أحدث الأخبار
الجمعة 21 آذار/مارس 2025
فخ عبادة الفرد: القيادة… الدين… والسياسة!!
بقلم :  القس د. نديم نصار ... 20.03.2025

عبر التاريخ، كانت القيادة الكاريزمية سلاحًا ذا حدين؛ فمن ناحية، ألهمت الجماهير وحركت المجتمعات، ومن ناحية أخرى، خلقت أنظمة استبدادية عطّلت النمو المؤسسي وأبقت الشعوب رهينة الفرد القائد. هذه الظاهرة تتجلى بوضوح في السياقين الديني والسياسي، حيث تأرجحت المجتمعات بين الاستفادة من قوة القيادة وبين الوقوع في فخ تقديس الأشخاص على حساب بناء المؤسسات.
في المسيحية، شكّل يسوع المسيح نموذجًا فريدًا للقيادة؛ لم يسعَ إلى تأسيس دولة أو تنظيم سياسي، بل ركّز على رسالة روحية قائمة على المحبة والتسامح والعدل. رغم ذلك، انتشرت تعاليمه وأصبحت الكنيسة لاحقًا مؤسسة ضخمة لعبت دورًا محوريًا في تشكيل التاريخ الأوروبي، لكنها لم تسلم من الانقسامات والصراعات. فقد أدى الانقسام الكبير في القرن الحادي عشر إلى انشقاق بين الكنيسة الكاثوليكية في الغرب والأرثوذكسية في الشرق، ثم جاءت حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السابع عشر لتعمّق الخلافات، مما أشعل حروبًا طائفية مدمرة.
التعاليم المسيحية تركز على نموذج القيادة الذي قدمه يسوع، والذي كان قائمًا على الخدمة والتواضع والمحبة، رافضًا السلطة الدنيوية وساعيًا إلى بناء مجتمع يقوم على العدل والمغفرة. لكن مع مرور الزمن، استغلت الكنيسة هذه المبادئ وتحالفت مع السلطة السياسية في أوروبا، مما أدى إلى دعمها لحروب دموية ارهقت أوروبا لقرون. لم تكن هذه الحروب المحمومة تخلو من دوافع اقتصادية واستغلالية. فشلت الكنيسة في هذا التحالف ولم تستطع المصالحة بين القيم التي دعا إليها المسيح والأجندات السياسية الفاسدة للمؤسسات السياسية الديكتاتورية. فقد أدى الوعي الديني والسياسي إلى فصل الدين عن الدولة وهذه كانت أول خطوات أوروبا إلى النظام الديمقراطي العلماني. في المقابل، يكشف التاريخ الإسلامي عن صراع دائم بين السلطة الكاريزمية للخلفاء وبُنى الحكم التي لم تستطع الاستمرار دون الاعتماد على سلطة الفرد الواحد، وهو ما أدى إلى اضطرابات سياسية ودينية متكررة. فالسلالات الحاكمة كثيرًا ما أبادت بعضها البعض في صراعات دامية على الحكم. في النهاية، كان الفشل مصير التجربتين، سواء عبر مؤسسات دينية تحولت إلى أدوات فساد واستغلال، أو عبر قادة فرديين احتكروا السلطة وأجهضوا أي محاولة لبناء نظم حكم عادلة ومستدامة.
على عكس يسوع، اتخذ النبي محمد نهجًا مختلفًا، حيث لعب دورًا سياسيًا واجتماعياً إلى جانب دوره الديني، خاصة بعد الهجرة إلى المدينة. تحول الإسلام سريعًا إلى كيان سياسي بعد وفاته، لكن غياب هيكلة مؤسسية دائمة جعل السلطة تتأرجح بين قادة كاريزميين دون إطار قانوني يحكم الانتقال السلمي للسلطة. الخلافة، التي قامت على مبدأ التوأمة بين الدين والسياسة، لم تكن قادرة على تحقيق الاستقرار، حيث اندلعت صراعات دموية حول القيادة، شملت اغتيالات حتى داخل الدائرة المقربة من النبي، مثل الحسن والحسين وعلي وعثمان. من بين هؤلاء، كان لعلي والحسين أثر عميق ومستمر حتى اليوم، حيث لا يزال إرثهما مؤثرًا في الانقسامات المذهبية والسياسية داخل العالم الإسلامي.
تواجه سوريا أخطر امتحان في تاريخها؛ فإما أن تتجه نحو بناء دولة ديمقراطية قائمة على القانون والمحاسبة، أو تعود إلى حكم الفرد المطلق بكل ما يحمله من قمع وفساد واستبداد
لم يتمكن الإسلام السياسي في العصر الحديث من تطوير آلية ديمقراطية قائمة على الشورى، بل بقي يتأرجح بين تيارين رئيسيين: التيار السلفي التكفيري الذي يقصي كل من يختلف معه، والتيار المدني الذي لم ينجح في بناء مؤسسات سياسية مستقرة تحترم التعددية. لا يزال السؤال مطروحًا: هل يمكن للإسلام أن يتكيف مع الديمقراطية كما فعلت المسيحية بعد فصل الكنيسة عن السلطة السياسية؟ التجربة الغربية في بناء النظم الديمقراطية اعتمدت على تقليص نفوذ الدين في الحكم، وهو ما لم يحدث في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، مما جعلها تعاني من عدم الاستقرار السياسي المزمن.
في العصر الحديث، شهد الشرق الأوسط عودة قوية للقيادة الكاريزمية المطلقة، حيث برزت شخصيات مثل جمال عبد الناصر، الذي رغم شعبيته الكبيرة، قاد مصر إلى هزائم سياسية وعسكرية كارثية. ثم جاء حافظ الأسد وصدام حسين، اللذان اعتمدا على الخطاب القومي الشعبوي لترسيخ أنظمة قمعية طائفية قائمة على البطش والترهيب.
حافظ الأسد، الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، أسس نظامًا سلطويًا استمر لعقود، مستخدمًا شعارات مثل «الصمود والتصدي» لتبرير حكمه، بينما قام بترسيخ ثقافة الفساد والمحسوبية. في العراق، تبنى صدام حسين نموذجًا مشابهًا، حيث حكم بقبضة حديدية تحت ستار القومية العربية، لكنه في النهاية جرّ العراق إلى سلسلة من الحروب الكارثية التي دمرت البلاد وأدت إلى انهيار نظامه.
في السنوات الأخيرة، قدمت «الدولة الإسلامية في العراق و بلاد الشام» نموذجًا متطرفًا لكيفية استغلال القيادة الكاريزمية في غياب مؤسسات الدولة الحقيقية. تمكن أبو بكر البغدادي من إعلان “خلافة” وهمية جذبت آلاف المقاتلين عبر خطاب ديني متشدد استغل الانقسامات الطائفية والصراعات الأهلية. لكن يبقى السؤال المحوري: من الذي أنشأ داعش؟ ومن الذي موّلها وسلّحها بهذا الزخم الهائل من الأسلحة المتطورة؟
عندما تتمحور المجتمعات حول شخصيات قيادية فردية بدلامن بناء مؤسسات مستقرة، تصبح أكثر عرضة للاستبداد والانقسامات العميقة. في سوريا، على مدى عقود، روج نظام الأسد الأب والابن لشعارات مثل “الوحدة والحرية والاشتراكية”، لكن هذه الكلمات ظلت فارغة من أي معنى حقيقي، إذ لم يُسمح لأحد بالتساؤل عن جوهرها. واليوم، تواجه سوريا أخطر امتحان في تاريخها؛ فإما أن تتجه نحو بناء دولة ديمقراطية قائمة على القانون والمحاسبة، أو تعود إلى حكم الفرد المطلق بكل ما يحمله من قمع وفساد واستبداد.
المجتمعات في الشرق الأوسط في حاجة ماسة إلى الانتقال من نموذج القيادة الفردية المطلقة إلى نظم حكم قائمة على المؤسسات الشفافة والديمقراطية. لا يمكن تحقيق الاستقرار إلا عبر بناء دول تستند إلى القانون والعدالة، وليس إلى الولاء الأعمى للزعماء. على الشعب السوري إن أراد أن يطوي صفحة النظام الديكتاتوري الى الأبد، وسائر شعوب المنطقة، أن يدرك أن التغيير الحقيقي لا يكون عبر تبديل قائد بآخر، ولا بالحقد على مكون محدد من المجتمع وسلسلة من أعمال الثأر الدموي، بل عبر تغيير جذري في طريقة الحكم، بحيث لا يكون مصير الأمة مرهونًا برغبات شخص واحد ولا بفصائل مسلحة عقائدية تعيد الدين إلى السيطرة على مقدرات البلاد اعتماداً على مبدأ فائض القوة.
الدرس المستفاد من التاريخ واضح: الدول التي تعتمد على الكاريزما الفردية دون مؤسسات متينة مصيرها الفوضى والانهيار. المجتمعات التي تريد مستقبلامستقرًا عليها أن تبني مؤسسات تحميها من استبداد الأفراد، سواء كانوا زعماء دينيين أو سياسيين. لا خلاص إلا في دولة القانون، حيث لا يصبح القائد فوق المساءلة، ولا تتحول الشعارات إلى غطاء للفساد والاستبداد.

*مدير مؤسسة «وعي» ـ المملكة المتحدة **المصدر : القدس العربي
1