث كان هَمّْ الدول الغنية والمانحة هو مساعدة المعارضة السورية واللاجئين السوريين أكثر من مساعدة الأردن كدولة مضيفة . وتخطت قضية اللاجئين السوريين في الأردن حاجز الرعب المتمثل بمليون لاجئ دون أن يحقق الأردن أي مكاسب حقيقية وإن كان هذا التطور قد وضع الأساس لمستقبل أردني مأزوم من خلال تفاقم وضع اللجوء واللاجئين في الأردن .
يبدو أن الموقف الأمريكي غير المعلن من موضوع اللاجئين السوريين في الأردن يشير إلى حتمية بقاء هؤلاء اللاجئين أو النسبة الكبرى منهم في الأردن بشكل دائم . وهذا من شأنه أن يؤثر بشكل حاسم على التركيبة الديموغرافية للمجتمع الأردني وأن يُضعف من نسبة الأردنيين مقارنة بالمجموع الكلي للسكان . ويبدو أن هذا المخطط يهدف إلى تحويل الأردن إلى دولة بلا هوية حقيقية تتنازعها مصالح متضاربة للمكونات المختلفة داخل المجتمع الأردني مما قد يسهل أمام النظام الأردني الأستجابة لما هو مطلوب منه وقد يكون مفروضاً عليه من قبل قوى أقليمية ودولية بغض النظر عن مصالح الأردن وعن موقف الشعب الأردني من ذلك ودون إعتبار لأي معارضة داخليه في دولة هويتها عائمة على بحر من اللاجئين . وهكذا ، فإن أي محاولة لتبادل الأتهامات بين مكونات الشعب الأردني تصبح بلا معنى لأن القرارات ليست بيد الشعب أو مؤسساته الدستورية .
بإختصار شديد فإن إضعاف الأردن ومؤسساته وتجهيل شعبه يصب في مصلحة اسرائيل والمخططات الغربية في المنطقة ، وتقوية يد النظام على حساب الشعب ومؤسساته الدستورية يصب في مصلحة تسليك تلك المخططات . وعلى الأردنيون أن يحافظوا على وطنهم فهذه هي مسؤوليتهم وحدهم .
سقوط الدولة الأردنية بالتدريج : من المستفيد ؟ !
بقلم : د. لبيب قمحاوي* ... 28.01.2015