بعد تصفية أمريكا للقائد الإيراني قاسم سليماني بدأ الحديث يتردد في وسائل الإعلام والأوساط السياسية العربية والدولية عن بداية النهاية للمشروع الإيراني في الشرق الأوسط. لكن ما مدى صحة هذه التكهنات والتوقعات؟ هل أنهت إيران مهمتها ووظيفتها الأمريكية في المنطقة فعلاً؟ نرجو ألا يقول لنا أحد إن إيران صاحبة مشروع، فهذا الكلام في العصر الأمريكي ضرب من الأحلام والأكاذيب الفاقعة، فأمريكا حصراً هي من تحدد الأدوار للاعبين في الشرق الأوسط حتى هذه اللحظة، وليس مسموحاً لأحد أن يتجاوز الحدود والأدوار الأمريكية الموكلة للاعبين. وكل ما قامت به إيران حتى الآن كان بمباركة أمريكية، وبالتالي، فإن استمرار التمدد الإيراني أو إنهاءه في المنطقة هو قرار أمريكي بالدرجة الأولى.
صحيح أن إيران استغلت الجانب المذهبي وسيطرت على العراق بواسطة أتباعها من الشيعة، لكن من الذي سهل لها ولشيعتها الإيرانيين الوصول إلى السلطة والتحكم بالعراق. هل كانت إيران وأتباعها من شيعة العراق يحلمون بحكم العراق لولا الدبابات الأمريكية؟ منذ متى وهم ينتظرون للوصول إلى السلطة في العراق؟ منذ مئات السنين. لقد حاول الخميني بحربه ضد صدام لثمان سنوات ففشل، وتجرع السم وأوقف الحرب، ثم يأتي الغزو الأمريكي فيحمل الأحزاب الشيعية المبعثرة والشاردة في إيران ولندن وهولندا وأمريكا وسوريا ووووو إلى سدة الحكم في العراق، وبالتالي على إيران وأتباعها أن يشكروا السيد الأمريكي الذي حقق لهم الحلم الذي يراودهم منذ مئات السنين.
هل دخلت إيران إلى سوريا وتغلغلت في كل مفاصل الدولة بينما كانت أمريكا وإسرائيل نائمتين؟ هل وصل قاسم سليماني إلى الحدود الإسرائيلية السورية لسحق جماعات المعارضة السورية رغماً عن أنف الأمريكي والإسرائيلي؟ هل كانت الأقمار الصناعية الإسرائيلية معطلة ولم تلمح عشرات الجماعات الشيعية التي شحنتها إيران إلى سوريا لدعم النظام؟ لقد كانت أمريكا وإسرائيل تشتكي من حزب الله اللبناني، فكيف سمحتا لإيران بإدخال عشرات أحزاب الله جديدة إلى سوريا المتاخمة لإسرائيل المقدس الأول في الاستراتيجية الأمريكية؟ وحتى حزب الله اللبناني نفسه، ماذا فعل بعد حرب 2006 المبرمجة سوى حماية الحدود الإسرائيلية؟ وحدث ولا حرج عن التغلغل الإيراني في اليمن. هل دخلت إيران اليمن ولم يلمحها الأمريكي، أم إنها دخلت بضوء أخضر أمريكي لدعم الحوثي لأهداف تخدم مصالح الأمريكي في الخليج على صعيد استنزاف دول الخليج وترهيب الخليجيين بالبعبع الإيراني؟
الاحتلال الإيراني للعراق وسوريا ولبنان واليمن كله مرهون بالمباركة والضوء الأخضر الأمريكي، فهل يعقل أن إيران يمكن أن تضحي باستثماراتها التاريخية في دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء وتحارب أمريكا؟ فقط المغفلون والأغبياء يمكن أن يصدقوا نشوب حرب بين الأجير الإيراني والمعلم الأمريكي.
الاحتلال الإيراني للعراق وسوريا ولبنان واليمن كله مرهون بالمباركة والضوء الأخضر الأمريكي، فهل يعقل أن إيران يمكن أن تضحي باستثماراتها التاريخية في دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء وتحارب أمريكا؟
مغفل من يعتقد أن لإيران مشروعاً، بل هي جزء من المشروع الأمريكي، ولو كان مشروعها يتعارض مع المشروع الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة لما تجرأت على العبور إلى أي بلد عربي. ونحن شاهدنا ماذا حصل لكل المغضوب عليهم في المنطقة عندما رفعوا أصواتهم في وجه أمريكا. ولنتذكر ماذا فعلت أمريكا بأعتى منافس لها في التاريخ الاتحاد السوفييتي عندما كان يهدد مشروعها فعلاً، فما بالك بإيران التي لا تشكل خمسة بالمائة من الخطر السوفييتي.
لا شك أن تصفية قاسم سليماني شكلت صدمة كبرى غير متوقعة لإيران، خاصة وأن التغلغل الإيراني في المنطقة كان يجري بسلاسة دون أي مماحكات مع الأمريكي إلا بالعنتريات الإعلامية فقط، فجاء قتل سليماني ليهز القارب الإيراني. والسؤال الآن، هل يعقل أن أمريكا شعرت الآن بالخطر الإيراني وهي ترعى وتراقب التمدد الإيراني في المنطقة منذ 1979 عن كثب؟ نحن الآن أمام احتمالين، فإما أن يكون مقتل سليماني نوعاً من ألعاب التضليل الاستراتيجي الذي يبدو للوهلة الأولى خطيراً جداً، لكنه سرعان ما نكتشف أنه يصب في النهاية في المصلحة الإيرانية. ومعروف أن الألعاب الكبرى تحتاج إلى هزات كبرى كي تمر لعبة التضليل الاستراتيجي، فلولا أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر مثلاً لما استطاعت أمريكا تبرير غزوها لأفغانستان والعراق. فهل يمكن أن تنسحب أمريكا الآن من المنطقة بعد مقتل سليماني وتقوم بتسليم المنطقة بأكملها للإيراني كنتيجة محسوبة لعملية الاغتيال؟ هذا الطرح ينتشر الآن على نطاق واسع إعلامياً وسياسياً. ويقول الدكتور عبدالله الشايجي أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت وهو متابع دقيق للسياسة الأمريكية إن تصفية سليماني مقدمة لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق وسوريا وتسليم المنطقة بالكامل لإيران.
صحيح أن إيران فقدت قائداً شهيراً، لكن اللعبة الأمريكية أنهت في الوقت ذاته الثورة العراقية على ملالي إيران، وجعلت الانتفاضة اللبنانية على حزب الله أثراً بعد عين، ناهيك عن أن الضربة الأمريكية دفعت الإيرانيين الذين كانوا منتفضين في الشوارع قبل أسابيع يلتفون حول نظامهم المترنح. لقد جاءت تصفية سليماني كقبلة الحياة بالنسبة للنظام الإيراني. وقد لاحظنا أن التخادم بين الأمريكي عاد إلى الواجهة بعد مقتل سليماني بشكل مفضوح، فقد أعلنت إيران أنها تريد طرد الأمريكيين من المنطقة، وهو ادعاء سخيف لا تقدر عليه طهران، لكنها تغازل بذلك الأمريكي كي يستخدم التهديد الإيراني لابتزاز الخليج. ادفعوا بالتي هي أحسن، نحن تهددنا إيران ويجب أن نرحل، لكن إذا كنتم تريدون بقاءنا في المنطقة كي نحميكم من إيران عليكم أن تدفعوا. وقد لاحظنا في رد الرئيس الأمريكي على الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق أنه قال: «أمريكا لم تعد بحاجة لنفط الخليج وغازه بعد أن أصبحت أكبر منتج للنفط والغاز في العالم». وهو بذلك يبتز دول الخليج بشكل مفضوح، إما أن تدفعوا وإلا نحن سنترككم فريسة للخطر الإيراني.
العلاقة الإيرانية الأمريكية أشبه بالمصارعة الأمريكية، حيث نرى المصارعين يصرخون في وجوه بعضهم البعض، ثم يتعاركون بطريقة تبدو عنيفة للغاية وسط أصوات الجمهور المنفعل جداً، لكن في النهاية لا يموت أي مصارع، لا بل إن المصارعين يتقاسمون رباح المسرحية من المتفرجين المغفلين. وعلى ما يبدو هكذا هو الصراع بين الأمريكي والإيراني في المنطقة. وما دامت الأرباح تتدفق على الخزينة الأمريكية، فإن النظام الإيراني سيستمر بأداء دوره المعهود. باختصار، فهو باق ويتمدد.
هل انتهى الدور الإيراني في المنطقة أم باق ويتمدد؟
بقلم : د. فيصل القاسم ... 11.01.2020