صرخةُ فان غوخ
يدان تتشابكان في مكانٍ ما، نحيلتانِ كقصبتيْ سكَّر، خفيفتانِ كنداءِ تمثال جريح، تنطفئانِ في المتن وتشتعلانِ في الهامش، محاطتانِ بصرخةٍ تصعدُ من قاعِ بئرٍ معطَّلة، تشبهُ نحيب غيمةٍ في خاصرةِ امرأةٍ، أو عواءَ فنسنت فان غوخ في ذلك الفيلم الشهير، تهبُّ من العدم الأرضيِّ ومن جهةِ الريح الرماديَّة، تحرِّكُ حريرَ المرايا والستائر الورديَّة المجعَّدة، تهزُّ أواني الخزف بخفَّة ريشةٍ، وتحترقُ في المراثي الطويلة، أه ما أجمل وأكمل هذهِ الصرخة المضمومة كقبضةِ عاشقةٍ على زهرةِ لوتس بريَّة، المفتوحة على تجلِّياتِ اللغة والقداسة، يا لكَ من ساحرٍ رجيمٍ يا فنسنت، حتى وأنت مغيَّبٌ عن ذاكرتك وحدائقك المنسيَّة، وفي صخب لياليك واعترافاتك، كلَّما أغمضتُ عينيَّ على نجومك الصفراء المتناثرة على قماش أزرق تناسلتْ حقولُ عبَّادِ الشمسِ في مخيَّلتي المشدودةِ إلى حذوةِ فرس، كأغنيةٍ مشدودةٍ إلى السديم، أو كجاريةٍ على طرفِ رغبةِ نخَّاس، أبداً لن تموتَ صرختكَ، سيلتفتُ اللهُ إليها، وإلى قصائدك غير المكتوبة، قصائدك التي استبدلت الكلمات بالخطوطِ المتقاطعةِ وبالألوانِ المائيَّة وبالسنابلِ المنفرطة من ضفائر النساء.
***
القصيدةُ والحُب
الأبياتُ التي أحذفها من القصيدة الجديدة ليست أقلَّ جمالاً وفتنةً من القصيدةِ ذاتها ، بل ربمَّا تكونُ همساتُ النزوة التي انسحبتْ وراءَ السطور، أو أصداءُ الرغبة الخافتة التي ارتضت أن تستترَ وراء نصاعة الورق ورذاذ الحبر، أجملَ بكثير من القصيدةِ المكتوبة وهذا ما عناهُ أحدُ المبدعين بقوله أن الكتابة الحقيقيَّة هي مهنةُ الحذف، ولكن كم هو صعب أن تتركَ ذائقتك تتأرجحُ بين شطري قصيدة، هذه الحالة تشبهُ تماماً حالة حذف حبٍّ ما تمكَّن من قلبك ولكنك تعجزُ عن فعلِ هذا، يتسلَّطُ ذلك الحبُّ الافتراضيُّ عليكَ لدرجة أنك تبقى منقاداً له بحاسةٍ سحريَّة ماكرة، وبشغف إنساني جميل، تحاولُ مراراً حذف الجزء الهلامي منهُ في ذاكرتك أو تمتدُّ يدكَ لتمسحَ تلكَ السطور البيضاء من القصيدة المكتوبة ولكن بلا فائدة، فالحبُّ الغامض والاستعارات المجرَّدة كلاهما يلتمعُ في قلبكَ وذهنك كالوميض، يحاصرك من جهاتك الستِّ، القصيدةُ الغائبةُ كالحبِّ تماماً، لا تستطيع أن تحذفها من قلبك، أو تطلقها كالعصافيرِ الأليفةِ في فضاءِ البيتِ، نصفها صداقةٌ مكتوبةٌ بضوءٍ شحيحٍ ونصفها الآخر حبٌّ يستعصي على الكتابة وعلى النسيان.
***
اللغةُ حين تكونُ في عباءةِ القبيلة
لم أكتب أدب مذكرات ولم أُفكر بكتابته على الرغم من حبي الجارف له، لا لأنه لا يستهويني كثيراً أو بسبب خوفي من السقوطِ في رداءةِ النثر والتيهِ في مجاهيلهِ، بل لأسباب كثيرة أهمُّها أنني لم أدرِّب نفسي على البوح بما فيهِ الكفاية، لم أُخرج لغتي بعد من عباءةِ القبيلة وعاداتها وموروثاتها ونداءاتها العصيَّةِ، بكلماتٍ أُخرى لم أُحرِّر كتابتي كما كنتُ أحلم بذلك وأنا أقرأ كتابات هنري ميلر أو محمد شكري أو جونيشيروا تانيزاكي أو ماريو فارغاس يوسا مثلا، لمن يسألني عن المذكراتِ أقولُ: دواويني التي حشرتها في عشرةِ كتب هي مذكراتي ويومياتي السريَّة، فمن الممكن جدا أن يبحث فيها الآخرون عن اللغة الشفافة والرغبات المطويَّةِ تحتَ عباءةِ القبيلةِ الفضفاضة، بالنسبة لأدب المذكرات أعجبتني في مرحلةٍ ما مذكرات آنا فرانك، خصوصاً ذلك التدفق الحيوي الغريزي المشبع بشهوة السرد والمشافهة، وكنتُ أقفُ مشدوهاً عند كل سطر من قصةِ غرامها وأحبسُ أنفاسي متسائلاً: كيفَ لطفلةٍ مراهقةٍ لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها أن تكتب بمثل هذا التدفق التعبيري المذهل وبمثل التكثيف الجمالي المدهش لأصغر التفاصيل، وبلغة نقيَّة ناصعة بلغت بها آنا الصغيرة قمة البلاغة والمجاز، كيف تستطيع طفلة بمفردها أن تخطَّ واحداً من أهمِّ كتبِّ أدب المذكراتِ في تاريخِ البشريَّةِ الحديث؟
***
زليخةُ السريَّة
زليخةُ التي أعنيها في مزاميري السريَّة لم تهرمْ بعد.. كأنها لا تكبرُ، ولا تتقدَّمُ بها سنواتُ القهر نحوَ النهاية، زليخةُ الموزَّعةُ في القصائد القصيرةِ والمطوَّلات امرأةٌ ليستْ كباقي النساء، ضفائرها كسنابلِ القمحِ الذهبيَّة وليديها عطرُ الليمون والحبق، هي من صنفِ نسوةٍ لا يشيخُ جمالهنَّ حتى بعد الخمسين، كلُّ شاعرٍ بلا زليخة لا يُعوَّّلُ عليه، كلُّ ديوانٍ بلا قمصانها ناقصٌ، كلُّ بحرٍ بلا تنهداتها سريرٌ مهملٌ، كلُّ أبجديَّةٍ بلا ناياتها قصبٌ جريحٌ، كل وجودٍ لا يحتويها عدم.
***
عينا إلسا
أُفكِّرُ بعيني إلسا، حبيبةِ لويس أراغون وأنا أعدُّ زنجبيل المساء على عجلٍ، أُفكِّرُ بشبيهةِ إلسا وأنا أُراقبُ عصفوراً ورديَّاً غريباً حطَّ على مقربةٍ مني كي يبتلَّ بماء حزني، كلَّما وقعت عيناي على تلك الفتاة في إحدى الأغاني الساحليَّةِ أُناجيها في سرِّي بشِعر السيَّاب: رأيتُ شبيهةً لكِ شَعرها ظلَمٌ وأمطارُ وعيناها كينبوعين في غابٍ من الحورِ.. هل فيها شيءٌ من إلسا؟ لا أدري، ولماذا إلسا بالذات؟ أيضاً لا أدري، المهم أنني أفكِّرُ بعيني إلسا وبأشياءَ كثيرةٍ، كعادتي دائماً، لم أتغيَّر.. أُفكِّرُ بالعدم وأنا أُفكِّرُ بعيني إلسا.
***
الحياةُ كحلم
أنظرُ إلى الحياةِ من طاقةِ حلم مشاكس، هكذا أنا منذ الطفولة، الحياة هي حلمُ كبيرٌ نرفدهُ بأحلام صغيرة أُخرى، ملوَّنة، شفَّافة، عصيَّة، مستحيلة، لكنها تشكِّلُ طاقة دعم روحي ومعنوي ومجازي لنا في هذهِ الحياة المعطوبة، شخصيَّاً لا أتنفَّسُ هواء الحياة إلا من فجوةِ جدارِ هذا الحلمِ بالرغم من الخيبات والانكسارات التي لا تُحصى، كلَّما خبا وهجُ حلم ما أستضيءُ بوهجٍ حلمٍ جديد آخر، وهكذا، اُريدُ أن أقضي هذه الحياة حالماً وغيرَ ملتفتٍ لنهاياتِ السنوات التي تذكرِّني بلحظاتِ الفشلِ والإخفاقِ والانكسار، لا تعنيني بتاتاً نهاياتُ السنواتِ التي انفرطت من سبحةِ حياتي بل مطالعُ القصائد والأغاني، ولا أعاتبُ نفسي أو ألومها على عجزي عن تحقيق أحلامي الصغيرة، ما دمتُ أُحاولُ أن أكتبَ شيئاً يجعلُ لحياتي معنىً خصوصيَّاً فلا بأس.
***
القصيدةُ والأسطورة
ما ينقصُ القصيدة العربيَّة الآن هو التخفُّف قدر المستطاع من الهمِّ الوجودي وماديَّة اللحظة الراهنة والرجوع إلى الموروث الشعبي العربي والعالمي بشقيِّهِ الواقعي والخرافي المتخيَّل، فلو نظرنا إلى الشعريَّات الأخرى في العالم لوجدنا امتزاجها بالأساطير والحكايا الشعبيَّة والخرافة، عبر تأثرها بالموروث القصصي الخيالي وبكتب من صنف ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة وغيرها، تضفي الأُسطورةُ على العمل الأدبي بعداً رمزيَّاً إنسانيَّاً عالي المستوى، وتمنحه دلالاتٍ غنيَّةً تعملُ على تحفيزِ الخيالِ والذاكرة للامساكِ بخيوطِ الفكرةِ الملوَّنة، ونرى أن الشعراء التموزيِّين العرب وضعوا الاهتمام باللاواقعي والخرافي نصب أعينهم بعد اطلَّاعهم على نماذج شعريَّة كثيرة في الشعر الأجنبي تسعى على توظيف الأساطير داخلَ النص، فلا يخفى اعتمادُ الشعراء الانجليز على هذا العنصر الهام وفي مقدمتهم ت س اليوت في (الأرض اليباب) وشكسبير في عدد لا بأس بهِ من مسرحياته الشعريَّة الهامَّة لا سيما (هملت) و (عطيل) و (العاصفة)، وأيضاً نجد في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر نزوعاً قويَّاً إلى توظيف الأُسطورة كما نلحظ ذلك في المطوَّلة الشعريَّة (روسلان ولودميلا) لأمير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين.
***
إيماءات
أنت جنَّةُ الغيبِ والعنبِ يا جان ديفال ونظرةُ بودليرَ مفتاحها
*
بينَ يديْ حزنكَ المائيِّ يا سركون بولص تغتصبُ براءةَ القصيدةِ امرأةٌ بشَعرٍ غجريٍّ من مدينةِ أين
*
تلبسُ الكلماتُ ابتسامتكِ البيضاءَ كالأشجارُ تومضُ بأزهارِ الغيم
*
القبوُ المظلمُ يعذِّبُ روحَ الرَّحالةِ الذي يحملُ الأرضَ على شكلِ فقاعةٍ في قلبهِ، القبوُ المظلمُ مبنيٌّ بشكلٍ هندسيٍّ غريبٍ على رأسِ طائرٍ فينيقيٍّ
*
لجمالها طعمُ الحنطةِ ورائحةُ الحبقِ المحروق، لبياضها طعمُ الوجع
***
لو تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
ضعي يدكِ على نافذة قلبي وانسحبي من قصيدتي بكاملِ ظلالكِ الحياديَّةِ، لن أتلصَّص بعدَ هذا الغيابِ على تفاصيلكِ الصغيرةِ وغيرتك من الأخريات، لن يعني لي جمالكِ الحزينُ المراوغُ شيئاً ولا حتى شقاؤكِ سوف يستثيرُني، لو قرأتُ أناشيد بتراركة أو غزليَّات كواسيمودو مثلاً بدلَ كتابةِ خطابات بائسة لكِ لكنتُ أكثر سعادةً، لو استبدلتكِ في الوقتِ المناسبِ برقصةٍ واحدةٍ لمونيكا بيلوتشي لأصبحتُ أكثرَ شاعريَّةً، لو استبدلتكِ بتقاسيمِ نايٍ غامض لجرى الماءُ من تحتِ قصائدي، لو تأخَّرتِ قليلا عن غوايتي لأصبحتْ أعلى وأجملَ وأكمل.
***
لو تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي !!
بقلم : نمر سعدي ... 06.01.2018