عاد خالد عيسى من رحلته الألمانية قبل 43سنة.
دخل وعلى فمه ابتسامته الساخرة ونظرته المائلة، وبدون أن يقول شيئا وضع على الطاولة كيسا ورقيا كبيرا أشار لي أن افتحه ففعلت.
ماذا وجدت؟
صورا لعواجيز ألمانيات يحتضن فتيانا سمرا معافين يبدون مرحين.أهم سعداء بهذا الفوز غير الممتع و..غير العادل؟ نساء المانيات فقدن أزواجهن في الحرب العالمية الثانية..وكن قبلها وأثناءها يجأرن بصراخهن محييات الفوهرر..هاتفات: المانيا فوق الجميع..فإذا بالفوهرر ينتهي منتحرا مع عشيقته النموذج للمرأة الألمانية إيفا براون..وإذا بهن يخسرن الأزواج الذي اندفعوا في حرب أرادوها انتصارا على كل شعوب العالم..وإذا بهن أرامل في بلاد محطمة و..يكتفين بما تبقى من أعمارهن الأفلة في أحضان أبناء شعوب صنفتها النازية في قاع قائمة شعوب وأمم العالم!
تنبهت إلى ملامح خالد وهو يتابع رّد فعلي على صور العجائز والفتيان السمر الذين يتدلعون عليهن..ويسخرون من الأوضاع الكوميدية المزرية التي تجمعهم اضطرارا مع نساء في أرذل العمر هن من مخلفات الحرب العالمية الثانية..يأخذن منهم متعة شبابهم..ويعطينهم بطاقات إقامة و..جوازات سفر تمكنهم من التحرر من ترصد (جهات) كثيرة شديدة اللؤم والقسوة في (بلاد العُرب) أوطاني..فاضطروا إلى هذا الهرب علّهم ينجون من ملاحقة دائمة على حدود، وداخل بلاد تناصبهم العداء...
-2-
وبعد سنوات عاد (الشيخ) خالد عيسى إبن بلدة الشجرة الفلسطينية العريقة الجليلية إلى أوربة..إلى السويد، لا إلى الشجرة، بعد بيروت وتونس..و.. بعد أن تخطّى الستين..وانتقل من الكتابة في الصحافة الفلسطينية للكتابة على الفيس بوك..يبعث برسائل حزنه وألمه وغربته وغضبه ونفوره من برد ووحشة العيش في السويد التي نهارها يبلغ أحيانا ال 20ساعة وليلها 4 ساعات مما يضطر الناس هناك أن يُسدلوا الستائر على النوافذ ليصطنعوا عتمة ليلية تجلب النوم لعيون أطفالهم..ولأنفسهم أيضا، بدلاً من شمس الشرق الصريحة المشعة في كبد السماء، والنهار والليل المحددين بعتمة لا شك فيها..وبنهار شمسه أحيانا تشوي شويا..وتملأ كل شئ بضوئها المبهر أحيانا، والحنون أحيانا، سيما في ربيع الشرق القصير والخاطف أحيانا، والذي يلتهمه صيف كصيف أيامنا الحالية الذي شوانا شويا كرّهنا به ودفعنا للحقد عليه.
وقفة: بذلت جهدا في محاولة إقناع خالد عيسى صديقي ورفيق الأيام البيروتية..والتونسيّة، وصحافة الثورةـ.والسخرية المرّة من أشياء كثيرة كانت تغيظنا ولا نرى لها حلاّ غير السخرية التي بها نخفف قهرنا..وننتقم بقدر الإمكان من منفوخين بعنجهية نراها زائلة حتما لا مُحرّرة لبلاد. نعم بذلت جهدا عن بعد معه، هو في السويد..وأنا في عمّان، لجمع ما يكتب على الفيس بوك من كتابات مثيرة، منعشة، طريفة، مقهورة، غاضبة، تجعلك تسخسخ من الضحك حتى تسيل دموع عينيك..فلا تدري أمن الضحك..أم من القهر والغيظ والحنق والإشمئزاز ممن أوصلونا إلى ما بتنا نعيشه مجبرين حيثما تواجدنا.
و..أخيرا فعلهاخالد..ووافق على جمع بعض ما كتبه على الفيس، وهو كثير، ووجد دار نشر حيفاوية، هي كل شئ ترحب بنشر كتاب له تنشره بحماسة..فتنفسنا بارتياح لصدور كتاب لا يريح ما يضمه من لا تريحهم سيرة التشرّد الفلسطيني..والسخرية المرّة من أوهام تدّعي ما لا يجدر أن يُدعّى..كتاب سخرية ونقد، و..فضح ما لا يجوز أن يستمر السكوت عليه أكثر بعدما طال واستشرى.
ماذا يكتب (عجوز) ساخر، بدأ شابا ساخرا في بيروت..لم يكن يعجبه الصراخ والضجيج..سوى أن تتفاقم سخريته مرارة قلما يتقنها أحد مثله..وهو يتأمل في ذلك المكان النائي من السويد أحوالنا حيثما انتشرنا وتبعثرنا؟!
يكتب خالد في مقالته التي يضمها كتابه الأوّل في الغربة المُكررة..والأكثر نأيا، وتحت عنوان ساخر:الله يغضب عليك يا (بلفور) يا غُراب نكبتنا الذي نعق من قصره اللندني فشردنا من بلاد لنا في بلاد ليست بلادنا. صرنا الشعب الوحيد في الدنيا الذي تجمّع وطنه في الذاكرة.صار وطنا شفويا ينقل تفاصيله الأجداد للأحفاد، فيستحيل إلى أحلام يقظة. أستيقظ في الصباح أنا الفلسطيني المقيم في مدينة في آخر الأرض ،في جنوب السويد، لأكتب لعظامك وهي رميم، ما قد يرمم في الذاكرة من مرمرة أنت المتسبب الأول فيها. يسألني حفيدي: إذا أنا فلسطيني، طيّب ليش أنا سويدي يا جدّو؟ (ص 29)
حمل خالد عيسى الجنسية السويدية منذ سنوات، وكتب عن تلك الجنسيّة السويديّة الأوربيّة: لكنها لم تخلصني من فوبيا المطارات إلى اليوم، فلم يسبق لي أن سافرت إلى بلد ما إلاّ وتملكني الخوف، ليس من ركوب الطائرة، كما هو حال عديد من الناس، بل من شرطي الجوازات. وعلى الرغم من جواز سفري السويدي الذي أحمله ما زلت أرتعب وترتجف ركبتاي كلما قدمت جواز سفري لرجل أمن في مطار من مطارات العالم، ولا تزال ذاكرتي (تنكح علي) وتذكرني بوثيقة سفري الفسطينية.( ص34)
ولأن ذاكرته تنكح عليه، يعني تنبض باستمرار ولا تتركه يرتاح ، فإنه ما أن يسمع مفردة عامية تدهم ذاكرته من فضاء بعيد، وزمن بعيد، وبيئة بعيدة عنه، و..هو بعيد عنها، حتى تستنفر، ففي مطار كوبنهاغن، وهو يودع ابنته المتجهة إلى دبي يسمع مترجما من دولة الاحتلال..فيستيقظ على مفردة ( إسّا) وهي مختصرة ل( هذه الساعة)، وهي جليلية ، فتجذبه إلى صاحبتها، وفي لحظة فلسطينية مختزلة مغناطيسيّة تتحول ( إسّا) إلى بلاد وزمن واحتلال ورفض وتمازج وتجاوز..وإذ يبتعد المترجم..تبتعد فتاة فلسطينيّة في( القروب) في حافلة تقلهم..ويتابعها بنظرة تقول ما لا يوصف ويلخّص، فهي فلسطينية من ال48..وهو من الشتات، والنظرة..هي زمن وأمل و..حسرة، لقاء ووداع فلسطيني، والحق أن خالد عيسى بات الكاتب( الرسمي) لغربة الفلسطينيين في بلاد الغربة الأوربيّة، والمعبّر بلسان من تعوزهم القدرة على التعبير عن حسرتهم وتفجعهم وحنينهم...
وخالد عيسى يلوذ بالجليل كلما اشتدت عليه متاعب الغربة الباردة، فيعود إليه مسلحا بجواز سفر سويدي عبر طائرة سويدية أوكوبنهاغنية..ويكتب وهو يتجوّل في شوارع الناصرة الفلسطينية التي يصعد إليها من عكا وحيفا- وأنت من تلكما المدينتين تصعد..وإن زرتها برّا عبر مرج ابن عامر ستصعد ويرتفع رأسك ونظرك لتملّى الناصرة- وهكذا فرفع الرأس حتمي، وأنت ستشعر بالزهو لأن وطنك ومدنه وجغرافيته تلقن حواسك دروس الانتماء: ..سنهزمهم بالحنين إذا، وسنقتلهم بالشوق إلى بلادنا، وسننتصر عليهم بالضحيّة التي تخرج كّلّ لحظة لقاتلها..ويضيف: سنقتلكم بالحنين الذي خيّب ظن جدتكم مائير، وبالفلسطينيين الصغار الذين حلمت عجوزكم مائير بأن تصحو ذات صباح ولا تجد طفلاً فلسطينيّا على قيد الحياة..( ص43 من مقالة نهزمهم بالحنين).
جمعت خالد عيسى صداقة متميّزة بكل شئ في الوطن، سيّما الشجرة قريته وقرية الفنان الشهيد ناجي العلي، حيث استشهد الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود وهو يقود مواجهة الصهاينة الغزاة..وقاتل خالد بالحنين، ولقنه لفلسطينيين لم يزوروا الوطن، ولم يروه، ولم يأكلوا من عنبه وتينه وسمك بحره، ولا تنفسوا هواء جليله، ولكنهم مثل خالد أجهشوا بالبكاء قهرا وهم يرددون:
يا ليل ما أطولك
مع الفنانة ريم حنا التي عرفها خالد عن قرب بعد أن تزوّد بجواز سفر سويدي أدخله إلى وطنه فزار الفنانة الفلسطينية التي سرق عمرها ذلك المرض الخبيث كما الاحتلال الخبيث – هكذا وصفه خالد..ويصفه الفلسطينيون والعرب الشرفاء- ويكتب: وريم هي حكايتنا الفلسطينية، وصراعها مع السرطان هو صراعنا آخر أكثر بشاعة وفتكا،ينمو في بلادنا منذ 69-الزمن الممتد منذ النكبة حتى وقت زيارة خالد الأولى لفلسطين..ولبيت ريم – وريم وحدها تمنحنا الأمل بالشفاء منه (ص 56 مقالة يا ليل ما أطولك وهذا مطلع اغنية حزينة لشهداء سجن عكا الثلاثة الذين أعدمهم المحتلون الإنقليز).
والدة خالد ماتت في الغربة، في سورية، ولم تلتق بأختها التي بقيت في فلسطين بعد الاحتلال، ورحلت وهي تتمنى لو تسمع صوت شقيقتها في برنامج( وسلامي لكم)..وماتت شقيقتها، وعندما زار خالد للمرة الأولى وطنه كان يصطحب حفيدته الصغيرة وأمها، فغرقت الصغيرة في الضحك عندما رأت يهودية ترسم شاربا على وجهها في ما يسميه اليهود( عيد المساخر) ..بينما يقف خالد على قبر الخالة باكيا: أضحك ذلك حفيدتي سارة ، لعلها أدركت أن كل شئ في هذه (الدولة تزوير ومسخرة) ..وبين عيد المساخر، وضحك حفيدتي ودموع جدها، تقيم ( إسرائيل) دولة بشاربين على وجه مستوطنة روسية في الناصرة.(ص 54)
توقعت أن يضم كتاب خالد عيسى الأوّل بعد(مواطنته) السويديّة مقالاته الساخرة جدا، التي تنقل يوميات حياته الموحشة في الغربة، ولكنه اختار مقالاته الحميمة مع الجليل..مع الناصرة، مع بحر حيفا وعكّا، مع فناني ومثقفي وبعض رموز أهلنا الصامدين، ومع بحر حيفا.
في كتابه فصل بعنوان( مقدسيات)، وفصل بعنوان( رام الله) و(تجوال) و..يكتب تحت عنوان ( أحفاد الهولوكوست يستجمون فوق عظام ضحايانا): أوقف المحامي جهاد أبوريّا سيارته وقال لي: أنت تقف الآن فوق القبر الجماعي لشهداء مجزرة الطنطورة.
ويضيف: ركعت باكيا في موقف سيارات تابع لدولة تقيم دولتها فوق قبر جماعي، وتبكي على الهولوكوست فوق عظامنا.(ص73)
خالد عيسى، الصحفي الفلسطيني المُشرّد بعيدا، يكتب الحنين الفلسطيني، والغضب الفلسطيني..والسخريّة الفلسطينيّة التي تُفجّر الضحك وتستنزف الدموع المرّة..وفي كل أحواله يعمّق الأمل بزوال دولة الاحتلال لأنها (دولة) مسخرة...وبحتمية التقاء الفلسطينيين جميعا على أرض وطنهم فلسطين.
*من جديد زار خالد وإحدى بناته وحفيداته رام الله ووقع كتابه في معرض الكتاب الذي انتهى قبل أيام قليلة..وكعادته غادر مسرعا إلى الناصرة..ويوم الجمعة 30 أيلول غادر عائدا إلى برد السويد ليكتب بحرارة عن لقائه المتجدد بوطنه ووطن حفيدته فلسطين...
الصعود إلى الناصرة:كتاب الحنين والأمل والسخرية!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 08.10.2022