المـُحَرﱠمات كلمة ذات مدلولات واضحة لكنها فقدت ذلك الوضوح في هذه الأيام العجيبة والعصيبة والصادمة . فما كان من المحرمات أصبح الآن أمراً عادياً لا يثير حتى الدهشة ، وما كان من المُسَـلـﱠمات مثل حرية المعتقد والتسامح الديني أصبح الآن من المُحَرﱠمات التي قد تستدعي قطع رؤوس البعض من قبل البعض الآخر .
شهدت السنوات القليلة الماضية إنتقال العديد من المحرمات من خانة المـُسَلـﱠمات التي لا يمكن المساس بها أو التنصل منها إلى خانة المحظورات التي يُـمنـَعْ حتى ذكرها أو تداولها أو الجهر بالإيمان بها . وفي المقابل انتقلت العديد من الأفكار والأهداف والمواقف من خانة المرفوضات إلى خانة المقبولات والعكس صحيح . وتميز هذا الإنتقال بالفوضى التي رافقته والدموية التي صبغته .
ما الذي جرى يا تـُرى وأدىﱠ إلى هذا السقوط المريع والجنوح الجامح نحو قلب الأوضاع بشكل عشوائي متناثر ودموي ؟
إن محاولة تفسير ما جرى ويجري بأنه مؤامرة هو كلام سقيم يهدف إلى التبرير أكثر مما يهدف إلى التفسير . فالمؤامرة لا تنجح بمفردها إلا إذا سُمـِحَ لها بذلك سواء عن وعي أو بلا وعي ، أو إذا هيئنا لها الظروف التي تمكنها من النجاح وهذا قد يشكل بداية السقوط الوطني .
السقوط بمفهومه الحقيقي ليس تعبيراً مادياً فقط ، ولكنه أيضاً تعبيراً معنوياً يشمل إنهيار النفس من داخلها والضياع الأخلاقي والإنحلال الوطني الناتج عن عقود من القهر والإستبداد والإستعباد التي ساهمت في إعادة تشكيل النفس العربية وإعادة تعريف الوطنية والإلتزام الوطني وتدمير الأسس التي يستند إليها ذلك الإلتزام والهوية الوطنية والقومية المرافقة له لصالح عبادة الحاكم الفرد المستبد الأناني في طموحه والضعيف في إلتزامه الوطني وأمانته الشخصية والأخلاقية .
الحديث عن كل ظاهرة من ظواهر السقوط لوحدها وبمعزل عن باقي الظواهر لن يُجدي كونه لن يعطي الصورة الكاملة المتكاملة لما نحن فيه وما نحن مقبلون عليه . فربط الأمور معاً يُعزز إمكانية الإلمام المتكامل ويجعل إستخلاص العـِبَرْ ممكناً خصوصاً في ظل تلاحق الأحداث بشكل قد يكون من الصعب تفسيره إذا ما أُخذ كل حَدَثٍ منفرداً وبمعزل عن باقي الأحداث والتطورات الأخرى .
يعتقد الكثيرون أن ما تمر به المنطقة العربية الآن هو بشكل أساسي مشكلة أمنية أو مشكلة إرهاب ، إلا أن التطورات التي تـُرافق الإنهيار الأمني تبقى عادة هي الأهم في التقييم الصحيح المتكامل للمرحلة وفي التقدم بالحلول المنشودة . فالواقع العربي قـَفـَزَ قـَفـْزاً من حالة الأمْنٍ الوطني المركزي والشامل إلى الإنهيار الوطني والأمني والشخصي الشامل مما دَفـَعَ المجتمعات دَفعاً نحو الإقتتال والتشرذم والبحث عن هويات مستحدثة لتقنين الجرائم المرافقة لذلك الإنهيار وتحويلها إلى مطالب مشروعة . وقد أدى هذا الوضع إلى إنهيار المنظومة السياسية والفكرية والإجتماعية التي سادت في العالم العربي منذ أوائل القرن العشرين وساهم ذلك في تحول المحرمات إلى قضايا مشكوك بها أو قابلة للنقض أو التغيير .
هنالك محطات رئيسة تـُعَتبرَ مؤشرات هامة على تحول المحرمات إلى أمور متداولة يمكن التعامل معها والقبول بها أو رفضها بإعتبارها أمراً عادياً وطبيعياً . وأهم هذه المحرمات التي يتم العمل على إنتهاكها بشكل حثيث هي أولاً ، القضية الفلسطينية وإسرائيل ، وثانياً ، الهوية العربية والإنتماء الوطني والقومي ، وثالثاً ، التسامح الديني وحرية المـُعْتـَقـَدْ ، ورابعاً ، الإنهيار المقصود لمنظومة التعليم في العالم العربي بكل مراحله . وهذا لا يعني عدم وجود قضايا أخرى ، ولكن هذه تعتبر الأهم والأكثر خطورة في أثارها على مستقبل المنطقة .
حتى عقد مضى من الزمن ، لم يخطر ببال أي عربي أو حتى أي إسرائيلي أن يأتي زمن تصبح فيه إسرائيل دولة صديقة بالنسبة لبعض العرب وحليفة بالنسبة للبعض الآخر . بل وأكثر من ذلك ، فإن البعض أخذ ينظر إليها كحليف إستراتيجي ضد دولة مسلمة هي إيران . كما أن العديد من الدول العربية تمارس نمط من العلاقات الإقتصادية أو الديبلوماسية أو الأمنية مع إسرائيل بعضها معلن وبعضها الآخر غير معلن وكل ذلك مجاناً وبلا تنازل تقدمه إسرائيل للفلسطينيين كثمن لذلك التطبيع .
إن الحديث بمثل هذه المنطلقات فاق شطط المتفائلين وتوقعات جميع الذين إعتقدوا أن هذا غير ممكن بل ويستحيل أن يحصل حتى في المنام بإعتبار أن قضية فلسطين والعداء لإسرائيل هي في صلب المـُحَرﱠمات العربية . وها هو الأن أمام أعيننا جميعاً يحصل بإرادة أنظمة عربية باليه وخائفة بل ومرعوبة من المستقبل ومن هذا وذاك . إذاً إسرائيل الغاصبة لأرض فلسطين في طريقها لأن تصبح الصديق والحليف للعديد من الأنظمة العربية مجاناً ودون أن يطالبها أحد بتقديم أي ثمن لذلك .
هنالك فرق كبير بين كون إسرائيل الدولة الأقوى عسكرياً في المنطقة وتصرفها بحكم ذلك وبحكم الأمر الواقع ، وبين أن تكون قائدة إقليمية لدول المنطقة بحكم قبولهم لذلك الدور الإسرائيلي وإستسلامهم له وإعتبار إسرائيل كياناً شرعياً حليفاً لدول المنطقة أو بعضها . والقيادة الفلسطينية أصبحت للأسف جزأً من الإدارة الإسرائيلية للمناطق المحتلة عام 1967 وتقوم بالعديد من المهام التي كانت إدارة الإحتلال مسؤولة عنها ، وهكذا تم إختزال أهداف النضال الفلسطيني من التحرير إلى التبعية والعيش في ظلال الإحتلال الإسرائيلي .
هذه هي أولى المحرمات وأخطرها والتي تم إنتهاكها بالإرادة الحرة للأنظمة الحاكمة في بعض الدول العربية وليس نتيجة ظروف قهرية . وبالطبع فإن مثل ذلك الإنتهاك لم يكن ممكناً لولا حالة الإنهيار العام التي أصابت المنطقة العريبة وأدت إلى إنهيار المنظومة السياسية للعالم العربي وتفتيت بعض دوله الرئيسة .
إن الخيار في المنطقة ينحصر في واقعه الآن بين الهوية الوطنية والهوية الدينية . وبما أن الغالبية الساحقة من سكان المنطقة يدينون بالإسلام ، فإن الإسلام يصبح بذلك قوة جامعة وليس مُـفـَرِقة ، مما جعل من الضروري بالنسبة لمن يريد تفتيت المنطقة الإنتقال أولاً إلى الهوية الدينية الإسلامية كخطوة نحو إلغاء الهوية الوطنية ، ومن ثم العمل على تفتيت الهوية الدينية الإسلامية إلى هويات مذهبية ليصبح الإسلام المذهبي بذلك أداة لتفتيت المنطقة وشرعنة مطالب الشرذمة والتقسيم .
المُحرمات ترتبط عادة بالقناعة الوجدانية والقبول بها بإعتبارها من المُسَلـﱠمات التي لا تخضع للإجتهاد . وهكذا ، كان الإنتماء الوطني والهوية القومية العربية دائماً من المسلمات التي قـَبـِلَ بها الجميع دون جــِدَال أو مناقـشة . وحتى الإسلاميين لم يحاولوا التنصل من هويتهم كعرب بإعتبار ذلك أمراً مفروغاً منه ومن المسلمات التي لا تخضع للنقاش . ولكن ما جرى من تطورات وما تبعها من إقتتال جعل من أمر الهوية العربية ضحية أولى خصوصاً بعد أن أخذت منحى دموياً إنتهى بإضعاف الدولة الوطنية والهوية الوطنية المرافقة لها ووضعهما على شفا الإنهيار ودفـع إلى السطح بمنظمات تنتمي إلى هويات دينية ومذهبية كوريث لتلك الدولـة . وقد جعل هذا من الدويلة المذهبية تعبيراً بديلاً عن الدولة الوطنية ، بعد أن تم تفتيت الشعب إلى مجموعات مذهبية أو عرقية تطمح إلى التعبير عن نفسها سياسياً من خلال هويات لا تحظى بأي مدلول سياسي حقيقي أو وطني .
لقد ساهم نمو المذهبية كغطاء لدويلات المنطقة في نشر ثقافة التعصب الديني وعدم التسامح ورفض قبول الآخرين بإعتبار أن ذلك يتعارض والهوية المذهبية وما إنبثق أو ينبثق عنها من دويلات مزعومة . وهكذا تحول الخلاف المذهبي إلى وسيلة لتبرير رفض الآخرين بل والتخلص منهم إما بالترحيل القسري أو القتل والتصفية الجسدية بإعتبار أن إستمرار وجود أؤلئك الآخرين يشكل خطراً على بقاء الدولة المذهبية .
التسامح الديني الذي ميز المنطقة العربية خلال أغلب سنوات القرن الماضي كان ممكناً بسبب علمانية الدولة الوطنية والإنتماء القومي الذي يقبل بالعرب كعرب بغض النظر عن ديانتهم أو مذهبهم . والقدرة على التسامح هي أحد صفات الإسلام المبكر التي تناغمت لاحقاً مع الفكر القومي العربي المنفتح على كل أبناء الأمة العربية بالتساوي . وعندما إنهار هذا الفكر المتنور وتم إستبداله بالفكر الديني المتزمت إنهار التسامح الديني معه .
إن كل ما جرى ما كان ليكون ممكناً بهذه السهولة لولا الإنهيار الشامل المتواصل في نظام التعليم والتربية في العالم العربي . إذ من الملاحظ أن نظام التعليم في كافة مراحله في معظم الدول العربية يعاني من حالة واضحة من التقهقر والإنحلال إلى الحد الذي إقترب فيه العديد من خريجي الجامعات من الأمية الثقافية أو ضعف التحصيل العلمي حتى وإن كانوا من حملة الشهادات . والأمر لم يقتصر على الشق التعليـمي ، ولكنه تجاوز ذلك إلى شـق التربية الوطنية التي تم إلغاؤها وإلغاء مواد عديدة تتعلق بها مثل القضية الفلسطينية والمجتمع العربي بهدف تجهيل الأجيال الجديدة بقضايا أمتهم وبما يجمعهم معاً كأمة .
لم يجئ تدهور حال التعليم مفاجئاً أو في غفلة من الزمن ودون علم الأنظمة العربية السائدة بل إبتدأ في الحقيقة على يد تلك الأنظمة الدكتاتورية التي يرأس أو رأسَ معظمها حكام يفتقرون إلى أي تقدير لأهمية العملية التعليمية والتربوية في بناء أجيال متعلمة مثقفة تتمتع بالحس الوطني والإنتماء للأمة . كما ساهمت الحركات الإسلامية في بعض الدول العربية مثل الأردن في إضعاف مناهج التعليم في مراحله المختلفة لأسباب عقائدية . وهكذا فإن هذا التدهور لم يأتِ بصورة عبثية بل كان نتاج جهد حثيث صامت إما بتأثير من الآخرين أو بإيحاء منهم وكان ذلك في العادة مرتبطاً ببرنامج سياسي يهدف إلى إضعاف فهم وإستيعاب الأجيال الجديد لقضايا أمتهم وهويتهم الوطنية والقومية وإلتزامهم بها .
إن موضوع السلام مع إسرائيل وإنهاء حالة العداء معها كان ، مثلاً ، وراء إلغاء مادة "القضية الفلسطينية" ، وهدف طمس فكرة الوحدة العربية كان وراء إلغاء مادة "المجتمع العربي" من مناهج الدراسة في المدارس . أما الديموقراطية وحقوق الإنسان فلم تكن أبداً مادة مقبولة للتدريس من قبل الأنظمة المستبدة الدكتاتورية . وهكذا خضعت العملية التربوية لتجاذبات وذبذبات السياسة وكذلك تدخل الحكام في تقدير ماهو المتوجب على الأجيال أن تتعلمه وما هو الممنوع عنها ، ناهيك عن إضعاف مستوى التحصيل العلمي نفسه من خلال تدني مستوى المناهج التعليمية من جهة ومستوى الأساتذة من جهة أخرى كنتيجة حتمية لضعف الإستثمار في التعليم مقارنة مثلاً بالإنفاق على السلاح أو الأجهزة الأمنية .
إن الأمة التي تـَنـْتـَهكْ محرماتها سوف ينتهي بها الأمر دون ثوابت وطنية وأخلاقية تحميها ، وهذا هو المدخل إلى الإنهيار وإلى الوقوع فريسة لسياسات وأيديولوجيات وإرهاصات لا تؤدي إلا إلى الفرقة والدمار . وهذا الدمار بعناوينه المختلفة سواء أُطلق عليه عنوان الإرهاب أو التعصب الديني أو المذهبي سيان كونه يشكل بالنتيجة مدخلاً وعذراً لتدمير الثوابت التي بنيت عليها الأوطان وإستبدالها بعناوين جوفاء تخلو من أي مضمون وطني أو أخلاقي سوى برنامجها الإقصائي والتدميري كونها في أصولها قوة إقصاء وتدمير غير قادرة على البناء .
الحديث في المـُحَرﱠمات : الدوران في حلقات دامية !!
بقلم : د. لبيب قمحاوي* ... 25.01.2016