أحدث الأخبار
السبت 15 آذار/مارس 2025
سوريا: لا شعبةُ التجنيدِ باقيةٌ ولا زردُ السلاسل!!
بقلم : د.فيصل القاسم ... 15.03.2025

لا أعتقد أن هناك سورياً واحداً لم تكن ترتعب أوصاله عندما كان يسمع اسم «شعبة التجنيد» فقد كانت تلك المؤسسة العسكرية الإرهابية كابوساً وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعب السوري لعشرات السنين، وخاصة طبعاً المعنيين بها، ألا وهي فئة الشباب الذين ما أن يصل الواحد منهم إلى سن الثامنة عشرة من العمر حتى تنقضّ عليه شعبة التجنيد كالوحش الكاسر كي تشحنه موجوداً إلى أحد معسكرات التعذيب والتنكيل التي كانوا يسمونها زوراً وبهتاناً معسكرات تدريب عسكري، لأنها كانت مخصصة ومجهزة لأكبر وأقذر عملية إذلال وتحقير وتصغير ممنهج ومنظم للشباب السوري، فما أن يصل الشاب إلى تلك المعسكرات حتى يقابله ثلة من أوسخ الضباط الطائفيين الذين كان النظام يختارهم خصيصاً من عصابته المقربة للتنكيل بالشباب السوري وتحطيم معنوياته ونفسيته. وبدل أن يخرّجوا جنوداً بواسل لمواجهة العدو كان يخرّجون شباباً محطمين نفسياً، لأن آخر ما كان يهم النظام الساقط مواجهة العدو، فكل اهتمامه كان موجهاً ضد الشعب السوري بكل فئاته.
تصورا أن يواجه الشاب السوري معسكرات التعذيب وهو في أوج شبابه، فيمضي هناك سنتين وأكثر تحت رحمة ضباط طائفيين فاشيين مدربين على الإرهاب والإجرام لا يعرفون إلا أنذل أنواع القذارة والسفالة والحقارة والفجور، فكانوا يتلذذون بإذلال الشباب السوري وتحقيره وإهانته بحيث يخرج من التجنيد الإجباري بنفسية مدمرة ومسحوقة. وحتى لو ذهب الشاب السوري إلى الجامعة فإن شعبة التجنيد ستكون بانتظاره في اللحظة التي يتخرج فيها من الجامعة لتسوقه بنفس الطريقة إلى معسكرات الإذلال والتعنيف والتسخيف.
وكل السوريين يتذكرون طبعاً كيف أن الضباط الطائفيين كانوا يستغلون غالبية الشباب السوري المُجند خدمة لمصالحهم الخاصة، فهذا يخدم في مزرعة عميد، وذاك يعمل سائقاً لدى زوجة العقيد، وذاك يخدم عائلة لواء.
ولا ننسى أن المجند السوري كان يحصل في أحسن الأحوال على راتب شهري لا يتجاوز ربع دولار وربما أقل بكثير شهرياً بأسعار اليوم، بحيث لا يتعرض للتنكيل فقط عسكرياً بل يعانى حتى الجوع والفاقه معيشياً، فيصبح عالة على أهله بدل أن يكون عوناً لهم، خاصة وأن غالبية الشعب السوري من الفقراء والمعوزين. أما المقتدرون من السوريين فكانوا يدفعون مبالغ طائلة للضباط الطائفيين كي يرسلوهم في إجازات طويلة إلى بيوتهم، أي أن الضباط كانوا يتاجرون بالشباب السوري الفقير منه والميسور، لأن الهدف الأول والأخير للنظام الساقط كان ممارسة القمع والقهر والابتزاز بحق الشعب، فلا يكتفي بإذلاله بل يعمد أيضاً إلى سحقه واستغلاله مادياً، ولعلنا نتذكر أن العصابة التي حكمت سوريا لأكثر من نصف قرن كانت تطلب مبالغ ضخمة من السوريين مقابل زيارة المساجين في السجون لبضع دقائق، أو لمشاهدة جثة معتقل مات تحت التعذيب في الزنازين، أو للبحث عن مفقود أو مختف في غياهب السجون وأقبية المخابرات.

أن المجند السوري كان يحصل على راتب شهري لا يتجاوز ربع دولار وربما أقل بكثير شهرياً بأسعار اليوم، بحيث لا يتعرض للتنكيل فقط عسكرياً بل يعانى حتى الجوع والفاقه معيشياً

لا عجب إذاً أن السوريين شعروا بفرحة غامرة غير مسبوقة عندما سمعوا أن أول قرار اتخذته القيادة الجديدة في سوريا بعد سقوط النظام الأسدي هو إلغاء التجنيد الإجباري، لأن الشعب عانى الويلات من نظام التجنيد الإلزامي لعشرات السنين، ولو كان التجنيد فعلاً من أجل خدمة الوطن والذود عن حياضه، فلا بأس أبداً، لكن الجيش السوري وأجهزة أمنه كانت منذ تأسيسها أجهزة إجرام وإرهاب وسحق وسحل للسوريين، وكل الترسانة العسكرية السورية التي كانت تستنزف ثلاثة أرباع الميزانية وأكثر كانت مخصصة ليس لمواجهة إسرائيل بل لمواجهة السوريين حصراً، وقد رأينا كيف استخدم جيش النظام الساقط الطائرات والدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ العابرة للمدن ليستهدف بيوت السوريين ومدارسهم ومستشفياتهم، لا بل استخدم حتى السلاح الكيماوي ضد الأطفال، بينما كان يحرس حدود إسرائيل ككلب حراسة مخلص وضيع، ويمنع حتى الطيور من اختراق الحدود حفاظاً على أمن الإسرائيليين. ولو لم تنجز القيادة السورية الجديدة سوى إلغاء الخدمة الإلزامية حتى الآن لكفاها فخراً، لأنها حررت السوريين من أبشع نظام عبودية عسكري إجباري في التاريخ الحديث، لتستبدله بنظام يقوم على التطوع الطوعي، وبالتالي فإن كل من ينضم إلى الجيش فهو ينضم برغبة خاصة، ولا يُساق إليه كما يُساق القطيع إلى الذبح.
لكن هل يجب على الشباب السوري اليوم أن يكتفي فقط بالابتهاج بإلغاء قانون الخدمة الإلزامية، أم عليه أن يبدأ بالتفكير باستغلال هذا الإنجاز التاريخي من أجل خدمة نفسه وبلاده؟ اليوم لم يعد يواجه الجيل الصاعد مشكلة الخدمة العسكرية التي كانت تقتطع سنوات من عمره وتسحقه مادياً ونفسياً، بل هو اليوم حر طليق لا يخشى شعبة التجنيد وضباطها القساة، وبالتالي يجب أن يفكر بالتحرك للاستفادة من هذا التطور العظيم، خاصة وأن هناك اليوم آلاف الفرص الاستثمارية في بلد مدمر يحتاج لكل أنواع المهن والمشاريع التنموية. وهذا يجب أن يكون أكبر حافز أمام الشباب السوري لأن يساهم اليوم في بناء سوريا الجديدة.
اليوم لم تعد هناك شعبة التجنيد تلاحقكم وترهبكم وتدفعكم إلى الهروب من البلد، ولا تدمر حياتكم بسحبكم عنوة الى عبودية الجيش الأسدي لتسرق زهرة شبابكم خدمة للنظام وضباطه، فاغتنموا هذا الإنجاز التاريخي وابدأوا ببناء الوطن، فسوريا تحتاج اليوم كل أبنائها وخاصة فئة الشباب الذي تحرر من عبودية النخاسين الذين كانوا يسمون أنفسهم زوراً وبهتاناً «الجيش العربي السوري».
نيرون فرّ وسوريا بعينيها تقاتل.

1