يرتبط الفساد إرتباطاً وثيقاً بغياب الديموقراطية والشفافية والمسائلة . ولا يكفي أن يكون الحاكم في هذه الحالة مستقيماً وغير فاسد لأن النظام الإستبدادي يحمل في طياته بذور الفساد التي تـُحَـتمُ تطوره إلى نظام فاسد . فعلى سبيل المثال كان جمال عبد الناصر مثالاً للإستقامة ونظافة اليد في حين أن نظامه كان فــاسداً . ولكن في معظم الأحيان يكون الفساد مرتبطاً برأس النظام كما بالنظام نفسه ، فالحديث مثلاً أن ياسر عرفات لم يكن فاسداً ولكنه كان مفسداً كلام يخلو من الدقة . فالحاكم المفسد هو نفسه الحاكم الفاسد لأن كليهما يشجع على الفساد والأمور تقاس بنـتائجها . والمثال الأخطر على الفساد هو معمر القذافي الذي حَوﱠلَ ليبيا بثرواتها النفطية الهائلة إلى إقطاعية له ولعائلته وسَخـﱠرَ كافة موارد الدولة لإشباع جموحه الشخصي للسلطة ولإرضاء نزوات عائلته وشذوذها ، وقام بتدمير كافة مؤسسات الدولة وحَوﱠلها إلى إقطاعية بالمعنى الحرفي للكلمة .
بالرغم من تعدد أنواع الفساد وإختلاف صُوَره فإن النتيجة تبقى واحده وهي إستفحال ثقافة الفساد . إن ثقافة الفساد أمراً يتطلب الرعاية والتشجيع كونها تتناقض في أصولها والقانون وطبيعة الأمور والأعراف الدينية والإجتماعية . وهي بذلك ثقافة مصطنعه ذات طبيعة جُرمـِيـّة عِقابية على من ينفذها ومن يدعمها ومن يدافع عنها . فهي طبقاً للقانون والمجتمع جزءاً من ثقافة تـَدْفـَع من يؤمن بها لمخالفة القانون إذا كان في ذلك مصلحة له . وهي تستند إلى افتراضات زائفة تهدف إلى تبرير الفساد ، ومنها إعطاء الحاكم وعائلته الحق في المال العام والثروة الوطنية . والإستبداد المرتبط بالفساد يستوجب حكماً إضعاف مؤسسات الدولة قاطبة حتى يتم ربطها بشخص الحاكم وليس بالدستور أو القانون ، وإضعاف المؤسسات يضعف من قدرتها على المسائلة والمحاسبة وهو أمر ضروري لإستفراد الحاكم بالسلطة وتعزيز مَسْلـَك الفساد .
إن الأزمنة التي خلت من الفساد والتي لم يجرؤ فيها أي سياسي على مد يده إلى المال العام ليست ببعيدة ، ففي الأردن مثلاً وخلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان المسؤولون السياسيون من رؤساء وزارات فما دون ذلك يختلفون في توجهاتهم السياسية ويحظون بالدعم الشعبي حيناً وبالإنتقاد والتجريم السياسي أحياناً أخرى ، ولكنهم كانوا جميعاً يشتركون في نظافة اليد وعـدم المساس بالمال العام ، فالعـديد منهم مات فقيـراً . والمال العام كانت له حرمة لا يمكن تجاهلها . ولم يقف الأمر عند حد الإمتناع عن المساس بالمال العام ولكنه شمل أيضاً المحافظة عليه من الهدر ، ومن هنا كان إصطلاح الفساد أمراً غير متداول واقتصرت مدلولاته في تلك الحقبة على السرقة واللصوصية بمفهومها الإجرامي المُعيب .
أما إصطلاح الفساد بمدلولاته الحالية فقد ارتبط ظهوره بظهور الأنظمة الدكتاتورية المستبدة ، ومعظمها ذو أصول عسكرية إنقلابية جاءت إلى الحكم على ظهر دبابة أو خلفها ، والتي ما إن إستقر لها الحكم حتى إفترضت أنها صاحبة الحق في ثروة البلد التي يحكمون . وهذه الأنظمة دَفـَعَتْ إلى سطح السلطة والعمل السياسي بمجموعة من الأفراد ذوي الخلفية الأخلاقية المتواضعة والإستعداد الفطري لإعتبار المال العام جزءاً من حقوقهم الشخصية . وهكذا واكب الفساد هذه الأنظمة المستبدة التي لا تخضع للمسائلة أو المحاسبة ولا تؤمن بها أصلاً ، وكانت البداية تتمثل في إشباع نزوة بناء الثروة الشخصية ، وهي نزوة لا حدود لها وقد تمتد في معظم الأحيان بامتداد عمر الحاكم المعني ، ومع مرور الوقت انتقلت عدوى الإعتداء على المال العام من القادة إلى عائلاتهم وأقربائهم الذين ابتدؤوا بالتعامل مع المال العام والثروة الوطنية بإعتبارهما ملكاً عائلياً لهم ، وهم بالتالي ومن وجهة نظرهم الخاصة لا يسرقون بل يأخذون ما يعتبرونه حقاً لهم .
وأخطر ما في هذا التحول هو الإنتقال من التعامل معه بصمت وسرية بإعتباره أمراً مُخجـِلاً ومعيباً ومخالفاً للقانون إلى العلنية والتبجج المرتبطـَيـْن بوقاحة إعتبار المال العام مِـلـْكا ً شخصياً للحاكم وعائلته ، وهكذا ، إنتقل الفساد من كونه حالة طارئة تتعارض والحق العام والقانون إلى كونه حالة دائمة طبيعية تنطلق من إدعاء الحاكم المستبد وعائلته وزبانيته بالحق في ملكية موارد الدولة وثرواتها والتعامل معها على هذا الأساس ، وتم تطويع القوانين في أحيان كثيرة لتنسجم مع هذه الرؤيا .
لقد ساهم إستشراء الفساد في تغيير منظومة القيم السائدة في المجتمع والتي كانت تـُجَرﱢم الفساد بأنواعه وذلك عندما أصبح الفساد وسيلة للتفاخر بين المسؤولين بإعتبار أن الأشطر والأنجح هو الذي يسرق وينهب أكبر كمية من الثروة بأشكالها المختلفة في أقصر وقت ممكن ، وهو أمر يدعو البعض ضمن عائلة الفساد إلى المباهاة ، ويشكل شاخصاً أمام البعض الآخر لمحاولة الوصول إلى ما وصل إليه الآخرون من نجاح في ممارسة الفساد وسرقة المال العام أو الثروة الوطنية بأشكالها المختلفة . أما النظام فموقفه يكون في العادة إما مشجعاً على ممارسة الفساد أو غاضاً الطـﱠرفَ عنه أو حامياً له إذا كان الأمر يتعلق بأتباعه ومريديه ، وبخلاف ذلك يتم تطبيق القانون حتى يعطي النظام الفاسد إنطباعاً زائفاً بأنه شديد على الفساد .
إن سقوط أي مسؤول في فخ الفساد يعني فتح باب الإرتقاء الوظيفي أو الحكومي أمامه كونه أصبح بحكم فساده خاضعاً للإبتزاز وبالتالي قابلا للسيطرة عليه وتوجيهه بالشكل الذي يريده
ومع مرور الوقت ، بَرَعَتْ الأنظمة المستبدة في استغلال المال والنفوذ والمنصب لشراء الذمم والولاءات ، وأصبحت عملية إفساد المسؤولين في الأنظمة المستبدة هي أحد أهم وسائل السيطرة عليهم . ويعتبر الإفساد الوسيلة الأكثر كفاءة كونها تـُمَكـﱢن الحاكم المستبد من استغلال المسؤول الفاسد طوال الوقت وبشكل يخدم مصالحه حصراً ، وكل ذلك مقابل تسهيل أمور الفساد لـذلك المسؤول وحمايته . والحماية هي كلمة السر التي تضمن استمرارية ولاء المسؤول الفاسد للنظام الذي يحميه من تبعات ذلك الفساد من خلال تطبيق العدالة بشكل إنتقائي .
إن تقنين الفساد ومؤسساته هو أعلى مراحل إستفحاله ، والأنظمة المستبدة التي تشعر أن الفساد والفاسدين هم أهم ركائزها تعتبر أن حماية الفساد وتطويع القوانين لحمايته هي من أهم مسؤولياته ، ومثل هذا الإجراء هو في واقعه إجراءٌ يهدف إلى حماية النظام وأعوانه ومصالحه .
إن تحول الفساد إلى مؤسسة يشكل بداية الإنهيار في أي دولة ، ولكن عندما تصبح مؤسسة الفساد هي المؤسسة الأقوى في أي بلد يصبح مستقبل ذلك البلد قاتماً ومشكوكاً به . وما يجري الآن في لبنان والعراق هو نتيجة حتمية لسيطرة مؤسسة الفساد وتطويعها كافة مؤسسات الدولة الدستورية والخدمية لخدمة مصالحها .
إن تفاقم الفساد في معظم الأقطار العربية وارتباطه بالطبقات السياسية الحاكمة جعل من مقاومته ومكافحته مطلباً شعبياً عاماً يعادل في أهميته وتداعياته معظم المطالب السياسية السائدة وذلك بعد أن وصلت القناعات الشعبية إلى حد الربط العضوي بين الإستبداد والتسلط السياسي من جهة والفساد من جهة أخرى . وقد أدى تفاقم تداعيات إستفحال الفساد من فقر وإنهيار في مستوى الخدمات العامة للدولة وضعف مؤسساتها الناتج عن إستنزاف موارد الدولة وإمكاناتها لصالح طبقة صغيرة من السياسيين والمتنفذين الفاسدين إلى دفع الأمور إلى الحد الذي جعل العديدين يعتبرون النضال ضد الفساد والفاسدين رديفاً للنضال ضد الظلم السياسي والتعسف والإستبداد وفي نفس الأهمية ، إن لم يكن أكثر .
وهكذا ابتدأ النضال الشعبي يأخذ منحاً جديداً من خلال الإنتقال من النضال السياسي التقليدي المستند إلى برامج مختلفة قد تكون متناقضة في جوهرها ، مثل تلك البرامج ذات الطبيعة العقائدية أوالطائفية أوالمذهبية وهي أساس التناقض المجتمعي والفرقة السياسية ، والإنتقال منها إلى النضال ضد الفساد ضمن برنامج ينادي بمطالب خدماتية وطنية تشمل الجميع دون أي تمييز يستند إلى الطائفية أوالمذهبية وبما يعزز حالة المواطنة على إطلاقها ويدفع الأمور في إتجاه وطني عام ، وهذا التطور بحد ذاته يدفع بالمطالب التي تعزز الفـُرقة إلى الخلف لصالح تلك التي تعزز المواطنة واللحمة الوطنية .
إن مأسسة الفساد وتجَدُره على مدى عقود من حكم أنظمة استبدادية فاسدة قد تـَطـَور وطـَوﱠر معه أشكال أخرى من الفساد التي لم تعد تقتصر على الفساد المالي التقليدي خصوصاً بعد أن أصبح ذلك النمط من الفساد يسير بشكل سَلـِس ٍ بعد أن تمت مأسسته .
إن الأشكال الأخرى للفساد عديدة وآثارها على المجتمع والدولة بشكل عام شاملة في خطورتها ، ولعل ما يجري الآن في كل من لبنان والعراق يعطي مؤشراً واضحاً على النتائج الكارثية للفساد ، فإستنزاف الدولة ومواردها من شأنه أن يشلﱠ قدرتها على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين ، خصوصاً وأن المسؤول الفاسد لا يعتبر المواطن واحتياجاته أولوية بل يتم قياس أهمية تلك الإحتياجات بمقدار العائد الذي توفره لمؤسسة الفساد .
والأخطر من ذلك وجود تحالف بين بعض مؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات الفساد الحاكمة ، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تحييد العديد من مؤسسات القطاع الخاص التي من المفروض أن تتصدى لمؤسسات الفساد كونها المتضرر الرئيسي منه بعد المواطنين وذلك حفاظاً منها على مصالحها الذاتية وعلاقاتها مع المسؤولين الفاسدين . ووحدة الموقف والمصالح بين المسؤولين الفاسدين وبعض مؤسسات القطاع الخاص ورجال الأعمال من شأنها أن تـُفاقم حالة الفساد في البلد المعني وأن تـُحَوﱢل القطاع الخاص فيه إلى إمتداد لواقع الفساد في ذلك البلد .
الفساد المالي يقود إلى الفساد السياسي لأن من يـَسْرُقْ من السهل أن يُباع ويُشترى ، معادلة بسيطة ولكنها مُدَمِـّرةٌ في نتائجها ، والفساد إذا ما سادَ في أي دولة ، فإن تلك الدولة تصبح غير محصنه من إمكانات تداولها وتداول مصالحها لمن يدفع أكثر أو لمن يملك مفاتيح الضغط المناسبة على مؤسسة الحكم الفاسد،وهذا هو الشر المستطير الذي يعاني منه العالم العربي الآن. الفساد السياسي لا يتعلق بالخلاف على سياسات ، ولكنه يتعلق بانتهاج سياسات تصب في مصلحة النظام الفاسد حتى وإن كانت تتعارض والمصالح الوطنية للدولة ومستقبلها وإستقلال إرادتها ، وهذا أمر ملحوظ جداً هذه الأيام في العديد من الدول العربية . ومعظم الكوارث التي ألمـﱠت بالوطن العربي في العقد الأخير هي نتيجة حتمية للتسلط والإنفراد بالسلطة ، والفساد الذي عمﱠ وطمﱠ إلى الحد الذي أفقد الجميع البوصلة وجعل من مستقبل المنطقة أمراً بيد الآخرين .
الفساد الأكبر هو إحتكار الحقيقة من خلال احتكار السلطة بكافة تجلياتها وجعل مقاليد الأمور في يد مجموعة من الفاسدين التي تدين بوجودها السياسي من خلال الولاء المطلق لنظام حكم فاسد ومفسد في الوقت نفسه . وإحتكار الحقيقة يعني تسليم مقدراتها وتجيير حرية الرأي والتعبير وتبادل المعلومات فيها لأجهزة معينة تابعة للحكم وهي غالباً ما تكون أجهزة مخابراتية تتآكل الحقوق الدستورية للمواطن على أبوابها ، وهذا بالتحديد هو الفساد الذي يدوس على حقوق المواطن الأساسية والدستورية والقانونية ويخضعها لإرادة ومصالح النظام الحاكم .
إن سلب إرادة وحقوق الشعوب واخضاعها لمجموعة من الفاسدين هي محاولة لإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتحويلها من "عقد إجتماعي" طوعي ومتوازن بين الحقوق والواجبات إلى "عقد إذعان" تختفي بموجبه ضمانات لحقوق الشعوب دفعت البشرية ثمنها دماء غزيرة منذ " الماجنا كرتا " في بريطانيا قبل ثمانية قرون مروراً بالثـورة الفرنسية وانتهاء بالعـديد من الثورات التي سعت إلى استقـرار العلاقة العادلة بين الحاكم والمحكوم .
الأنظمة العربية : اُخـُوﱠة الفساد والأستبداد!!
بقلم : د. لبيب قمحاوي* ... 05.10.2015