أحدث الأخبار
الثلاثاء 10 كانون أول/ديسمبر 2024
الوحش الصهيوني وإصبع أحمد!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 24.11.2022

لا يلجم الفاشيات الطليقة شيء مثلما تلجمها نهاياتها.
فمبدأ انبعاثها هو التّوحش، وضرورة استمرارها هو التوحش، ونهاياتها قائمة في جوعها لمزيد منه، وبقدر ما يلتهمها توحّشها الذي لا يُسكت جوعها، يلتهمها ضحاياها الذين التهمتهم في النهاية.
فاشيات كثيرة مرّت على الأرض، بعضها استطاع ويستطيع إخفاء وجه توحشه لأنه يدرك حجم بشاعته، بأقنعة كثيرة، لكن أقنعته لا تلبث أن تنحسر هنا أو هناك، فيقوم بإعادة تثبيت القناع بصورة مُحكَمة أكثر؛ هذه الفاشيات تعيش أطول، لكنها لا تدرك كيف تربّي وحوشها يوماً بعد يوم تحت ثيابها، وحوشها التي تنطلق لالتهام بعضها بعضاً، وهنا لا تستطيع التحكم بانحسار القناع، بل لا تعبأ، ولذا فإن أول ما تفعله هو التخلص من القناع ليتاح لها التباهي بحجم بشاعتها.
الوحش الصهيوني سعى إلى فعل هذا، ونجح طويلاً، ونجاحه كان طوْق نجاته؛ وسط محيط كيانات بوليسية أكلت أبناءها وبنت الأسوار حول كراسيها بشقاء وعذابات هؤلاء الأبناء لتستمرّ. بعضها أدرك مأزقه فرمى بأقنعته بعيداً، لكنه لم ينتبه إلى أن القناع الذي بقي سنوات وسنوات فوق وجهه، قد أعاد تشكيل الوجه على صورته.
الوحش الصهيوني، المحمي بجدران أساطيره التي لا تمتّ للسماء بصِلة، وجدران الإسمنت التي لا تمتّ لجوهر الحياة بصِلة، لم يزل يعتقد أن ملامح قناعه التي خدع بها العالم، لم تزل نفسها ملامح الوجه، فهو لا يدرك أن الوحش الذي فيه قد غيّر الملامح واخترق القناع يوماً بعد يوم، إلى أن رأى فيه العالم «نظام فصل عنصري يقوم على الهيمنة، وجريمة ضد الإنسانية».
الكيان الصهيوني منذ صدور تقرير أمنستي يواصل صعوده باتجاه العنصرية في سباق بدأنا نرى فيه كيف ينقضُّ هذا الطرف الصهيوني على ذاك ويعيِّره باعتباره أقل تشدّداً، وأقل دموية في كل أمر يتعلق بالفلسطينيين ووطنهم.
قد يظنّ البعض أن هذا الأمر محصور في جنون أحزاب وقادة فاشيين، لكن الذي ملأ ويملأ صناديق الاقتراع الصهيونية بالدم الفلسطيني، هم منتخبو هذه القيادات الفاشية.
حكاية الطفل أحمد مناصرة، الذي اعتقل وهو في الثالثة عشرة من عمرة وحكم عليه بالسجن 12 عاماً، نموذج مرعب؛ فما عاناه هذا الطفل، وعاناه ويعانيه أيضاً 770 طفلاً فلسطينياً تم اعتقالهم منذ بداية هذا العام، يشرح بوضوح لا لُبْس فيه أن هذا الكيان يمضي إلى مرحلة تفوق التوحش، في وقت لم تزل فيه كثير من الدول، في أفضل حالاتها، تلوم الوحش الصهيوني وهي تربِّت على كتفيه بقفازات الحرير، أما الذين يحالفونه من أنظمة عربية، فإنهم باتوا مشغولين اليوم بتزيين قناع هذا الوحش، والحرص على عدم انزلاقه، في وقت ينزلق فيه الوحش كلّه إلى هاويته.
قرأ الإنسان وسمع وشاهد الكثير، لكنه لم يقرأ ولم يسمع ولم يشاهد مثل ذلك الذي دار في واحدة من جلسات محاكمة الطفل أحمد مناصرة.
قاعة واسعة وجنود ومحامون وقاض مدجج لا بالعدالة، بل بقوة بطش عنصرية، وأمّ، وابنها الذي يبعد عنها عدة أمتار ولكنها لم تستطع احتضانه منذ سبع سنوات، لا في قاعة المحكمة ولا في سواها.
الأم التي رأت ابنها خلال السنوات السبع يجف وينحل ويُدمَّر نفسيّاً، بات حلمها أن تستطيع احتضانه على الأقل، لكن القاضي الصهيوني المدجّج بعدالة كيانه العنصري يرفض هذا، فتطلب في موجة يأسها أن يسمح لها بأن تلمس إصبعه على الأقل.
يستطيع المرء أن يتخيّل مدى الأسى الذي دفع أمّاً للقبول بالحدّ الأدنى من حصّتها في ابنها في هذا العالم، لتقول: ألمس إصبعه على الأقل!
ويستطيع المرء أن يتخيّل الصمت الذي عمّ القاعة، حين سمعها السجانون والمحامون وحتى جدران المحكمة، في انتظار قرار القاضي.
أيّ جنون هذا الذي يحشر البشر في لحظة انتظار كهذه!
أيّ لعنة أُصيبت بها أمّ أحمد وقد أوصلتها هذه الفاشية إلى هذا الحدّ من الانسحاق، انسحاق القلب والرّوح وكل شيء جميل وطيب في هذا العالم، وهي تنتظر قرار القاضي الصهيوني، بشأن طلبها الذي انبثق من قعر يأسها أو هبط من قمة أمومتها، وقد حُشِرتْ في أضيق الزوايا.
أي قاض ذلك الذي صُنِعَ من خلاصة أعتى الوحوش، الذي أدرك معنى السّماح لها باحتضان ابنها، فصمت طويلاً ليعذبها أكثر بالصمت، كمن يسمح لمن يموت عطشاً بأن يلمس الماء لا غير.
أيّ قاض ذلك الذي راح يتفرّج بكلّ ما فيه من لؤم ومن عنصرية على إصبع الأمّ الذي انزلق من بين الشّبك الحديدي نحو إصبع ابنها، وكيف راح الابن يُقبِّل ذلك الإصبع ويلتجئ إليه باعتباره آخر ملجأ في زمن موت الضمير البشري وجفافه وعماه، ليمضي هذا القاضي للتّباهي بالنصر الذي حققه على هذه الأمّ.
وأيّ جوع ذلك الذي دفع أحمد للتقدّم أكثر لكي يتمكن من لمس إصبع أمّه بصورة أفضل، وأيّ توحش عنصري ذاك الذي كان يدفع السجانين للقيام بإبعاده إلى الخلف وإبعاد أمّه.
– إصبع يا إلهي، لا أريد أكثر من ذلك، لقد منحتني طفلاً كاملاً لكنهم سرقوه ويضنّون عليّ بلمسة إصبع.
أي محلل نفسي يمكن أن يحلّل شخصية قاض كهذا، وهو يتحّول إلى مُلخَّص مكثف لهمجيّة كيانه وفاشيته وعنصريته.
وبعـــد: سيعود أحمد ذات يوم إلى بيته، ويعود 770 طفلاً إلى بيوتهم، بصورة لا تشبه صورهم التي كانوا عليها قبل اعتقالهم، كما عاد 50 ألف طفلة وطفل فلسطيني تم اعتقالهم منذ عام 1967، كما عاد عشرات الأطفال من أطفال فلسطين إلى أحضان أمهاتهم بأرجل محطمة أو مبتورة، وأعين مفقوءة، أو مفجوعة بما رأت، ولكن الشيء الذي لم يفهمْه هذا الوحش الصهيوني، أن عدي التميمي، إبراهيم النابلسي، إسلام صبوح، حسين جمال طه، رعد حازم، عبد فتحي حازم، محمد محمود الونة، أحمد نظمي علاونة، ومَن قبلهم ومَن بعدهم، هم أطفال أمس، وهم أخوة أحمد اليوم، وهم ذاكرته الحقيقية حين كان يصرخ أحمد في جلسة التحقيق «مش متذكِّر».. إنهم يتذكّرون كل هذه الجرائم العنصرية، وسيتذكرونها جيداً.

1