درويش «المغربي»
كان محمود درويش أحد أصدقاء المغرب الكبار، كما كان من المقدرين للشعر المغربي والمتتبعين له بانتباه وتحليل رزينين، في سياق التمايز، وليس التصادم، بين تجربة الشرق الشعري العربي ومغربه. حافظ محمود درويش على علاقات متينة مع المغرب الشعري، الرسمي منه، المتمثل في وزارة الثقافة، والحركي منه، متمثلا في بيت الشعر في المغرب واتحاد كتاب المغرب. لا غرابة، إذن، إذا كانت أغلبية لقاءات درويش الشعرية من تنظيم وتأطير هذه الجهات بأريحية وتفان وحب منقطع النظير. لا غرابة، كذلك، إن أحب كثير من شعراء المغرب محمود درويش وصادقوه وواكبوا خطواته، واقتفوا أثر قصيدته، سواء بالدَّرس أو بالبحث أو بالأطروحة، أو بالقول الشعري، المسموع والمقروء والمكتوب.
بناء على هذا، يصبح البحث عن مظاهر تأثير محمود درويش في الشعراء المغاربة، وصداه في القصيدة المغربية مجرد تحصيل حاصل، لأن السؤال الذي يطرح هو؛ مَنْ مِنَ الشعراء المغاربة لم يتأثر بمحمود درويش؟ عِوَض، هل تأثر الشعراء المغاربة بمحمود درويش؟
أثر محمود درويش في أجيال شعرية مغربية بكاملها، فكان مرجعا لهم وعاملا من عوامل تفكُّرهم ونظرهم في سيرورة القصيدة العربية في كل تلاوينها، وفِي كل مراحلها. لم يخلص المغاربة لشاعر كما أخلصوا لمحمود درويش، ولم يحب المغاربة شاعرا، بصدق وعشق، كما أحبوا وعشقوا محمود درويش. كان المغاربة يعتبرون محمود درويش شاعرا يمشي بين جموع الشعراء، ولكنه وحده من يمشي في اتجاههم، لذلك، كانوا ينصتون إليه ويقرؤونه بتمعن، ويعتبرونه صوتا معبرا عنهم، وصوتا لهم. في المغرب، كان «مديح الظل العالي» نشيدا مرافقا لأجيال بكاملها، في كل الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس، كانت هذه الأجيال تحفظ هذا النشيد عن ظهر قلب، وتعتبره معبرا أصيلا عنها وعن انهزاماتها وانهياراتها وأحلامها. في المغرب، كان المغاربة يعتقدون أن فلسطين ومحمود درويش شيء واحد، ما دامت فلسطين هي من أنجبت درويش الإنسان، والقضية الفلسطينية من أنجبت محمود درويش الشاعر. في المغرب، عندما كان درويش يقرأ قصائده، سواء في الرباط أو البيضاء، أو غيرهما من المدن المغربية، أمام الحشود الهادرة، كان يصمت الجميع، كان يصغي الجميع، ومن هذا الجميع الشعراء. ولا أحد، غير الشعراء، كان يدري أن سلطة محمود درويش عليهم وعلى غيرهم استثنائية في سيطرتها وتحكمها وتأثيرها.
كل الشعراء المغاربة تأثروا بدرويش، ضمنا أو ظاهرا، وكل الشعراء المغاربة قرأوا لدرويش واستمعوا له، وكثير منهم درَسه ودرَّسه وكتب عنه وله، وكثير منهم جالسه، إما صديقا، أو رفيقا، أو دليلا، أو ضيفا، أو معجبا، أو زائرا.
تجلي الأثر
مَن مِن الشعراء المغاربة لم يتفق، مع درويش، أن الشعر مطلب أبدي؟ من من الشعراء المغاربة لم يعتقد، مع درويش، أن الشعر ضرورة، ولا نعرف لماذا؟ من من الشعراء المغاربة لم يُؤْمِن، مع درويش، بأن زمنا بلا شعر هو زمن ميت بلا إنسانية؟ كان درويش يعرف أن التجربة الشعرية المغربية الحديثة تتميز بانفتاحها على مختلف التجارب الشعرية، شرقيها وغربيها. كما كان يعرف أن ما يميز هذه التجربة ويغنيها هو تلك الحساسيات الشعرية المتصلة تاريخيا وفكريا وفنيا، ابتداء من القصيدة العمودية، ومرورا بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وصيغ شعرية أخرى لا يمكن تصنيفها، إلى جانب تعبيرات شعرية أخرى، بلغات ولهجات أخرى، أجنبية وعالمية وأمازيغية. كان درويش يعرف هذا، لذلك كان يقول: «لقد طورني قارئي هنا في المغرب حين صدقني وتقبّل اقتراحاتي الجمالية المتواضعة بغض النظر عن الإفراط في التأويل». قال درويش هذا بتواضع الشعراء، وفِي الوقت جسّده على مسارح ومنابر المغرب وفضاءاته ليصير مصدر إلهام ليس للشعراء فقط، بل للفنانين والسياسيين والتشكيليين، ليؤكد أن الشعر فن حي لا يتطلب من كاتبه أن يخطه على ورقة فقط، بل أن يكون أيضا قادرا على تجسيده أمام الآخرين في الواقع الحي. روني شار كان يقول، الكلمة في الأثر وليس في الدليل، ومحمود درويش ترك أثره في المغاربة والمغرب الشعري، ومضى وحيدا في اتجاه خلوته الأبدية يردد معنا، ونردد معه:
«أثر الفراشة لا يرى
أثر الفراشة لا يزول
هو جاذبية غامض
يستدرج المعنى ويرحل
حتى يتضح السبيل
هو خفة الأبدي في اليومي
أشواق إلى الأعلى
وإشراق جميل».
أثر الفراشة لا يزول، وأثر وتأثير محمود درويش، كذلك، لا يزول.
نعكس القضية، وننظر من الوجهة الأخرى، وبالعين الأخرى، ونتساءل: كيف يتجلى درويش داخل القصيدة المغربية؟ كيف كان يرتب لحضوره الشعري لدى الشعراء المغاربة، ليس في وجدانهم، ولكن في نصوصهم؟ في صيغة أخرى، كيف كان يتردد صدى درويش داخل مسارات وسياقات القصيدة المغربية الحديثة؟ كثير من الباحثين يجزمون أنه من الصعب وضع اليد النقدية على وجود صريح لدرويش، بين ثنايا القصيدة المغربية، يضاهي ويوازي وجوده القوي والطاغي في الساحة الشعرية. لهذا، صدى صوت درويش الشعري نجده في محيط القصيدة المغربية أكثر مما نجده داخلها. وهنا يحق لنا التساؤل، لماذا كان صدى درويش هادرا في وجدان الشعراء، خافتا في نصوصهم؟ ما معنى ألا تجد قصائد محمود درويش الغنائية والتفعيلية، الموزونة والإيقاعية صداها في الأكثرية الساحقة من قصائد شعراء المغرب في مرحلة عنفوانه الشعري؟ كيف نفسر اصطفاف أغلبية شعراء المغرب في خندق اتجاه شعري يناقض ويواجه توجه درويش الشعري؟ ثم، إذا كانت الأصالة الشعرية والتأثير الشعري لا يأتيان من القصائد فقط، كيف لم يستطع محمود درويش إحداث أي خرق في جسد قصيدة النثر المغربية وفِي جوهرها الشكلي والروحي؟ كيف نفسر اعتبار الكثير من شعراء المغرب النثريين الحداثيين، أن مدرسة درويش الشعرية لا تلبي متطلباتهم الفكرية والإبداعية وأن خاصياتها الفنية لا تلزمهم في شيء؟ هل يمكن اعتبار البيانات الشعرية التي دبجها دهاقنة الحداثة الشعرية المغربية ردا غير مباشر على فتوحات درويش الشعرية في المغرب؟ هل هذا يبرر ذهاب عدد من شعراء المغرب إلى اعتبار محمود درويش مظهرا من مظاهر النكوص والتقليد والمهادنة للسائد وللأنظمة؟
الثابت في الموضوع هو أن رعايا مجلة «شعر» في المغرب، لم تكن تروقهم تقعيدات درويش وتوجيهاته الغنائية والوجدانية والإيقاعية والجمالية، وحتى وهم يثمنون ثوريته وتمسكه بالقضية الفلسطينية، كانوا يعتبرون ذلك مجرد واجب موضوعي يستدعي النظر إلى قصائد درويش كأغانٍ غناها مارسيل خليفة لحشد وإذكاء الحس الثوري، والحفاظ على جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة. كان هذا هو الثابت، أما المتحول فهو عندما عاد شيخ الحداثيين المغاربة والعرب، أدونيس، ليتحدث باسم جماعته ويعترف بأن شعرية محمود درويش أوسع من أي انتماء، وأنه من الخطأ تضييق نطاق هذه الشعرية على ميدان سياسي أو اجتماعي أو فكري. أدونيس، وهو يعدل من زاوية النظر والموقف اتجاه درويش، أطرى على ذات الشاعر وعلى شاعريته، واعتبرها أصيلة لا يمكن أن تُحصر أو تذوب.
الصوت وصداه
ولأن شاعرية درويش لا تحصر ولا تذوب، كان يقول: «لا دور لي في القصيدة غير امتثالي لإيقاعها». وكان يقول: «كل شعر عظيم هو شعر غنائي من حيث إنه يحول الكون كله إلى نشيد، والإنسان إلى صوت وموسيقى». كان درويش يقول هذا، وغيره كثير، وبهذه الرؤية وهذا المفهوم، كان هناك شعراء مغاربة يتمثلون قصيدة درويش ويتقصّون أثرها وخاصياتها وصداها. عدد من الشعراء المغاربة، كانوا يتبعون درويش في بنائه النصي ويعملون على تجاوز ما يعتبرونه تبعثرا في قصيدة النثر وتفكيكا فيها. عدد من شعراء المغرب كانوا يستحضرون الإيقاع كمقوم فني جمالي يعطي لنصوصه تلك الغنائية المشتهاة. عدد من الشعراء المغاربة، كان يبني قصيدته وهو يستحضر قدرة درويش على لفت انتباه السامع والقارئ، وإثارة الهواجس واللواعج والدهشة والأسئلة داخله. عدد من شعراء المغرب، كانوا يستطيعون إنشاد قصائدهم ببعد وجداني عاطفي عالي التركيز، بفضل الإيقاع بشتى تمثلاته، تماما كما كان يفعل درويش، أو يكادون.
هل أثر محمود درويش في الشعراء المغاربة؟ بالتأكيد، نعم. هل كان لقصيدة درويش صداها في الشعر المغربي الحديث؟ بالتأكيد، أجل. وإن كان من الصعب أن نتميز السمة الدقيقة لهذا الصدى، أو لتلك الظلال الخفية التي يخلفها نص وصوت محمود درويش. في الأخير، يحق لنا أن نتساءل: لماذا كلما مرّ الزمن زاد التعلق بصوت درويش؟ كيف يستطيع هذا الشاعر الحفاظ على صوته وصداه وأثره حيّا في مشهد ثقافي وشعري عربي، نزعته الأساسية النسيان والنكران؟ من أين يستمد محمود درويش هذه السلطة المعنوية الظاهرة، وهذه القدرة الشعرية القاهرة على الاستمرار في التأثير في واقعنا وتاريخنا الشعري بكل تمظهراته ومكوناته؟
محمود درويش كتب ونظم وأنشد، وغرف من نهر الشعر حظه وقسطه ومبتغاه.
محمود درويش كتب وكتب، وأنشد وأنشد حتى حدود التعب، ثم مات. مات محمود درويش، وهل يموت الشاعر؟ أحد فلاسفة الشعر قال، إذا مات الشاعر علينا أن نغير النظر إلى الشعر كله. مات الشاعر محمود درويش، منذ مدة طويلة، وغيرنا النظر إلى الشعر كله، إلا شعره هو، ظل النظر إليه كما هو على حاله، لم يتبدل أو يتغير. قال محمود درويش ذات قصيدة:
«وأنت تنام وتحصي الكواكب
فكر بغيرك
ثمة من لم يجد حيزا للمنام.
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات
فكر بغيرك
من فقدوا حقهم في الكلام.
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين
فكر بنفسك
قل ليتني شمعة في الظلام»..
ما زال محمود درويش يؤثر في المشهد الشعري المغربي إيجابا، وما زال شعر محمود درويش يثير داخل القارئ المغربي الكثير من عنفوان الشعر، لسبب لا يعرفه إلا الراسخون في حب الشعر والشعراء.
أثر محمود درويش في القصيدة المغربية الحديثة!!
بقلم : محمد بنقدور الوهراني ... 12.06.2023
* كاتب مغربي**المصدر : القدس العربي