دأبت الأنظمة العربية على الاستعانة بقوى خارجية بخاصة من الدول الغربية للبحث عن حلول لمشاكلها أو فرض حلول عليها. وقد لاحظنا عبر السنوات أن الأنظمة العربية تعجز في أغلب الأحيان عن حل المشاكل البينية التي تظهر بين الدول العربية، أو المشاكل الداخلية التي تعتور دولة عربية معينة.منذ خمسينيات القرن العشرين وقوى عربية تستدعي الخارج الغريب ليواجه أزمة أو ليعالج مشكلة طارئة داخل بلد عربي أو بين دولتين عربيتين. استدعت قوى لبنانية مشاة البحرية الأمريكية في الخمسينيات لمواجهة المد الناصري في لبنان والذي كان يؤذن بتحول نحو الاشتراكية فيما لو نجح. وفي ذات الفترة تقريبا استنجدت أنظمة عربية بالدول الغربية من أجل عمل شيء في مواجهة الوحدة المصرية السورية وإسقاطها.
يعجز العرب في أغلب الأحيان عن معالجة همومهم، ويستسلمون لهذا العجز فيحملون همومهم للخارج علّ وعسى أن يجدوا الدواء. وغالبا يجدونه لأن الدول الاستعمارية الغربية ما زالت تتمتع بعقلية استعمارية وتجنح دائما للتدخل بشؤون الآخرين أملا منها في تمكين وجودها على الأرض العربية.
تكرر العجز العربي أمام الهموم العربية المتزايدة، وتكرر معه البحث عن حلول في جيوب الولايات المتحدة خاصة ولدى الدول الغربية عموما. الجامعة العربية والدول العربية منفردة لم تستطع معالجة الحرب في السودان على الرغم من أن العرب يملكون المقدرات المتنوعة التي تمكنهم من إيجاد حل وفرضه إن جنحت الأطراف نحو استمرار الفتنة، واعتمدوا على الدول الغربية لتنفذ رؤيتها للحل في السودان. وكذلك الأمر في الصومال إذ لجأ العرب إلى إثيوبيا لتبعث بجيشها إلى الصومال لتسوية الأمر وفرض الحلول التي رأتها والدول الغربية للمشكلة. وبشأن الأزمة الكويتية، لم تكن لدى العرب مجتمعين أو منفردين قدرة على فرض حل، واضطروا في النهاية أن يكونوا ملحقين بالذيل الأمريكي وحاربوا تحت إمرة الجيش الأمريكي. لم يكن الوضع شاذا إبان الحراك الليبي، ولم ينتعش العرب إلا عندما قررت الدول الغربية التدخل وإنهاء حكم القذافي. أما في سوريا، طالب بعض العرب منذ البدء الدول الغربية بالتدخل وفرض منطقة حظر جوي لدعم المعارضة، ومنهم من طالب بالتدخل العسكري البري ضد النظام وإقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، ومنهم من استنجد بالصهاينة طالبا منهم العون العسكري في مواجهة النظام. وعلى الرغم من أن النظام لم يطلب من الخارج التدخل علنا إلا في الآونة الأخيرة عندما طلب رسميا من روسيا التدخل جوا، إلا أنه لم يكن يمانع تلقي الدعم من قوى خارجية لدحر المعارضة. ينطبق هذا على اليمن أيضا التي عجزت عن حل مشاكلها الداخلية التي ترافقت مع الحراك اليمني، وأتاها الحل من الخارج. والآن تشهد اليمن حربا بالوكالة عن قوى خارجية، ولا أرى ان الأمور ستهدأ بعيدا عن إرادة القوى الخارجية.
ومن المجريات التاريخية نلاحظ أن العرب أقوياء بعضهم ضد بعض ولديهم الاستعداد أن يحاربوا لسنوات طويلة على نفَس واحد ولا يملون أو يتعبون، لكنهم سرعان ما يلقون أسلحتهم أمام أعدائهم الطامعين بأراضيهم وثرواتهم. الصراع الدموي بين السعودية ومصر في اليمن أخذ ردها طويلا من الزمن، ولم يتوقف إلا على إثر هزيمة عام 1967، والحرب الداخلية في الجزائر عمرت طويلا وحصدت عشرات آلاف النفوس، وكذلك الحرب الداخلية في الصومال. الحرب الأهلية اللبنانية استمرت على مدى خمس عشرة سنة، ولم تتوقف إلا بعدما سمحت أمريكا بتوقفها وذلك بالسماح للنظام السوري باستعمال الطيران الحربي. الحرب في اليمن مستعرة ويمكن أن تستمر لسنوات إلا إذا كان للخارج كلمة فاصلة. أما الحرب في سوريا فعلى أشدها، وتشهد تدخلا من أطراف عربية وغربية وشرقية متعددة، وعلى الرغم من كل المناشدات العربية الشعبية والفكرية من الداخل العربي إلا أن الأطراف المتحاربة تصر على تدمير سوريا وتهجير مواطنيها. وفي العراق هناك من لم يرفع سلاحا في وجه الاحتلال الأمريكي، لكنهم رفعوا السلاح في المشاحنات والصراعات السنية الشيعية. لكن هؤلاء العرب المقتتلون والمتناحرون لا يصمدون أمام عدو خارجي يتهددهم جميعا بدون استثناء مثل الكيان الصهيوني. الجيوش العربية ولت الأدبار أكثر من مرة أمام جيش الصهاينة وألقت سلاحها وقالت أن لا طاقة لها على الحرب. وليس هذا فقط، وإنما سعت دول عربية إلى إقامة صلح مع الكيان، واعترفت به وأقامت معه علاقات ديبلوماسية. وعلم الكيان يرفرف الآن في سماءي القاهرة وعمان، وتنتشر المكاتب التجارية الصهيونية في عدد من البلدان العربية.
تدعونا ظاهرتا الاقتتال البيني العربي والاستعانة بالأجنبي إلى دراستهما على أمل أن نتوصل إلى الأسباب مما يمكننا في النهاية من وضع الحلول المناسبة. وهذا عهمل ليس يسيرا لأنه يتطلب الكثير من جهود العلماء والباحثين في القضايا التربوية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتطلب تمويلا يصعب تدبيره خارج الأطر الرسمية العربية التي لا تهتم أصلا في البحث العلمي والتفكير العلمي. لكن من الممكن أن تكرس مراكز البحث العلمي المنتشرة في البلدان العربية جزءا من جهودها لهذا الغرض حتى لو لم يرض المموول الذي هو في الغالب أحد الدول الغربية.
دمار البلاد والعباد
استنجد عرب بالخارج من أجل تسوية الوضع في العراق والتخلص من صدام حسين، لكن الثمن كان باهظا جدا، ولحق بالعراق خراب كثير وبالمواطنين العراقيين خسائر هائلة بالنفوس حتى بات بعض العراقيين يتمنون عودة النظام السياسي السابق. لم يأت الأجنبي إلى العراق لإقامة ديمقراطية أو لتنقية النفوس وتصحيح مسار الدولة، وإنما جاء العراق من أجل مصالحه هو وليس من أجل رفاهية الشعب العراقي. واستنجدوا أيضا بالدول لأوروبية من أجل التخلص من القذافي، ووظف الغرب طائراته على حساب الشعب الليبي وساهم في حسم المعركة لصالح مناوئي القذافي، لكن ليبيا لم تهدأ ولم تستقر، ودفعت أثمانا باهظة مالا ونفوسا وتمزقا اجتماعيا وتشرذما سياسيا. ولا يختلف الأمر بالنسبة لليمن التي تتزاحم على أرضها الدول وكل دولة تبحث عن مصالحها. الحرب تستعر في اليمن، ولا يدفع الثمن إلا شعب اليمن. اليمن دولة فقيرة ، وآخر ما تحتاجه هو المزيد من الفقر، لكن التدخل الخارجي لم يتركها وشأنها وقرر إرجاع اليمن مائة سنة إلى الخلف، وقضى على الكثير من الآمال الاليمنية في تجاوز شظف العيش وقسوة الحياة.
لا يختلف الوضع في سوريا عنه في اليمن والعراق. تصر الأطراف المتحاربة على الاستمرار في الحرب حتى دمار سوريا وتهجير مواطنيها. لا تتعب الأطراف المتحاربة من سفك الدماء، وكلها تصر على استدعاء التدخل الخارجي لما فيه من زخم كبير لاستمرار الحرب الأهلية. وهذا الخارج لا يتوانى عن تقديم الدعم المطلوب ما دام يقود إلى استمرار سفك الدماء. كما أن السودان دفعت فاتورة باهظة وفقدت السودان وحدتها الوطنية وما زالت مهددة بمزيد من التقسيم.
المصالح تحكم سياسة الأجنبي
لا يأتي الأجنبي إلى البلدان العربية ليدعم هذا الطرف أو ذاك حبا في هذا الطرف6 أو كراهية لذاك. الأجنبي القادم خصوصا من أوروبا وأمريكا الشمالية يأتي البلدان العربية لإعمال الخراب والدمار. ونحن نرى كيف أن التدخل الأجنبي قد أدى إلى دمار هائل في العراق وسوريا واليمن، وخراب جزئي في السودان وليبيا. هناك مصلحة للأجنبي في إحداث الدمار في البلدان العربية وذلك للأسباب التالية:
1- خراب الدول العربي بالنسبة للأجنبي الغربي إنعاش لإسرائيل وتعطيل بكلب الجهود العربية التي يمكن أن تكون في دعم الشعب الفلسطيني في محاولاته لاسترداد حقوقه. وكلما لحق دمار في العرب ارتفع منسوب شعور إسرائيل بالأمن والاطمئنان.
2- تشكل تجارة السلاح أولوية اقتصادية في الدول الغربية، ومن المعروف أن العرب يأتون في المراتب العليا للدول المشترية للسلاح الغربي. ينفق العرب أموالا طائلة على شراء السلاح، والحروب تساهم بكل قوة في رفع منسوب الرغبات العربية في شراء المزيد. من الممكن أن يشغل العرب العديد من مصانع السلاح في الدول الغربية ويساهمون بصورة غير مباشرة في حل مشاكل البطالة في الدول الغربية. هناك بعد اقتصادي واضح في إشعال الحروب في البلدان العربية، واستغلال رهيب للعقلية العربية القبلية المتخلفة التي لديها طاقة هائلة على الاستمرار في الحروب الداخلية أو الحروب البينية.
3- يسترجع الغرب من خلال الحروب وبيع السلاح وتسديد فواتيبر الحروب الجزء الأكبر من الأموال التي يدفعها للدول العربية مقابل النفط والغاز. الغرب يسترجع أمواله بأساليب متعددة وعلى رأسها البورصات وبيع السلاح. دع العرب يقتتلون وأهلا الغرب لخزائنهم ينتعشون.
4- استمرار الهيمنة الغربية على البلدان العربية وتوسيع النفوذ الغربي. الدولة الغربية التي تأتي بلادنا دفاعا عن نظام أو تأييدا لمعارضة لا تخرج كما دخلت لكنها تبقي على بعض الوجود من أجل ضمان استمرار نفوذها وتدخلها في الشؤون العربية. حتى أن بعض الدول تقيم قواعد عسكرية وقوات جوية وبحرية كافية للسيطرة على الدولة وتوجيهها كيفما تشاء.
ومن الملاحظ أن أهل الغرب يشنون حروبا على العرب أو من أجل العرب كما يدعون أحيانا، لكنهم لا يتكلفون ماليا. تقوم دول عربية عدة بتغطية تكاليف الحروب وذلك وفق الحسابات الغربية. الدول العربية تدفع الفواتير، وذلك على حساب المواطن العربي الذي يمكن أن يكون تحت وطأة الجوع. وإذا دعمت الدول الغربية ثورة أو حراكا أو معارضة فإنها تستوفي حقوقها المالية بعد أن يتحقق الاستقرار. ساهمت الدول الغربية في ضرب مؤيدي القذافي لصالح المعارضة لكن كان على المعارضة أن تسدد الفواتير من النفط الليبي بعد أن انتهت العمليات العسكرية الرئيسية.
المعنى أننا نحن العرب نشتري همومنا، وننفق من أجل السيطرة علينا. فإلى متى سيستمر هذا البله العربي؟ ربما لحين إحداث تغيير ثقافي جوهري على الساحة العربية فيريحنا من التفكير القبلي لصالح التفكير العلمي.
مخاطر استعانة العرب بالخارج!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 15.12.2015