من الصعب أن يجادل أحد بأن الولايات المتحدة ليست طرفا في الصراع العربي الصهيوني بسبب انحيازها السافر للاحتلال على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبسبب تزويدها الكيان الصهيوني بمختلف أنواع الأسلحة المتطورة والذخائر الذكية في حين تعمل دائما على حرمان الفلسطينيين من الرصاص. لقد جرب العرب أمريكا على مدى عقود، وباستثناء الأنظمة العربية الأفلاك التي تدور حول البيت الأبيض، يرى الجمهور العربي أن أمريكا ليست وسيطا نزيها ومن المفروض البحث عن وسيط آخر إذا كان لا بد من وسيط. وقد ظهر دور الولايات المتحدة جليا في الأيام الأخيرة من خلال نشاط وزير خارجيتها لاحتواء الحراك الفلسطيني في مواجهة الاحتلال دفاعا عن الأقصى ورفضا للاحتلال إذ أعلن كيري عن اتفاق مع نتنياهو وربما الملك الأردني يقضي بنصب آلات تصوير مشرفة على ساحات المسجد الأقصى، وعن اعتبار المسجد مكانا مقدسا إسلاميا يسمح لغير المسلمين بزيارته.
من المعروف أن الأمم المتحدة اتخذت عدة قرارات في الجمعية العامة بخصوص الحفاظ على الوضع التاريخي في القدس، ودعت الكيان الصهيوني مرارا إلى احترام الاتفاقات الدولية بما يتعلق بالأراضي التي تقع تحت الاحتلال، وأصرت على الحفاظ على المعالم المقدسية وعلى عدم المساس بالحضارة القائمة فيها. إسرائيل لم تعترف بقرارات الجمعية العامة والتي كانت الولايات المتحدة تعارضها. صحيح أن إدارة الولايات المتحدة لم تتخذ خطوات ديبلوماسية حتى الآن توافق من خلالها على اعتبار القدس العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال، لكن الكونغريس الأمريكي اعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وطالب الإدارة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. والكونغريس لا يترك فرصة للتعبير عن معاداته للشعب الفلسطيني إلا استغلها.
لغاية الآن ساهم الوضع الدولي في حماية المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية عموما ليس حبا بالفلسطينيين أو العرب وإنما مخافة تفجر الأوضاع في المنطقة. الدول الغربيةالاستعمارية التي تشمل الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا التي كانت معروفة بالغربية ليست معنية بعدم الاستقرار في المنطقة العربية الإسلامية لما يجره ذلك من أضرار على مصالح هذه الدول بخاصة فيما يتعلق بالأمور الأمنية والاقتصادية. الدول الغربية معنية أيضا بالاستقرار من أجل الكيان الصهيوني لأن عدم الاستقرار يهدد أمن الكيان وشعور مواطنيه بالأمان، وإذا شعر المواطنون بعدم الأمان فإن عددا منهم سيفكر بالرحيل عن أرض فلسطيني، وهذا ما لا يريده الغرب. الاعتداء على الأقصى بالهدم أو التقسيم الزماني والمكاني قد يؤدي إلى حالة عدم استقرار كما شهدنا في الآونة الأخيرة من خلال الحراك الشعبي الفلسطيني، وهو ما يفسر ضغوط أهل الغرب على الكيان الصهيوني لتجنب توتير الأوضاع من خلال انتهاك حرمات المقدسات. وللعلم، بريطانيا كانت تمنع اليهود من الصلاة عند حائط البراق الذي يسميه اليهود حائط المبكى مخافة حصول اقتتال ديني بين العرب والصهاينة. وقد خبرت بريطانيا هذا الأمر عام 1929 عندما أقدم بعض اليهود على الصلاة لدى حائط البراق. نشب في حينها قتال عنيف بين الطرفين العربي واليهود أدى إلى مقتل مئات الأشخاص. ولولا محاولات الاحتواء التي أقدمت عليها القيادات السياسية الفلسطينية لتدهورت الأوضاع إلى درجة إحراج بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين أمام دول العالم.
لكننا نشهد الآن انعطافا في الوضع الدولي والذي يقدم هدية كبيرة للكيان والمستوطنين وذلك من خلال اتفاق يقضي بالسماح لغير المسلمين بزيارة باحات المسجد الأقصى. المفروض أن الفلسطينيين هم الذين يقررون بمحض إرادتهم من يحق له زيارة المقدسات الإسلامية ومن لا يحق له، لكن الاتفاق يتجاهل الفلسطينيين ويضع الأمر بيد دول ليست إسلامية وعلى رأسها الولايات المتحدة والكيان. يعبر هذا عن خيبة كبيرة إن حصل لأن الحراك الفلسطيني قد بدأ دفاعا عن الأقصى ومن أجل الأقصى، ولم يبدأ من أجل تسهيل انتهاك الأقصى من قبل المستوطنين. وفق كلام كيري، يملك المستوطنون حرية الزيارة للأقصى وباحاته دون تدخل الفلسطينيين، وزياراتهم ستكون محمية دوليا.
حديث كيري حول الزيارة المسموح بها يشكل خطوة جديدة على الساحة الدولية يمكن أن تتطور مستقبلا ليصبح الأقصى مكانا إسلاميا ويهوديا، أو يهوديا فقط. مثلما حدث لفلسطين. كانت فلسطين عربية بداية، ثم انتقلت إلى مكان آخر لتصبح عربية ويهودية في آن واحد، ثم أصبحت يهودية على الأقل في نظر الولايات المتحدة. إذا تم قبول اتفاق كيري نتنياهو فإن الوضع الدولي سيستمر في قضم الأقصى كما فعلت إسرائيل في الحرم الإبراهيمي وفي القدس وفي الضفة الغربية. القضم التدريجي غير المستفز يؤدي إلى تحقيق أهداف الصهاينة دون أن تكون هناك ردة فعل فلسطينية قوية. وكما وصل الفلسطينيون إلى الاعتراف بالكيان وخدمته أمنيا، بمكن أن يعترفوا بتدرج الهيمنة على المسجد الأقصى. هذا أمر خطير لا بد من رفضه قولا وعملا، وعلى الفلسطينيين ألا يكتفوا بالبيانات والشجب والاستنكار.
أما بالنسبة لآلات التصوير الخاصة بباحات المسجد فستكون تحت السيطرة الصهيونية ما يعني إقصاء الفلسطينيين واحتكار الصهاينة للرقابة على المسجد وساحاته. ولهذا على الفلسطينيين أن يتسلحوا بالوعي الكافي وألا يبالوا بالضغوط الأمريكية التي يمكن أن تمارس عليهم بخاصة الضغوط المالية.
وأخيرا لا بد من التنويه إلى أن دول العالم الاستعمارية هي التي صنعت الكيان الصهيوني، وهي التي ساهمت بتهجير الفلسطينيين من وطنهم. وعلى الرغم من أن هذه الدول صوتت إلى جانب حق العودة المنصوص عليه في قرار الجمعية العامة رقم 194 إلا أنها لا تنبس ببنت شفة حول هذا الحق الآن، وهي إجمالا تعتبر حق العودة قد انتهى مفعوله وعلى اللاجدئين الفلسطينيين أن يتدبروا أمورهم. وبعض هذه الدول لا تتردد بوصف الفلسطينيين بالإرهابيين، ويرون أن الكيان الصهيوني المجرم يدافع دائما عن نفسه. دول العالم ليست أهلا للثقة بخاصة تلك الدول التي تسمي نفسها المجتمع الدولي، وإذا كان للفلسطينيين أن يتعاملوا مع المستوى الدولي فإن الطريق الأنسب تتمثل بالعمل من خلال المجتمع الدولي الذي تمثله الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كيري وشرعنة تدنيس الأقصى!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 28.10.2015