لكل الأسباب غير الجيدة، السودان العربيّ قفز إلى مقدمة النشرات الإخباريّة في التلفزيونات البريطانيّة، وعناوين الصحف عالميا، حيث الصراع الأهليّ، الذي اندلع هناك بين حلفاء الأمس – الجيش وميليشيا الدعم السريع – وتغطية لجهود لندن في إجلاء مواطنيها، ومن في حكمهم، مع انتقادات واسعة لبطء تلك الجهود ومحدوديتها، حتى الآن، إضافة إلى سلق سفير المملكة لدى الخرطوم بألسنة حداد، بعدما وجد سعادته أنّ الوقت مناسب لقضاء عطلة فصح طويلة في بريطانيا، قبل أيّام من تفجر الأوضاع، تاركاً حوالي 5000 من الرّعايا هناك، بلا سفير يرعى مصالحهم.
وقد حفلت الشاشات بمقابلات مع مواطنين بريطانيين، كانوا في السودان، ووصلوا بالفعل إلى أحد مطارات لندن (عبر قبرص) على متن أول رحلة إجلاء للرعايا (نقلت 300 شخص) تحدثوا فيها عن قصص هروب محفوف بالمخاطر عبر نقاط التفتيش، التي أقامها الطرفان، والاشتباكات المستمرة داخل الأحياء السكنيّة أحياناً، ووصف أحدهم العاصمة السودانية بـ»مدينة أشباح»، مع نقص شديد في توفر المواد الاستهلاكيّة والمياه والغذاء والدواء، كما أعمال نهب وابتزاز. ووصف عديد منهم اضطرارهم للتنقل مشياً لعدة ساعات بسبب تقطع سبل الانتقال.
ويتبقى في السودان الآن أقل من أربعة آلاف بريطانيّ أو أقاربهم المباشرين، بالإضافة إلى عدد غير محدد ممن يحملون إقامات عمل مع هيئة الصحة البريطانيّة، فيما تم نقل الطواقم الدبلوماسيّة في وقت سابق. وتشارك قوات بريطانيّة خاصّة في عمليات الإجلاء لحماية الطائرات المغادرة، بالإضافة إلى قوات أخرى تؤمن موقعاً بحرياً بديلاً عند ميناء بورسودان، في حال إذا ما توقف المطار العسكري الحالي عن استقبال الطائرات. وحثت المملكة المتحدة حاملي جوازات سفرها على شق طريقهم إلى مطار «وادي سعيدنا»، على بعد حوالي 40 كيلومترا شمال وسط الخرطوم، حيث تتمركز قوّة من الجيش الألماني.
بريطانيا، حذت بذلك حذو فرنسا وألمانيا، اللتين استفادتا من وقف إطلاق نار توصل إليه الأمريكيّون مع الفريقين المتحاربين للشروع في إجلاء رعاياها، كما فعلت العديد من الدّول، وإن تعرضت الحكومة البريطانيّة لانتقادات شديدة، بسبب تباطؤ تلك العمليات. وهناك 16 ألفاً من حاملي جوازات السفر الأمريكيّة محاصرون بسبب القتال، ويتوقع أن الجيش الأمريكيّ يعدّ لإجلائهم تالياً.
أزمة السودان أزمة الإقليم
مسارعة الدّول الغربيّة إلى سحب طواقمها الدبلوماسية ورعاياها من الخرطوم إشارة غير إيجابيّة بشأن توقعات القوى الكبرى – بما فيها الولايات المتحدة، ذات التأثير الواسع في القارة الأفريقيّة – حول مآلات الصراع الحالي. إذ يبدو أن كلا الطرفين يتلقى دعماً من جهات خارجيّة عربيّة وغربيّة، ولديه بعض أوراق القوّة، مما يفتح الباب مشرعاً لتحوّل الاقتتال على السلطة إلى حرب أهليّة طويلة، لا سيّما في ظل وجود قوى في الجوار متحفزة بداية من أثيوبيا، وانتهاء بمصر، مروراً بتشاد وليبيا المقسّمة والسودان الجنوبيّ.
وإذا تحول الصراع إلى حرب أهلية فمن السهل تفتت البلاد إلى مقاطعات متعادية – لديها عوامل موضوعيّة تسهل ذلك – وأن ينتشر القتال عبر الحدود التي يسهل اختراقها إلى فضاء الصحراء الكبرى والساحل الهش سياسياً، لا سيّما تشاد، حيث عبر عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين الحدود من منطقة دارفور بالفعل نحوها.
وحسب القاعدة التي يتفق عليها الخبراء بشؤون المنطقة فإن «ما يحدث في السودان، لن يبقى في السودان»، مع معاناة جميع جيرانه من مصاعب اقتصادية، أو عدم استقرار سياسي، أو حروب أهلية، أو تمردات محليّة، أو استقطابات عرقيّة ودينية، أو مزيج متفجّر منها، إضافة بالطبع إلى امتداد الحدود السودانية عبر مناطق شاسعة تجعل السيطرة عليها في حكم المستحيل.
تشاد: الورقة التالية في بيت من ورق؟
هذه لن تكون المرة الأولى، التي يفر فيها مواطنون سودانيون إلى تشاد المجاورة، حيث لجأ إليها ما يقرب من 400 ألف شخص منذ بداية أزمة دارفور في عام 2003. وفي بلاد منهكة كتشاد فإن موجة جديدة من اللاجئين تشكل ضغطاً إضافيّاً على الخدمات العامة الضعيفة، وهو ما حذرت منه مؤسسات الإغاثة في البلاد فور وصول الدفعة الأحدث من اللاجئين السودانيين.
وهناك تداخل عرقي بين المجموعات السكانيّة عبر الحدود بين السودان وتشاد، إضافة إلى تاريخ من الهجمات المنفلتة التي شنتها ميليشيات «الجنجويد» على السودانيين اللاجئين والقرى التشاديّة في المناطق الحدوديّة.
وينحدر حميدتي، زعيم قوات «الدعم السريع» من تشاد، وتضم القوات التابعة له العديد من المقاتلين العرب التشاديين، كما هناك متمردون مناهضون لحكومة نجامينا.
ومن المعروف أن بشارة عيسى جاد الله، أحد أفراد عائلة حميدتي، كان وزيراً للدفاع التشادي، خلال أزمة دارفور، وهو الآن عضو مؤثر في المجلس العسكري الانتقالي في تشاد.
وتنتشر في تشاد الكثير من الجماعات المسلحة والميليشيات المتقاتلة. وغرقت البلاد منذ عام 2021 في فوضى سياسية وأمنية عندما قتل الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو، على يد مقاتلين متمردين، قبل أن يستولي ابنه الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو، على السلطة بحكم الأمر الواقع، مما أثار احتجاجات من جماعات المعارضة قمعت بالعنف. ومع ذلك، فإن اختلالاً إضافيّاً للسلطة المركزيّة سيؤدي إلى تحول تشاد إلى منصّة واسعة من الاضطرابات والفوضى على النسق الذي تعيشه ليبيا منذ بعض الوقت.
وتعتبر تشاد واسطة العقد بين أربع مناطق غير مستقرة أمنياً. ليبيا في الشّمال، والسودان في الشرق، وأفريقيا الوسطى والكونغو في الجنوب، والنيجر ودول الصحراء والساحل إلى الغرب، ولذلك فإن انتقال الفوضى إليها من السودان، بوابة شرور إذا فتحت فستلتهم قلب أفريقيا بمجمله، ولن تغلق بسهولة، وقد تستدعي تورط دول أخرى، مثل نيجيريا والجزائر وأثيوبيا، غير القوى الدّولية المتنافسة بما فيها دولة الكيان الصهيونيّ.
صراع الفيلة تدفع ثمنه الحشائش دائماً
في لجة هذا الصراع الدّموي على السلطة والموارد في السودان – والمرشح للتصاعد والاتساع – فإن الخاسر الأكبر سيكون، كما دائماً تلك الأكثرية من المواطنين العاديين، الذين كانوا يعانون أصلاً من ظروف اقتصادية صعبة، وتردي الخدمات العامّة في دولة تعيش باستمرار على شفير الإفلاس.
إن هذه الحال، التي انتهى إليها سوداننا الطيّب، لا تحمل وزره الدول الأخرى – عربيّة وغربيّة – التي تدفع بالأمور إلى التأزيم لتصفية الحسابات بينها، بقدر ما تسأل عنه النخب السودانيّة، التي منذ الاستقلال انصرفت إلى الاقتتال وتقاسم الغنائم والتشبيك مع قوى خارجيّة والانخراط في صفقات إقليميّة أطاحت بوحدة البلاد إلى سودانيين إثنين قد تصير أربعة أو خمسة خلال أسابيع!
لا لم يأكل الذئب السودان. لقد تناهشه أهله، بينما وقف العرب يتفرجون ويصفقون ويمولون!
«ما يحدث في السودان لن يبقى في السودان»! الغربيّون يجلون رعاياهم من الخرطوم والتالي: تشاد!!
بقلم : ندى حطيط ... 28.04.2023