اكتسح «نومادلاند» أرض الرّحل – حفل الأوسكار 2021 الذي جرى ليلة الأحد الماضي، فحصد جبال جوائز (أفضل فيلم، وأفضل مخرجة (كلوي جاو) وأفضل ممثلّة رئيسية (فرانسيس ماكدورماند).
يُسجّل المُحتفى به في المنطقة الرّماديّة الغامضة بين الوثائقيّ والدراما المتخيّلة التفاصيل اليوميّة لعيش مجموعة من الأمريكيين، الذين أجبرتهم ظروف الرّكود الاقتصادي بعد الأزمة الماليّة العالميّة (إلى التشرّد والعيش متنقلين في سيّارات نقل صغيرة وكرافانات قسّموا مساحاتها الضيقة إلى زوايا للنّوم، وللطبخ، ولتخزين التذكارات القليلة التي نجت من حياتهم السابقة، فكأنّهم أبناء قبيلة مشتتة غير مستقرّة ذات ثقافة مختلفة عن بقيّة المجتمعات الحضريّة من حولهم عبر الولايات المتحدّة.
مقاربة المخرجة لحياة بدو ما بعد الحداثة هؤلاء وضعتها في سياق الأجواء المفتوحة للغرب الأمريكي: تلك التشكيلات الصخريّة الخلاّبة والأراضي الوعرة والغابات القديمة والآفاق الصحراوية الممتدة بلا نهاية، وكذلك مواقف سيارات الشحن ومواقع التخييم المليئة بالقمامة وأماكن العمل المؤقت المثيرة للكآبة. وفي خلفيّة هذه المشاهد يتضاءل وجود الفرد إلى اللاشيء، عابر وتافه وحزين أمام الطبيعة. فيما تقدّم ماكدورماند ورفاقها مشتركين معاً بروح المغامرة كما بتجربة الخسارة لنمط عيشهم الحضريّ السابق ومزاج العزلة، ومع الكثير من حكاياهم المفعمة بالحزن عمّا مضى هناك حمى خفيّة تجتاحهم لاكتشاف بلاد وأماكن جديدة لم يكن لهم في ظروف اعتياديّة من زيارتها، واحتضانها بهذه الحرارة.
أين ذهبت الحقيقة؟
«أرض الرّحل» الذي حظي بإشادات واسعة من قبل النّقاد الأمريكيين وصف بأنّه مزيج من الشعر المصوّر والواقعيّة. إنه وثائقي بقدر ما هو دراما: مقتبس من كتاب غير روائي، يلتقط وقائع حياة أشخاص غير ممثلين يعيشون بالفعل ذلك النمط المتشّرد (بصرف النظر عن الممثلين فرانسيس ماكدورماند وديفيد ستراتهيرن) الذين تم تصويرهم في بيئات طبيعية حقيقية وأماكن عمل موجودة بالفعل. وهو يغرف غرفاً من مدرسة الواقعيّة الإيطاليّة وأسلوب الإيرانيّ عباس كياروستامي ويعيد إلى الأذهان فيلم «شاطئ بومباي – 2011» – وهو دراسة مماثلة لـ «نومالدلاند» لنمط عيش متغربين أمريكيين واقعيين أنجزته ألما هاريل مع طمس الحدود بين الوثائقيّ والدراميّ لدرجة تسببت في حالة «نومادلاند» بنوع من الالتباس لناحية فئة إدراج مشاركته في المهرجانات المتخصصة: في صاندانس – الأضخم أمريكيّاً – عُرض كفيلم غير روائي، بينما تنافس ضمن الأعمال الرئيسيّة الدراميّة الطابع، لا تحت لافتة فئة الوثائقيّات. وبالطّبع فإن فئة عرض أي شريط في مثل تلك الفعاليّات ستفرض على المشاهدين نوعاً من توقعات مسبقة بشأن محتوى الفيلم ومادته.
هذا التداخل المبهم بين الأنواع الفنيّة وبين الحقيقيّ والمتخيّل في منطقة وسطى فوضوية لا هنا ولا هناك – وفي ذات الآن ليس من صيغة أفلام (الوثائقي – الدرامي) الأوضح تموضعاً – ليس بالضرورة فكرة جديدة تماماً، لكنّه بهذا التكريم الذي أفردته له أهم أكاديميّة للفنون البصريّة في العالم عبر تتويجه بالأوسكار، كما الثناء الجزيل الذي أسبغته عليه الصحافة الأمريكيّة، فكأنّه يؤسس رسميّاً لفئة جديدة بالكامل من الأفلام والتي ستبدأ من الشاشات الأمريكيّة، لكنّها ستنتقل حتماً إلى مختلف مصانع الفن السابع حول العالم.
«نومادلاند» بين الرّشد الفنيّ والحقائق الكاذبة
تعريف «الحقيقة» موضوع شائك فلسفيّاً، وكان على مستوى ما وراء ذلك الشرّخ العظيم الذي فرّق الفلاسفة فسطاطين: فلاسفة مثاليّون وآخرون ماديّون. ولذلك فإن التباين بشأن حدود فاصلة بين الواقعي والمتخيّل لماهيّة محتوى أي شريط، بما فيها تلك الدراميّة المحض – التي يراها البعض انعكاساً لا واعياً للحقيقة وصورة شديدة الالتصاق بثقافة وطريقة عيش مجتمع ما ونظرته إلى العالم – قد تبدو أقرب للجدل البيزنطي الشهير. وربّما يذكر البعض «حرب الخليج لم تقع» تلك المقالة الشهيرة للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار في يوميّة «ليبراسيون» فالواقع – وكان يتحدّث وقتها عن حرب الخليج الأولى 1991 – صار له وجود ضعيف وهش، وتوارت الحقيقة خلف معادلها الافتراضي، بسبب هيمنة الصورة على الحدث الذي بدا حينها وكأنه حرب نظيفة تجري كما ألعاب الفيديو – على الشاشات – ونتاج خليط سائل من التلفيق والاجتزاء والتحوير والوقائع بغضّ النظّر عن مسارات الحرب الحقيقيّة على الأرض، والمعاناة الهائلة لملايين البشر الذين أغلبهم غير معنيّين مباشرة بالصراع.
قد يمضي البعض إلى اعتبار تجربة «نومادلاند» الرّاهنة بوصفها رشداً فنيّاً للجمهور المعاصر الذي لا تقنعه الأعمال الدراميّة المحضة، ويقبل على المواد التي وإن صيغت بأدوات الخيال الروائي فإنها توازي وتحاور عالمه الملموس.
ولذا فإن أعمالاً مثل الدراما التلفزيونيّة «بيت من ورق» الأمريكيّ سلبت لبّ المشاهدين ومهّدت لانتشار منصات البث الرقمي – نتفليكس وأخواتها – لأنها وضعت سياق حكاية الدراما في أجواء شديدة الواقعيّة في كواليس السلطة في واشنطن العاصمة. لكن من أتيح له قراءة كتاب «نومادلاند» لـ«جيسيكا برودر» الذي اعتمدت عليه المخرجة تجاو كأساس لفيلمها سيجد وبكل بساطة أنّ الشريط يهمل ثيمة العمل الأصلي المتمحورة حول النّقد الاجتماعي للرأسماليّة بصيغتها الأمريكيّة المتأخرة بشكل مريب وذلك لمصلحة تقديم صورة سحريّة عن عودة إلى الطبيعة تركّز على المشاهد الخلابة والتفاصيل العملية لمعاناة حياة الترحال المتشردة والصفات الشخصية التي تفرضها على الرّحل، المرونة والتضامن وبساطة العيش.
تجاو قدّمت – ورضيت المؤسسة الرسميّة الأمريكيّة عما قدمته بدلالة الأوسكار- بأدوات واقعيّة قصّة أشبه ما تكون بالأخبار الكاذبة: تبدو من الوهلة الأولى شديدة الواقعيّة لكنّها ملفقة بالكامل، ولا تنقل أي واقع بأمانة كافية بقدر ما ترّوج لصورة تريد المخرجة – والمؤسسة – للناس بأن يروها. لكن الكتاب الأصليّ يلتقط لحظة زمنيّة محددة في مكان محدد: ما بعد الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 وما جرّته على الأمريكيين من اضطرابات اقتصادية وتفكك اجتماعي دفع كثيرين في منتصف العمر وكبار السن، من الطبقة المتوسطة فما دون إلى الطريق.
هؤلاء بشر أساءت إليهم المنظومة الرأسماليّة دون ذنب منهم، يعانون من البطالة، والزواجات المحطمّة، وفقدان التقديمات الاجتماعيّة، وانهيار قيمة المنازل، وتراكم الدّيّون بفضل الربا الفاحش، ويعملون لساعات طويلة مرهقة في مستودعات شركة أمازون خلال العطلة الشتوية، وفترات عمل سيئة الأجر في أشهر الصيف.
وهم متهاونون واحتياجاتهم قليلة، ولكنهم يائسون أيضا، وتضمحلّ إنسانيتهم وصحتهم بسبب تفاقم عدم المساواة بين الأمريكيين، وهزال شبكة الأمان العموميّة.
عند التأمّل، تدرك بأن «أرض الرّحل» في النهاية ليس إلا مشروع حقيقة ملفّقة، تستعير أدوات الواقع لتبيعك الوهم، وتخفي جبل الجليد الغائر الضخم لتصف جمال القمّة الصغيرة الظاهرة فوق سطح الماء، وليس بعيدا بكثير عمّا صار يعرف ببرامج تلفزيون الواقع. تماماً كما في «الأبرينتس» الذي قدّم للأمريكيين – والعالم – دونالد ترامب قبل توليه الرئاسة الأمريكية إنساناً كفوءاً عاقلاً – بل عبقريّاً.
قد نحب كبشر حكايا الخيال المختلط بقليل من «الحقيقة» وتلك مساحة نحتاجها. لكننا دون شكّ لا نريد أي تزوير للحقيقة بـ»الخيال» مهما توج ذلك التزوير بالأوسكارات.
ليس إلاّ مشروع حقيقة ملفقة: «أرض الرحّل» متوجاً بالأوسكارات!!
بقلم : ندى حطيط ... 30.04.2021