تتميز المنطقة الحضارية الغارقة في القدم، والتي سماها الإغريق مسوبوتاميا، ما بين النهرين، وجيولوجيا هي أراض منخفضة تكونت من الترسبات التي خلقها النهران الفرات ودجلة، وهي تعادل بمساحتها تقريباًعراق اليوم وفي جزئها الجنوبي، بابل فيما بعد، الممتد من بغداد اليوم، حيث يقترب النهران من بعضهما أكثر ما يمكن، وحتى الخليج العربي.
إستقر هنا منذ حقب ما قبل التاريخ، السومريون وأطلقوا عليها أسم أنكي ـ والأراضي التي يسكنونها، وصفوها بتسمياتهم «كنكير» أو «شومر». ولم يتسن حتى ألان إدراج لغتهم الغربية ضمن أي من مجاميع اللغات المعروفة.
لا يمكننا تحديد موقع السومريين الأصلي قبل مجيئهم إلى مسوبوتاميا، بكل ثقة، ولكن علاقاتهم بــ ﴿فارس﴾ التي يشار إليها في القصيدة الملحمية «انمركار وحاكم أراتا» والعثور على أختام سومرية في «موهنجودار» في غرب الهند، واثار الحضارة السومرية في جزيرة ديلمونو، البحرين اليوم في الخليج العربي، حيث وحسب بنية «انكي ونينخورساك» كانت تمتد جنة البشر، لتؤكد على أنهم قدموا إلى بابل عبر البحر من مكان ما في ﺁسيا الوسطى. ويمكن أن تؤكد ذلك ايضا علاقات معينة اتجاه لغات ﴿اورانو التاي والـدراقدشتية﴾.
ومن جنوب مسوبوتاميا، حيث رسب مراكبهم في رحلتهم من «ملوخا» الهند اليوم ـ توسعت حضارة السومريين تدريجياً نحو الشمال. ما يؤيد هذه الفكرة هو القديم في جرد ملوك السومريين الذي بموجبه نزلت الملوكية من السماء في اريدو اولاً، أبو شاهراين على ساحل الخليج الفارسي، ومنه لاحقا انتقلت إلى المدن الشمالية، لكن حتى المنظومة «انكي وٳينانا وحسبها عمدت ﺁلألهة ٳيناناً، بعد زيارتها لوالدها انكي، إلى الاستحواذ بالحيلة على قواه الإلهية في أريدو وتدعى مه والتي، هذه القوى، جسدت كل الحضارة السومرية المادية والدينية ﺁنذاك، وأخذتها إلى أوروك، حيث كان معبدها الرئيسي.
حينما زحف السومريون منتصف الآلف الرابع ق.م، نحو الأجزاء الشمالية من بابل، وجدوا هنا سكانا ساميين مستقرين، واللذين قد تغلغلوا إلى مسوبوتاميا من الغرب، من السهوب السوريا وذلك منذ ما قبل التاريخ، كما تؤكد ذلك الأسماء السامية لملوك مدينة بابل الشمالية، كيش حيث حكمت أول سلالة بعد الطوفان. واخذ السومريون عن الساميين في لغتهم العديد من الكلمات لمختلف المهن، فيما عداه كذلك التعبير عن المشتري «درمكارا» من الاكدية «تامكار».
وقد قطن إلى جانب هذه القبائل السامية في بابل قبل مجيء السومريين كذلك سكان ﺁخرون، يمكننا الحكم على وجودهم من بعض أسماء مدن غير سومرية وبعض المفردات في حقل الزراعة والبستنة. فبينما تتميز السومرية بكلمات ذات جذور أحادية، فان تلك الكلمات المستعارة تتألف من مقطعين أو ثلاثة مثل انكار ـ فلاح، ﺁبين ـ محراث»، وما شابه ذلك. بل وحتى تسمية كلا النهرين الفرات ودجلة ـ بارانون وايديكنا ـ لاتوفر تفسيراً مقنعا عن الأصل العرقي السومري. وكيف كان سكان بابل الأصليون يدعون، لا نعرف ـ فالاثاريون يوحدون هذه الحقبة مع الحقبة العبيدية، والتي سميت كذلك وفق أول اكتشافات السيراميك متعددة الألوان في تلة العبيدي غير بعيدة عن مدينة أور القديمة.
وكما تشير الاستعارات المذكورة من لغتهم، فقد انهمك السكان العبيديون في الغالب بزراعة مختلف أنواع الحبوب. وفيما عداه نجحوا في زراعة الشعير مضاعف السنايل والذي كان مواطنه الأصلي في المناطق الجبلية وكذلك تحسين هذه الحبوب في ظروف جديدة إلى ستة أضعاف السنابل.
كان السومريون شعباً فائق المهارة والذكاء الحلاق. ولعل من أعظم اختراعاتهم كانت الكتابة والتي كتب بحروفها على الألواح الطينية، والتي تطورت بمرور الزمن من صيغة الرموز المرسومة إلى حروف مسمارية.
إن أقدم التذكارات، المكتوبة بالحروف المرسومة هي ألواح من مرحلة أوائل التاريخ مطلع الألف الثالث ق.م، وهي وثائق ٳدارية لأمور اقتصادية في المعبد الكبير في المدينة البابلية الجنوبية اوروك، وجداول الكلمات، المعدة وفق محتواها في مجاميع، ومنها تطورت لاحقاً السلاسل المعجمية السومرية ـ تلاكدية. وأولى العناوين التاريخية ظهرت فيما بعد مطلع القرن ﴿27﴾ ق،م. وكأقدم أثر تاريخي مكتوب، يمكن اعتبار كسرة لوح عليها أسم أخر ملوك السلالة ألكيشية «مباراكسي» والد «ﺁكا» الذي كان حسب إحدى ـ القصائد السومرية، خصما لـ «كلكامش» والحاكم الشهير لمدينة اوروك.
وعن كلكامش مثلما عمن سبقوه «انمركار» ولوكالباند، كملوك أسطوريين من السلالة الأولى في أورك، سرعان ما نشأت أشعار أسطورية تتغنى بأفعالهم ألبطولية، وموضوع القصيدة «انمركار والسيد من ﺁراتا» هو حملة انمركار على اراتا في إيران، وقصيدة «لوكالباندا في ظلمات الجبال» تحكي عن حملة الملك لوكالباندا ٳلى المناطق الجبلية ألمجاورة، والسرد الأسطوري «كلكامش وخوفافا» يصف حملة كلكامش الحربية وجنده على لبنان. فهذه المرحلة توصف كعصر بطولي في تأريخ السومريين.
لتبدأ بعدها ما يدعى بمرحلة السلالات الأولى، والتي تنتهي حوالي عام﴿2350﴾ق.م عندما أسس الملك سرجون العظيم أول إمبراطورية عالمية، تمتد من البحر الأبيض المتوسط حتى عيلام، والمحكومة من العاصمة أكد. وإثر هذه المدينة الرئيسة يسمى الساميون «أكديون» ولغتهم «الأكدية».
والأكدية هي تسمية مشتركة تطلق على لغتين ـ دارجتين قريبيتن من بعضهما، البابلية، والتي سادت الجنوب والآشورية التي سادت في أراضي ﺁشور ألواقعة في الشمال.
فالأكدية تنتمي، كما هو حال العبرية والعربية، إلى مجموعة أللغات السامية. وبخلاف السومرية، كانت هذه اللغة ﴿الأكدية) مرنة. فقد أخذ الأكديون عن السومريين الكتابة المسمارية وكفوها للغتهم وأضافوا إليها رموزا جديدة وقد استطاع الاكديون إحياء الحضارة السومرية، والتي باتت شبه جامدة ومدها بروح جديدة. إن مؤسس السلالة الأكدية سرجون الأول وحفيده نارامسين، يمثلان أشهر شخصيات تاريخ مسوبوتاميا، وسرعان ما أصبحت منجزاتهما البطولية مواضيع للأساطير فنارامسين كفاتح اختص نفسه بعنوان «ملك الجهات الاربع» لابل أعلن نفسه في النهاية «إله».
وبعد سقوط سلالة أور الثالثة، وتنافس دويلات المدن في مسوبوتاميا على الهيمنة، ٳنتهت بعد قرون من الحروب بانتصار المملكة البابلية ـ وبهذا أصبحت بابل المدينة المقر الدائم للإمبراطورية الجديدة وأطلق اسم بلاد بابل على كل الأراضي. وأكثر حكام السلالة البابلية شهرة كان حمورابي ﴿1792 – 1750﴾. وخلال حكمة الطويل أنجز الاقتصادية والحضارية في البلاد ومنح رعيته قوانين جديدة، وأخرى إصلاحات دينية، ورفع مقام مردوخ الى أعلى درجات الإلوهية، بعد أن كان إلها محلياً لمدينة بابل. وتدعى هذه المرحلة الشهيرة في تاريخ مسوبوتاميا ٳبان حكم حمورابي ومن جاء بعده والتي تنتهي باحتلال بابل من قبل الحيثيين عام ﴿1595﴾ ق.م تدعى بمرحلة بابل القديمة.
مطلع القرن ﴿16﴾ جرت في بلاد بابل أحداث، غيرت طابع هذه البلاد. فمن المناطق الجبلية المجاورة في الشرق، تغلغلت إلى سهول مسوبوتاميا قبائل الكاشيين، فاحتلوا أراضي بابل لعدة قرون. وعن هذا العصر المدعو بالظلم لا يتوفر لنا غير قليل من المصادر التاريخية. وأكثر أخباره عثر عليها في الأرشيف ألمسماري في تل العمرنة وهو ما كان المقر الإصلاحي الديني المعروف، الفرعون امينوفيس الرابع، والذي ٳحتوى على مراسلات حكام بابل والحيثيين مع الفراعنة المصريين من القرن ﴿14﴾ق.م وباللغة البابلية. ولم تتحرر بابل من حكم الكاشيين الطويل، إلا في القرن ﴿12﴾ق.م إبان حكم نبوخذ نصر الأول، مؤسس السلالة الايسينية الثانية. وﺁنذاك حل إزدهار جديد في الاداب.
ومع نهاية الألف الثاني انتقل مركز الحياة السياسية والحضارية إلى الشمال ـ إلى ﺁشور. وهناك منذ نهاية القرن الثالث يتمركز الآشوريون. وأول توسع للإمبراطورية الأشورية حدث في القرن ﴿14﴾ ق.م، وفي ﺁشور قلعة شرقاط اليوم، كمدينة ـ مركز نشأت بتأثير بابل المجاورة، والحضارة الآشورية. وبعد هذه المرحلة المدعوة بمرحلة «ﺁشور الوسطى» تلتها في الألف الأول ق.م مرحلة إمبراطورية ﺁشور الحديثة ـ والتي تميزت بالحملات العسكرية لسلالة السرجونين وأهم شخصية في هذه السلالة كان الملك سنحاريب ﴿704 ـ 681﴾ العدو اللدود لليهود وبابل. وقد ذهب في سورة غضبه على بابل إلى حد أنه قوضها وسواها بالأرض عام 685. وانقلب حقده حتى على مردوخ، أعلى ﺁلهة بابل، وفي الملحمة الشهيرة «أنام اليش» أنه أمر بتغيير اسمه باسم الإله الوطني ﺁشور والذي يمثل إله السومريين القديم أنشار. وعلى الأكثر بإيعاز منه كتبت كراسة عن كيفية اتهام مردوخ وتقييده ورميه في السجن ومحكمته.
عند نهاية حكم سلالة أور ألثالثة يجري تثبيت الأدب كتابة، وهو ما كان ضروريا ٳزاء التهديد بانهيار ألحضارة ألسومرية والنصوص التي مرت بالكثير من التغيرات، فأنصلقت وتبلورت ـ تدريجيا، وحينما تصل شكلها النهائي، لم يعد ممكنا تغيير شيء فيها وكانت توثق كتابة في مدارس الكتابة ومن ألاف الثالث ق.م وصلتنا الآثار السومرية المكتوبة بأعداد كثيرة إلا أنها وفي الأغلب حوالى تسعة أعشارها، هي نصوص اقتصادية الطابع أو قواميس بترتيب مادي، ونصوص تاريخية من كيرسو ﴿لكش﴾، ونصوص بمحتوى قانوني مثل الإصلاحات الإدارية لـــ ﴿اوروكاكين﴾، قرارات حكم ـ ﴿ديتيلا﴾، أو أقدم قوانين أورنامو مؤسس الثالثة لــ ( أور). فمن الآثار الأدبية هناك ألواح من (أبو صلابيح) غير بعيد عن نيبور. إنها من القرن (26)ق.م وتضم النشيد في معبد كيش وما يدعى بتعليمات الملك الأسطوري شوروباخ ابن زيوسودور، نويم السومري.
وأقدم نص ميثولوجي هو الأسطوانة النيبورية القديمة وتدعى كذلك عادة لشكلها الأسطواني ـ من القرن (25) ق.م ومحتواها هو حتى الآن حكاية قليلة الوضوح عن الإله إنليل والآلهة نننخورساك ومن عام (2130)ق.م النشيد التعظيمي لمناسبة تجديد معبد الإله ننكر سو أثناء احتفالات العام الجديد. وهو مكتوب على إسطوانتين إلى الأمير كودة في لكش.
والنصوص السوومرية الأسطورية من مطلع الألف الثاني ق.م حينما كانت السومرية لغة ميتة فإنها النصوص ( تعود) دون استثناء إلى الحفريات الأمريكية في نيبور والمحفوظة جزئيا في متحف بنسلفانيا، وجزئيا في إستنبول وخنا. أما الأساطير الاكدية فقد حفظت لنا في الأغلب من النسخ المتأخرة في مكتبة الملك الأشوري اشور بانيبال.
وموضوع أكثرية الأساطير السومرية والاكدية هي الآلهة وعلاقتها وعبر آلاف السنين قد تراكمت على هذه الآلهة خصائص متنوعة وفي الغالب متناقضة وطباع وحوادث وعلاقتها غالبا ما تكون معقدة. فيما عدا ذلك فان تأصيل الآلهة (نيوكوني) السومرية يربط ضمنا بالتصورات الدينية لمختلف مكونات السكان. فديانة الفلاحين المتوطنين والذين اعتمدت خصوبة أراضيهم على إروائها، كانت بجوهرها مطلبية والنظام الذي استنبطه الكهنة في العلوم الدينية من اريدو مع تقديس الاله الرئيس انكي «سيد الأرض» والمشابه للإله البابلي أيا اله الطبيعة والمياه الحلوة. وفي محيط هذا التقديس نشأت مجموعة كبيرة من الأساطير عن الخليقة، وأشهرها تلتقطها قصيدة أنكي ونننماخ. وعلى غرار تقاليد أريدو جاء فيما بعد القصيدة البابلي الشهير أسطورة. انوما (اليش) حيث كان الإله الرئيسي مردوخ معروفا من ابن الإله أسالوخي المقدس في اريدو.
إن عدد الألهة في مسوبوتاميا في مجمعها الإلهي يصل ثلاثة الاف تقريبا. والأساطير التشخيصية تحكي نشوء وبداية ظواهر عالم البشر والكون وتعود لأقدم النصوص الأسطورية لكنها مدونة قد سجلت بداية الألف الثاني ق.م فقط وذلك في نيبور. وأحد هذه النصوص يفسر أصل القمر، وفي غيره تبرر أهمية الماء كواهب للحياة والقوة وما شابة. وحسب قصيدة (انليل وننليل) والتي تحكي نشأة القمر فقد عاش في نيبور قبل خلق البشر انليل وننليل وننشيار اكونا. ورغم إن الأخيرة تحذر ابنتها ننليل، من الذهاب للاستحمام في القناة حيث يمكن أن يغريها انليل، فان الابنة لا تهتم بنصيحة الأم وانليل يخطفها بالفعل ويأخذها إلى مركبه وينجب معها اله القمر نانار.
وتثور الآلهة على فعلته ترسله إلى العالم السفلي عقابا له، لكن ننليل تذهب معه في الطريق إلى العالم السفلي يغويها ثلاث مرات من جديد، وأخرها متنكرا بزي ناقل الموتى في مياه الموت، وهو ما يذكر بـ (خارون) اليوناني. وهكذا ينجب مع ننليل ثلاثة آلهة للعالم السفلي، ويريد جعل هؤلاء تعويضا عن السماح لأخيه نانار، أن يصعد إلى السماء كـ (قمر)، لأنه حسب قانون عالم الأموات، يمكنه مغادرة هذه الأماكن، فقط من يقدم عن نفسه عوضا كما هو في قصيدة «نزول اينانا إلى العالم السفلي».
فالأساطير بخصوص نشأة الكون والإنسان تبدأ عادة بكلمات: (أو ـ ري ـ أ) «في ذلك اليوم» فهذه الأساطير التي تحكي فصل السماء عن الأرض، تشكل في الغالب مدخلا لمختلف القصائد. وكأفضل مدخل من هذا النوع، هو المحفوظ في الأبيات الابتدائية للقصيدة السومرية «شجرة خالوبو» والتي كان نصفها الأخر بترجمة إلى الاكدية في القرن السابع ق.م. مرفقة كلوح (12) من اسطورة كلكامش. فحسب هذه القصيدة انه عند مطلع العصور، في الأزمان الغابرة، عندما انفصلت السماء عن الأرض واستحوذ الإله آن على السماء وانليل على الأرض.، ولــ (اريشكيكال) كان قد وضع بتصرفه العالم السفلي.. عندما غادر انكي مسافرا عبر المحيط. وحينها – تستمر القصيدة دونما اية توطئة للانتقال – نمت على شاطئ الفرات الشجرة الملحمية خولوبو، لكن ريحا جنوبية عاتية اقتلعتها من جذورها. وعندما رأت اينانا كيف تتقادفها أمواج الفرات، انتشلتها وزرعتها في حديقتها. نمت الشجرة وتكاتفت أغصانها وفي جذورها استقر ثعبان، وفوق قمة أغصانها بنى عشه الطائر انزو وفي جذعها بنت بينها العجيبة ليليت. اينانا باتت يائسة لكن كلكامش يسرع لنجدتها ويقطع الشجرة بالفاس. والأسطورة عن الشجرة العالمية، مرفقة كذلك في إحدى القصائد من اريدو، والتي تذكرها كشجرة سوداء (كشكان) الممتدة فوق المحيط العميق والتي يختفي فيها العالم السفلي. وبجذورها تبلغ العالم السفلي. وما يشبه شجرة خولوبو من القصيدة المذكورة، وشجر كشكان من اسطورة اريدو، هو واضح حتى في شجرة ميسو التي تمس السماء بقمتها.
ويستقي الشعر الأسطوري السومري حول خلق الإنسان «انكي وننماخ» من تقاليد اريدو. وعلى وفقها فانه بادئ العصور ، حينما لم يخلق الناس بعد – كان على الآلهة ، أن تؤمن معيشتها من حفر القنوات . وحينما اشتكت الآلهة الدنيا من التعب في العمل ونصيبهم المرهق ، ذهبت أم الآلهة نامو للتشاور مع انكي ، فيقرر هذا في النهاية ، أن يخلق الإنسان وتلقى مشقة العمل على اكتافه ، العمل الذي كانت الآلهة تقوم به حتى ألان . والآلهة ننماخ المكلفة بهذا الأمر (لطشت) من الطين ستة شخوص لكنها لم تكن موفقة، إذ كل شخصية منها كانت بعيب جسدي ما. رجل لا يمسك البول. وامرأة عاقر، وإنسان اخر تعوزه الأعضاء التناسلية وهكذا. وانكي يحدد لكل منهم نصيبه ومكانته في المجتمع . وهو يحاول هو الخلق، لكنه هو أيضا يخفق في ذلك فيخلق رجلا مسنا يرتعش ، بحيث يعجز حتى عن تناول الخبز بيده. وننماخ تشتاط غضبا وتلعن انكي وترسله إلى العالم السفلي. فالتفسير الايثولوجي لخلق مخلوقات بشرية غير موفقة، قصد به كذلك .. ان الطريق نحو الكمال يمر عبر التحسين المتدرج منذ أولى المحاولات الفاشلة.
لقد أصبحت القصيدة السومرية انكي وننماخ «مقدمة لأقدم أسطورة بابلية عن اتراخاسيس، وفي الألواح المدعوة حسب أولى كلمات النص «اينوما ايلو اويلوم» حينما كانت الآلهة ما تزال بشراً. ومثلما كان في «أنكي وننماخ». وجب على الآلهة في البداية تأمين معيشتها بحفر القنوات. ولإرهاقها بالعمل الشاق ثارت الآلهة الدنيا (اكيك) على الآلهة العليا (انوناك)، وأوقفت العمل وأحاطت بحرم أعلى الآلهة انليل في نيبور، وبعد تشاور قصير قررت الالهة العليا خلق الانسان كي يلتزم العمل بدلا من الالهة الدنيا وأوكل إلى أم الآلهة المدعوة في هذا النص (مامي)، (ننتو) أو (بيت = ايلي). وبمساعدة أنكي خلقت أول إنسان من طين مخلوط باللحم والدم لإله قتيل. ثم يوصف خلق البشرية من أربعة عشر هيئة ملطشة أربعة عشر إلهة للولادة ومقسمة إلى مجموعتين سبعة رجال وسبعة نساء. وفي الشهر العاشر يولد من أحضان الهيئات النسوية أول الناس، واللذين عليهم القيام بالعمل مكان الآلهة، ويتكاثرون بسرعة ويتذمرون من مصيرهم. وضجيجهم إثناء العمل يزعجون الآلهة خلال راحتها، وخصوصا إنليل فيرسل هذا عليهم أولا الطاعون، ثم الجفاف، لكن عندما لا ينفع الأول ولا الثاني، يقرر القضاء على البشرية بالطوفان والإنسان الوحيد الذي ينجو بعون من انليل من الطوفان هو اتر اخاسيس. إن وصف الطوفان في اللوح الثالث من الأسطورة حول اتراخاسيس، ليس مأخوذا من مقدمته «انكي وننماخ» بل من لوح سومري أخر حول دمار العالم بالطوفان، لكن الطرح السومري، إن المرحلة ما بين الخلق ودمار البشرية قد ملئت بتسمية خمس مدن ما قبل الطوفان والحديث عن كيفية نجاة زيوسودرا، «حياة الأيام الطويلة» هو ملك مدينة شوروباكو المتعبد. فالسرد المتغير والمتوسع حول الطوفان في أسطورة اتراخاسيس، كان متأخرا كثيرا، وعلى الأكثر في نهاية عهد لكشيين، والذي أدرج في اللوح الحادي عشر لملحمة كلكامش وفق الراوية المعترف بها، حيث خدمت اوتانا بشتم الذي نجا من الطوفان مثل اتراخاسيس ـ لتبرير السبب في استحالة أن ينال الإنسان الخلود.
فمن المدونات الغزيرة، السومرية والاكدية، نوثق مختارات من بعض التصورات الأساسية لسكان مسوبوتاميا عن النظام وتنظيم العالم، عن الخلق ومصير الإنسان، عن العالم السفلي والحياة بعد الموت. وأثناء ذلك يمكن متابعة حتى تطور أفكار نشوء الكون وعلم الكون في هذه النصوص وتمييز الفروقات بين الفكر الأسطوري السومري والاكدي.
إن هذه الأساطير كانت تمثل لأولئك الناس التفسير التثقيفي ـ التربوي عن العالم (الدنيا). وكفكر كان ما يزال غير قادر على التمييز بين الواقع الذاتي والموضوعي: فالعالم المحيط كما لو كان جزءا من الإنسان، كان يندمج به ولم يقتصر على الواقع المجرد، وموضوع بحث القوانين النافذة عامة. كذلك العلاقات بين الظواهر الواقعية، يقدم الفكر الأسطوري في العلاقات غير ما نفكر فيها نحن. مع انادب مسوبوتاميا القديم وحضارة الرافدين تعبر وتجتهد لتحقيق حاجات إنسانية أساسية، والتي بجوهرها مماثلة للحاجات البشرية اليوم.
والإرث الروحي لهذه الحضارة، مع انه قد تقلب في مرات عديدة ما يزال حيا حتى اليوم، وليس في هذه القيم المعروفة جيدا فقط، بالكتابة وكل الإمكانيات المرتبطة بها، بأسس العلوم والفلك وفي تقويم الزراعة وجوانب أخرى من مدينتنا. والكثير من هذا الإرث هو حتى في عناصر تراثه ما يزال بعضه مجهولا أو حتى صعب التأكيد. وكجزء هام جدا من هذا الإرث يشكله أدب مسوبوتاميا وأساطيرها………..
………..
*ترجمة عن الرقم الطينية: يوهوسلاف هروشكا وجير بروسيكي ولوبورماستو وباناسوكوفا
ترجمها للعربية :عصام عبد اللطيف أحمد
حكاية الأساطير في حضارة وادي الرافدين!!
بقلم : شاكر مجيد سيفو* ... 04.06.2014
*كاتب عراقي