أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
حكاية الرجل والضبع!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 03.12.2022

سمع أصواتا فوق رأسه الذي أخذ يغلي من أشعة شمس اعتلت وأرسلت شواظها مبكرا في هذا اليوم الحزيراني.
فتح عينيه ببطء، فدهش لأنه في فراش غير فراشه، وأمام خيمة ليست خيمته، ولا ينام قرب أفراد أسرته.
رأى ابتسامة يوسف فوق وجهه، فازدادت دهشته وهو يسمع عبارة:
_ الحمد لله على سلامتك.
ثمّ ليضيف وقد اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة:
_ النوم قدام دكان يوسف أحسن من النوم في بطن الضبع.
عندئذ، وهو يفرك عينيه، لا ليبعد شبح ما جرى معه في الليلة الفائتة، ولكن ليركز على تفاصيلها. أدرك بحزن أنه ضُبع، وأنه في اللحظات الأخيرة التي بقي فيها متماسكا ضيّع، وافتقد تركيزه، وغام أمامه وحوله كل شىء، مع بول الضبع المتناثر الذي لسع وجهه.
وهو يصعد الوادي تماسك، إذ كان يتوقعه، فالبدو نبهوه هو والحصادين القادمين من الضفة الغربية: يوجد هنا في الوادي والجوار ضبع كاسر..فانتبهوا لأنفسكم، ولأولادكم، ولا تتأخروا في الليل بعيدا عن ( الديرة)، وإن مشيتم ليلاً فأكثر من واحد.
سمع النصائح، ولكنه لم يعمل بها، فهو حضر مع زوجته وأولاده، هو ليحصد، وهم ليلتقطوا السنابل المتساقطة وراء الحصادين، ويجمعوها في ضمم، ثمّ ( تدقها) الأم بالعصا الغليظة التي أحضرتها معها من مخيم ( النويعمة) جار أريحا، وتطحن بعض القمح على ( الجاروشة) ، وتراكم ما يزيد عن الحاجة في كيس إلى أن يمتليء، ثمّ تخيط فوهته وهي تردد: بركة من الله..بركة والله، مع طحين وكالة الغوث سنأكل طيلة العام. يلاّ اتشطروا حتى نشتري لك لكل واحد بدلة كاكي وصندلاً.
اعتاد أن يحصد في الحقول القريبة التي نصب قربها خيمته غير بعيد عن خيام حصادين متناثرة، ولكنها وقد حصدت بمناجل الحصادين القادمين من الضفة، وبماكينات الحصاد الهائلة التي كثرت في السنتين الأخيرتين اضطر أن يذهب للحصاد في حقول بعيدة.
جاء بدوي ووقف غير بعيد عن الخيمة، ونادى، فخرج له:
_ هل تأتي للحصاد عندي؟
رد :
_ أين؟
_ بعد الوادي.. غير بعيد..وأعطيك ثلاث صاعات قمح عن كل يوم.
_ وليش ما تعطيني مصاري؟
_ ما عندنا مصاري..عندنا قمح..شو قلت؟
_ قلت: موافق.
حمل منجله، فلحقت به زوجته:
_ إن تأخرت نام عند البدو..لا تعبر الوادي في الليل.
والحت عليه:
_ ما اسمعت كلام الناس عن الضبع؟
ضحك، وهز رأسه، ولحق بالبدوي الذي مضى أمامه.
سأله البدوي:
_ ما في حد غيرك نوخذه يحصد عندنا؟
رد باقتضاب:
- لأ.. راحوا لمطارح ما حصدت بعد…
أخرجه يوسف من سرحانه:
-كنت تصرخ فعرفنا أن الضبع يكاد يفترس شخصا ما..ثم لحقنا الصوت، ووصلناك قبل أن يفترسك الضبع.
رفع ظهره عن الأرض، ولف حطته حول رأسه، وجلس صامتا يتنفس من أنفه، وهو يهز رأسه ويغمض عينيه.
ناوله يوسف كاسة شاي:
-خذ إشرب..روّق دمك.
أمسك كاسة الشاي بين أصابعه، ثم وضعها على التراب قدامه، وتنهد بقوّة...
قال له بدوي حضر على صراخه:
-الحمد لله على سلامتك. يا رجل.أنت نفدت من أنياب الضبع..ولحقناك قبل ما يفترسك...
هزّ رأسه وكأنه ينفض كابوسا، ثم نطق:
-الكلب ..الكلب..أنا ..أنا ظللت صاحيا حتى وصلت تقريبا حافة الوادي..يا باطل!
ودّ أن يبكي..أن يعفر التراب على رأسه كما تفعل النساء عندما يندبن عزيزا..ونطق:
-آآآآخ..أنا يضبعني ضبع ..ضبع ليس أكبر من الكلب!
قال يوسف:
-وحد الله يا أبوأحمد. أنت نفدت وعدت بالسلامة لأسرتك، غيرك مزقه الضبع وقرقش عظامه يا زلمه!
يوسف جاره في مخيم النويعمة، قرب أريحا، وهو يحضر في صيفية كل عام، وينصب خيمته على مقربة من الحصادين، ومضارب البدو أصحاب قطعان الأغنام، ويربح من بيع ما يحتاجونه، ويعود إلى النويعمة ومعه عدّة شوالات قمح، وهو من نصح أبا أحمد في القدوم معه هذا العام، وحمد الله أنه كان سهرانا مع بعض حرّاس الموارس الممتدة، والتي حصدت وكومت أغمارا بانتظار نقلها لدرسها على البيادر...
نهض أبوأحمد وعندما رأى امرأته قادمة تركض والأولاد خلفها، همس لنفسه:
-ومع ذلك الحمد لله. لقد عدت لأسرتي..لكنني..لكنني تبهدلت..ولن...
راقبهم يوسف وهم يلتفون حوله ويتشبثون بيديه، فحمد الله أنه كان سهرانا، وكان عنده بعض البدو، وكانوا يتسامرون ويشربون الشاي عندما سمعوا صراخ أبي أحمد فهبّوا لنجدته.
تنبهت زوجته إلى بقعة دم على قميصه، فعرفت أنه كان مضبوعا، وأن يوسف والجيران أنقذوه، وانهم كي يوقظوه جرحوا جبينه بحجر ليتدفق الدم فيستيقظ.
قالت وهي تشد على يده:
-خلاص ما بدنا إياك تروح تحصد ورا الوادي...
لم يرد ولو بكلمة فعرفت أنه يشعر بالإهانة، فأرادت تطييب خاطره:
-الحمد لله أنك رجعت لنا سالما...
جلسوا في العراء أمام الخيمة، فمد نظره بعيدا وأغمض عينيه وهو يتذكر مارسهم الممتد في ذكرين، واستعاد ما كان يقوله له والده: أحصد أرضك ..رزقك..أحسن ما تتبهدل وأنت تحصد أرض غيرك!. تنبهت إلى شفتيه وهما ترتجفان، ولم تعلّق حتى لا تزيد حزنه بسبب ما جرى له، فنهضت وأشعلت البريموس لتجهيز الطعام.
فتح عينيه ونقل نظره بين امرأته المنحنية على بابور الكاز وإبريق الشاي وبجوارها حبات بندوره في صحن وبعض البيض، فتنهد بقوة وفكّر: هل لو بقينا في ذكرين، ولم يحتلها اليهود..آآآآخ يا رب آآآآخ...
رأى الضبع يقفز ويفتح شدقيه وسمع ضراطه وشعر بلسع بوله..فكّز على أسنانه: هنا فقدت وعيي و..تبعته. كنت صاحيا حتى تلك اللحظة..ثم ضيعت وعيي. عجيب: كيف حدث هذا؟
مدت زوجته الصحون ووضعت إبريق الشاي والكاسات، فقال:
-مالي نفس في الطعام يا مليحة.
ونادى الأولاد:
-تعالوا..يا حبيبيني..تعالوا
زحفوا على التراب والتفوا حول الصحون، وانهمكوا في الأكل.
هي تعرف أنه لن ينسى ما حدث معه، ولكنها لا تعرف ما يجول في عقله.
-شو رأيك يا عبد الرحمن نروّح على مخيمنا؟ شو بدنا بهالشغلة..شفت شو كان ممكن يصير فيك؟ كان نكبنا لو أكلك الضبع ..كان ضعنا بعدك.
هي تعرف أنه عندما يتنفس من أنفه ويبقي فمه مغلقا فإنه يكون غاضبا.قالت:
-رأيي أن نسرح أنا والأولاد وراء الحصادين لنلقط رزقنا، وأن تنام اليوم لترتاح...
هزّ رأسه كأنه يوافق على اقتراحها، وغرس كوعه بالوسادة الموضوعة بجواره موحيا أنه يرغب في النوم.
رآها تبتعد مع الأولاد، وعندما غابوا عن نظره نهض وأخرج البلطة من تحت الفراش، ورفعها أمام نظره ومرر إصبعه على حافتها بحذر: إنها حادة..إنها تخترق الحديد.
تمدد على الفراش، وتغطى بعد أن وضعها قربه، واغمض عينيه: لا بد من النوم للراحة، والإستعداد فأمامي معركة ..يا قاتل يا مقتول.عندما أستيقظ سأعد الشاي وسأفطر، واتهيّأ...
نام بعمق..وعندما فتح عينيه رأى الشمس تميل نحو الغرب: عندما أصل إلى منتصف الوادي ستكون قد بدأت بالغياب.
التهم البيضة المسلوقة، وصحن البندورة المقلية، وشرب كاستي شاي،ثم فرك يديه وهو يحمد الله، ونهض، وتأمل آثار الحصاد، ومضارب البدو، وخيام الحصادين الذين يهربون بأطفالهم من حر شمس أريحا وصيفها.
تجنب المرور قرب خيمة يوسف الدكان، وغذّ السير غربا. عندما وصل المسربة التي تهبط متعرجة بين صخور الوادي تمهل، وأخذ في استذكار ما جرى معه.
حددّ الصخرة التي قفز الضبع من فوقها وكان يلبد متربصا خلفها، فباغته..وهو يطلق بوله وضراطه وقعقعته..هنا، قال لنفسه..هنا ساقتله.
التقط حجرا له حافة حادة، ودسه في جيب قميصه: قبل ما أفقد وعيي سأجرح جبيني..وسأضبعه أنا..وسأريح الناس من شره الذي ينشره في الوادي ليلاً.
الليلة ستكون مقمرة، وقمرها مكتملاً، يعني كل شئ سيكون لصالحي، ولا بد أن أنتصر على ضبع يتخذ من ظلام الليل ومباغتة فرائسه سلاحا له.
سيظهر، وأنا أنتظره هنا في منتصف الوادي. سأكون مستيقظا، مراقبا للصخور التي تتلوى المسربة الضيقة التي بالكاد تظهر بينها.
لن أهاجمه في البداية، بل سأتركه يتربص بي وكأنني غافل، بحيث يتوهم أنني فريسة سهلة.
لا حركة في الوادي، فقد انقطعت الرجل، فلا أحد يمر في الليل من الوادي، إلاّ إذا تجمع عدّة أشخاص معا.
رأى القمر المكتمل يصعد في السماء، فنظر إليه متأملاً سائلا الله ببركة نوره أن يكون معه في تحقيق نيته التي فيها خير للناس...
هُيّء له أنه سمع حركة سريعة تبدو بعيدة، فأدرك أن الضبع يبدأ خطته، وإذ جلس على صخرة أدار نظره فوق الصخور وبينها فلم يره، ثم بغتة لمحه يقفز بين الصخور غير البعيدة.
رفع نظره باتجاه حافة الوادي ليقيس المسافة بينه وبينها، فارتاح لبدء نجاح خطته فها هو يستدرجه، فلن يكون بمقدور الضبع أن يباغته.
بدا أن الضبع أخذ يقلق من صحو الفريسة، لذا صار يقترب في حركته، ويكثر من قفزه فوق الصخور ويقترب منه ليضبعه.
عندئذ أخرج الحجر من جيبه وضرب جبينه به شعر بسخونة دمه، وشدد قبضته على عصا البلطة التي جعلها ملتصقة بفخذه.
رأى الضبع يطير في الفضاء لينقّض عليه فتراجع إلى الخلف قليلاً وعاجله بالبلطة التي مع ثقل سقوطه وانطلاقها بقوة غاصت في رقبته، فكاد يترنح من ثقله وهو يهوي، ولكنه تماسك وهو يصرخ: سأقتلك ..سأقتلك..لن تفلت يا حقير.
ارتفع شخيره ورأى أطرافه تتشنج وجسده يحاول أن ينهض فأهوى بالبلطة على عنقه الذي يتطاير منه الدم، وأهوى بضربات متلاحقة على العنق حتى فصله عن الجسد الذي سكنت حركته، فرفعه بين يديه تاركا الجثه بين صخرتين في المسربة، ومضى صاعدا حتى بلغ الحافة التي ينبسط بعدها السهل.
راى خيمة يوسف، ومن حولها يضئ (اللوكس) المعلّق أمام الخيمة، فمشى باتجاهه...
ارتفع نباح الكلاب التي اتجهت صوب أبي أحمد الذي كان يحمل رأس الضبع على كتفه والبلطة في يده اليسرى، فهب يوسف والساهرون لاستجلاء سبب النباح، ومعرفة من القادم...
تبيّنه يوسف، فوقف مذهولاً وهو يتأمله، ثم يرتفع صوته:
-تعالوا شوفوا هالشوفة...
ألقى برأس الضبع أمام الخيمة وسط دهشة الساهرين مما يرون.
فتح يوسف ذراعيه احتضن الرجل الذي لم يقل شيئا،بل استدار ومشى باتجاه الخيمة، وإذ اقترب رأى امرأته تقف أمام الخيمة،ثم تركض باتجاهه، وصوتها الفرح يسبقها: قتلته..قتلته..رفع البلطة ولوّح بها..ومضيا معا إلى حيث ينام الأولاد.

1