من حي «الشيخ جرّاح» في قلب القدس اشتعلت مواجهة حديثة الولادة بين العين والمخرز، ما لبثت أن اتسعت، كما انتفاضة، امتدت نيران غضب عبر الأراضي المحتلّة من شمالها إلى الجنوب، كاسرة كل حدود الهويّات المختلقة قبل أن تنتهي بعد هجوم إسرائيليّ على قطاع غزّة استمر 11 يوماً وضغوط دوليّة متعددة، أوقفت إطلاق النّار على الأرض، وتالياً المظاهرات والاعتصامات، لكنّها لم توقف الحرب الموازية المستمرة منذ بعض الوقت على ساحات الفضاء الّسيبراني: شاشات التلفزيون، ووكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي وخاصّة «فيسبوك» و»تيك توك» كما مواقع الألعاب الرقميّة و»البودكاتس» وغيرها.
لقد كان جليّاً أن المزيد من الأشخاص عبر العالم كسروا احتكار صوتهم (وصورتهم) وتزويرهما من قبل وسائل الإعلام التقليديّة، والتي بحكم ارتباطها الوثيق برأس المال العالميّ وخضوعها التاريخيّ لتوجهات الأنظمة الغربيّة ما لبثت تروّج لسرديّة صهيونيّة محض حول مختلف نهر الأحداث الذي شهده شرق المتوسّط منذ أولى المستوطنات الصهيونيّة هناك في 1882 وإلى اليوم.
ووجد كثيرون قنوات بديلة للتّعبير عن مواقفهم، سواء في التّظاهرات والاعتصامات التي وإن أهملها الإعلام التقليدي أو قلل من شأنها – على عادته – لكنّها بُثّت عبر الإنترنت من مختلف تطبيقات التّواصل الاجتماعي، لا سيّما تيك توك، فيما اكتفى آخرون بالنّضال على الجبهات الافتراضية التي لم تقلّ عنفاً عن صليل الصواريخ – بالطبع بمقدار ما تسمح به المقارنة بين الحقيقي والافتراضي – واستمرت بعدما خفتت أصوات القصف.
*إميلي وايلدر: السقوط النهائيّ لبيوتات الإعلام التقليدي
قبل شهر تقريباً، انضمت إميلي وايلدر، وهي صحافية أمريكيّة (يهوديّة) تبلغ من العمر 22 عاما، إلى وكالة «أسوشيتد برس» كمراسلة إخبارية من ولاية أريزونا، وبعد أسبوع أو نحو ذلك، بدأت الأحداث في فلسطين تسيطر على نشرات الأخبار. وايلدر على صفحتها الخاصة من تطبيق «تويتر» أعادت تغريد أفكار آخرين حول ما يجري، وعلقّت على الطريقة التي يتم تغطية الحرب الإسرائيليّة على الفلسطينيين في الإعلام الأمريكيّ، حيث «الموضوعية» مسألة انتقائيّة متحيّزة بداية من المصطلحات المستخدمة (الحرب مثلاً لبثّ وهم التعادل بين الفريقين – بدلاً من الحصار والاحتلال) وانتهاء باحتكار شبه تام للمساحة المخصصة في الصحافة المطبوعة والهواء التلفزيوني لتغطيّة القضية من قبل السرديّة الصهيونيّة وممثليها.
لكن مجموعة من التلامذة الجمهوريين في جامعة ستانفورد نشروا مجموعة تغريدات تتهم وايلدر بأنّها «محرضة مناهضة لإسرائيل» وأنها أدلت بتصريحات معادية للسامية خلال فترة تلقيها الدراسة في ذات الجامعة. وعلى الرّغم من أنّ حساب جمهوريي ستانفورد لديه أقل من ألفي متابع، لكن التغريدات استخدمت كحجّة لوصم «أسوشييتد برس» بأنّها منحازة ضد إسرائيل، ومتعاطفة مع (حماس). وكانت القوات الإسرائيلية قد قصفت مبنى يضمّ مكاتب وكالة أسوشييتد برس في غزة قبل ذلك بأيّام، زاعمة بأن المخابرات العسكريّة لحماس تعمل انطلاقا من نفس المبنى. وقد نفت الوكالة علمها بذلك، ولم ينشر المسؤولون الإسرائيليون بعد دليلا على ادعائهم. ومع هذا لم تتورع إدارة الوكالة عن طرد وايلدر من عملها، مشيرة إلى انتهاكات ارتكبتها على وسائل التواصل الاجتماعي لسنين قبل التحاقها بالعمل.
وغير بعيد عن الولايات المتحدّة، وقّع 2000 صحافي كندي رسالة مفتوحة إلى غرف الأخبار في وسائل إعلام بلادهم انتقدوا فيها انحياز التغطيّة ضد الفلسطينيين.
وبعد وقت قصير استُدعي الموقعون واحداً واحداً من قبل أرباب أعمالهم وتعرضوا غالباً للتوبيخ، وتأكّد أن ثلاثة منهم على الأقل تم نقلهم لأقسام أخرى بعيداً عن تغطيّة أخبار الشّرق الأوسط.
لقد أظهر هذا الفصل التعسفيّ لوايلدر، وتوبيخ الصحافيين الكنديين مجدداً ذلك الانحياز المسموم من قبل مؤسسات الإعلام التقليدي في الغرب لكل ما هو إسرائيلي على حساب أصحاب الأرض، وأن أدنى صوت معارض لتلك الصورة المزيفة التي يستمر في إعادة إنتاجها يُقصى بلا رحمة – حتى لو كان صاحبه يهوديّاً!
*فيسبوك يتوحّش
ومع انسداد منافذ الإعلام التقليديّ، يجد جيل الشباب الفلسطيني نفسه في بحث عن قنوات بديلة لإيصال صوته، لا سيما خلال العقد الأخير.
على فيسبوك، التطبيق الأهم، طالما تعرّضت المواد المؤيدة لفلسطين للحذف والتضييق. لكن الهجمة على محتواها بلغت خلال أيّام القصف الإسرائيلي الأخير حدّ التوحش، إذ أزيلت وغالباً بدون أيّ مقدمات مئات المواد من فيسبوك وأنستغرام وعُلّقت كثير من المجموعات والحسابات الفرديّة، مما حدا بمنظمات حقوق الإنسان – وبعضها يهوديّ للمفارقة – إلى الإعراب عن قلقها من «الرّقابة» التي تمارسها شركات التكنولوجيا الأمريكيّة الخاصة على الفلسطينيين مطالبة بمزيد من الشفافية بما خص عملية صنع القرار في الشبكات الاجتماعية.
وقد اعترف متحدّث باسم الشركة بأن ثمة أخطاء وقعت، وأن فرقاً خاصة من المتحدثين بالعربيّة والعبريّة مكلفّون بمتابعة المواد حول فلسطين عن كثب، معتبراً أن حدوث الأخطاء جاء دون قصد، لكن ذلك لم يمنع عشرات النشطاء من الشروع في رحلة الهجرة نحو تطبيق (في كيه) الروسي البديل لفيسبوك وإعادة تموضعهم هناك.
«*تيك توك»: جبهة نضال الجيل الجديد
ومع فقدان الأجيال الجديدة للثقة والاهتمام بمصادر الإعلام التقليدي كالتلفزيونات والصحف، تحوّلت صفحات «تيك توك» إلى جبهة موازية للنضالات الفلسطينية على الأرض، لنقل الاحتجاجات الحيّة على نحو يستحيل توفره في قنوات أخرى.
ويلجأ الشباب في الأراضي المحتلة إلى التطبيق بشكل متزايد للتواصل وتبادل صور العنف الإسرائيلي والاعتداءات على سكان القدس وأحياناً التداعي للتظاهرات المحليّة ونقل مقاطع منها. وكثيراً ما يشبك المراهقون الفلسطينيون مع حسابات لمراهقين إسرائيليين ويتبادلون الشتائم عبر مقاطع الفيديو.
ويبدو أن «تيك توك» – الصيني المنشأ – رغم حذره من الوصم بنقل الأخبار الكاذبة، فإنّه مقارنة بالتطبيقات الأخرى الأقل عداء للمحتوى الفلسطيني، وبالتالي أصبح التطبيق الأهم لنقل الأحداث من الأرض وإظهار التضامن الدّولي مع الفلسطينيين.
*إسرائيل تخسر عالم ألعاب الفيديو
أشعلت جولة العدوان الإسرائيليّ جبهة افتراضيّة جديدة: حيث تضامن مطوّرو ألعاب فيديو ومنصات لعب على الإنترنت – بما فيها الموقع المخضرم IGN – مع الفلسطينيين وانتقدوا إسرائيل بشدة.
وبعد أيام قليلة من بدء العملية الإسرائيلية في غزة، بدأت مواقع الألعاب في التعبير عن دعمها للفلسطينيين ودعت إلى تقديم مساعدات فورية ووقف الأعمال العدائية.
أضاف موقع الألعاب الرائد IGN علما فلسطينيا صغيرا إلى شعاره يأخذ عند النقر عليه إلى مقال يصف الأزمة الإنسانيّة في قطاع غزّة والضفة الغربيّة ويقترح طرقاً لمساعدة الفلسطينيين وعناوين جهات يمكن التبرّع إليها لتلك الغاية.
وقد تسبب ذلك المقال بعاصفة انتقادات شنّها مؤيدون لإسرائيل على فيسبوك مما حدا بـ IGN إلى إزالته والاعتذار، لا سيّما بعد أن نشر موظفو فرعها الإسرائيلي إدانات لما أسموه بحملة «المراوغة والتضليل» وعبروا عن دعمهم الكامل لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي وللدولة العبرية.
ولم تكن IGN وحدها في محاولة إظهار التعاطف مع الفلسطينيين، إذ نشرت مجلة «غيم إنفورمر» المتخصصة بألعاب الفيديو، مقالا يقترح تقديم المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة. وبينما أزيل المقال نتيجة ضغوط إسرائيليّة فإن (Kotaku) وهو موقع هام لألعاب الفيديو، أعلن دعمه للفلسطينيين، وانتقد رضوخ IGN للضغوط الإسرائيليّة. كما فعل عدد من مطوري الألعاب. وهؤلاء الأخيرون خبراء في استخدام تكنولوجيا الاتصالات وبارعون في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإيصال آرائهم، وعدد متزايد منهم لا يأبه بتابوهات الإعلام التقليدي، ويقول قناعاته بشجاعة ضد الاحتلال والاضطهاد.
وعلى كل هذه الجبهات الموازية وغيرها، ما تزال المعارك محتدمة وقد تبقى لبعض الوقت. لكن الأكيد أن ثمّة شروخاً وتشققات قد بدأت بالظهور على الدرع الإعلاميّ التقليديّ لإسرائيل، وأن ما للصهاينة من هيمنة على السرديّة بشأن فلسطين لن تستمر طويلاً.
عن جبهات الحرب الموازية: في فلسطين لن تستمر الهيمنة على السرديّة طويلاً!!
بقلم : ندى حطيط ... 28.05.2021