رحم الله أمي، ونعيها القريب هو نعي لظاهرة لغوية.. لقد كانت أمي ككل أم ظاهرة لغوية بأسرها. موتها كان موتا للنداء الحي الموجه إليها: النداء الذي تتلفظ به ليسمعك من تناديه لا لشيء إلا لأنه كائن لغوي حي. في زيارتي لها كنت أناديها (يمة) مثلما ناديتها وأنا صبي.
(يمة) اسم عجيب اندمجت فيه ياء النداء في المنادى، وتغير لفظ النسبة من ياء إلى هاء، هاء الوقف المريح ثم السكت عن كل ما لا يفيد. (يمة) في لهجتنا التونسية اسم ينادي به الريفيون من أمثالنا أمهاتهم، بينما ينادي المدنيون أمهاتهم باللفظ العربي (أمي). كنت أفتح الباب ولا أستعمل الناقوس فالباب مفتوح أبدا وأنادي (يمة) فتجيب أهلا.. أين كنت.. لقد أطلت.. كانت تسأل ولا تريد جوابا.. لأنها تعلم أني سأقول جوابا لا يشفي: أنا بخير.. تنخرط في أحاديث مختلفة وأنصرف.
من شهر دخلت المشفى في غيابي، طرقت الباب وناديت يمة.. لم تسألني على عادتها، بل قالت: أنا بخير.. كسر بسيط.. نجحت العملية وخرجت إلى غرفة أخرى غير أن الأمور تعكرت، كما في أي مأساة مفاجئة.. كانت تغمض عينيها في عيادة القلب والشرايين، حين شعرت بأن النداء، نداءها هو عنوان حياة.
ناديتها بحرف النداء المدمج في اسمها ففتحت عينيها واستقبلتني كعادتها بصوت فيه وهن، وروت لي على عادتها تفاصيل محيطها الجديد، كانت ملهوفة على السرد، وأنا كنت مطمئنا لأن النداء ما زال يشتغل بين صوتي وسمعها.. أنا لم أدرس في حياتي أن النداء عنوان حياة لم أدرسه لا في البلاغة القديمة ولا في التداولية الحديثة، النداء في دروس البلاغة يركز على المسافة التي تفصل بين من ينادي وينادى. نعلم الناس أن (أ) للقريب و(أيا) للبعيد بينما الياء أم الباب. وياء (يمة) ما تراها تكون بعيدة، أو قريبة طرازية، أم هامشية هي ياء سكنت بين قبيلة حروف أمي ونبتت ولم تعد قابلة للتصنيف ولا للمقولة.
مسافتي القريبة من أمي لا تعني لي شيئا إن أنا ناديتها ولم تجبني.. الاستجابة للنداء دليل وعي بأني أنا قريب منها وهي واعية بأني موجود. حدثوني عن الغياب في مرحلة ما قبل الموت، قالوا إن المرء يكون واعيا بأشياء هلامية يمكن أن يتذكرها في ما بعد، أخبرني صديق دكتور ليبي، رحمة الله عليه، ونحن في غرفته في نزل من نزل الجزائر الشقيقة، كيف أنه وهو في غيبوبته في لندن كانت نفسه تنتظر قدوم رجل دين مسيحي يمر بين صفوف المرضى الغائبين عن الوعي ويحدثهم ويتلو عليهم من كتابه آيات، ومن أدعيته أورادا.. قال: إن وعيي الذي بقي نفأ منه فيّ ينتظره وينتظر كلماته.. كنت أعيش لذلك اللقاء.. ثم عاد إلى الحياة.. هذه الصورة لم تفارقني: هل أمي ستعود لأحكي لها كيف أن درسي معها حول النداء مختلف عن درس أي بلاغي؟ النداء عمل لغوي صحيح لكنه مفعم حياة. تذكرت بيت الشاعر عمرو بن معدي كرب إذ يقول: (قد أسمعت إذ ناديت حيا // ولكن لا حياة لمن تنادي). كنت لغفلتي في الحياة أفهمه رمزيا فبت للهفتي على حياتها أفهمه حقيقة. نفرط في الحقيقة من أجل رمز لا يعنينا حتى نشتاق يوما ما إلى حقيقتنا التي أشحنا بوجهنا عنها ادعاء للحفر في البعيد من المعاني.
نحن حين ننادي نُسْمِع من نناديه وهو يسمعنا: هذه بديهة تحتاج أن تتناول بمقاييس المعالجة الذهنية وسلامتها فليس بديهيا حيث تنادى أن تُسْمِعَ من يناديك؛ ليس الإشكال في المسافة الجغرافية، بل في مسافة الوعي واستعداد ذهن من تناديه لأن يعالج نداءك. ليس النداء نداء إلا إذا توفرت فيه شروط إسماع من ناديته وحين تسمع مناديا يكون ذلك دليلا على أن نداءك اكتملت شروطه التبليغية.
الغيبوبة بنت الغياب الكبرى، ودليله إلى أن من كان يمكن ألا يكون. يقول الطبيب اسألوا الغيب لعله يشفع لمريضتك بالشفاء، لكن كيف غابت وهي بالأمس تنادى وتستجيب للنداء، إنه سؤال بلاغي يجابه بجواب طبي معقد وبقفل من الكلام الغيبي: اسألوا لها الله أن يشفيها. فتسارع مرة أخرى إلى ضرب من النداء هو دعاء من يسمع ويستجيب، كي ينقذ من كان يسمع النداء ويستجيب فبات يسمع فلا يستجيب ثم لا يسمع ولا يستجيب.
كانت من مدة تصلي وتدعو الله: اللهم نج فلانا وأسعده ولا تجعله بعيدا عن عيني طرفة واحدة.. دعاء مشوب بالغياب يشكو من الغياب. في الدعاء لا يستحضر إلا الرب وجهة وإطارا تقع فيه الأشياء المطلوبة عساها تكون.. وعسى أن تكون ولا يكون عكسها يكمن الخوف من المجهول المقبل. ما يجعلنا نستجيب للنداء بأن نقبل على المنادى وما يجعلنا نأتمر في الأمر بأن نلتزم بما يطلب منا، وأن ننتهي حين ننهى هو أننا على قيد الحياة نتفاعل مع الكون الخارجي ونعي ما يوجد من حولنا بما فيه. يسمي التداوليون المعاصرون ذلك لازم عمل القول Perlocutionary act وهو أن تحمل أحدا بقول تقوله على أن يفعل شيئا، حملي أنا حين أنادي (يمة) أن تستجيب. غير أن التداوليين لا يأبهون بهذا اللازم، بل بالعمل المضمن في القول أي بالنداء.. لماذا يا أمي يخونني في موقفي هذا علم أجد في هامشه مركز اهتمامي؟
صحيح أن اللغويين لا يعنيهم إن أنت قلت (النارَ النارَ) أن يسارع الناس ليطفئوها بل يهتمون فقط بالعلة بنت العلة والمقام ابن المقام، الذي جعلك تقول ذلك. الكون إن اشتعلت نيرانه بات كونا محروقا، والكون إن لم تجبك أمك فيه وأنت تناديها بات أشبه بكون شبه موحش.. نحن لا نقول في هذا الكون فقط نحن أيضا ننتظر أن نقول ويتفاعل معنا من يتفاعل حين ننتج القول. نحن نتكلم فنرسل في عناصر اللغة ما يدل على أنا بخير، أو على أنا لسنا على ما يرام، الكلام نفسه والتئامه هو دليل حياة، فيكفي أن تحدثني لأطمئن عليك من صوتك أقرأ نبرتك وأشعر بالحياة التي تمر في شرايين حروفك. في كل رسالة قول صحيح ولكن فيها انطباعا ما عن الحياة وجودها أو عدمه، لونها ورائحتها. هناك فرق أن أسأل أمي: كيف الحال (يمة)؟ وأن تجيبني وأن أسألها وتكتفي بالإشارة عن العبارة وأن أسأل عنها الطبيب وأن يسألني الناس عنها وقد غادرت إلى ملكوت أرحب.
ستكون اللغة التي يختفي منها النداء كفيلة بواجب العزاء: واجب العزاء ليس فيه تبادل عبارات الصبر والمغفرة والرجاء لها بالرحمة، واجبه أن تحكي وتسرد وهي غائبة. سرد الغياب ليس سردا بضمير الغائب، فتلك حقيقة بسيطة. سرد الغياب هو سرد يحل فيه ضمير الغيبة بديلا من ضمير الحضور المضمر في النداء.. يا أمي، تعني يا أنتِ التي صفتك أمي، صفة لم تخلق لكي يتبناها أي كان غيرك..صفة ترادف حياتي التي بدأت أول ما بدأت في بطنها قبل أن أزحف أولا وأزحف ثانيا وقبل أن تسعى بي قدم راشدة وتائهة، وقبل أن أنادي الغياب أملا في حضور محال كان قبل أيام ممكنا.
النداء لمن لم يعرف قيمته دليل وعي ودليل حياة ودليل سعادة: تنادَوا مصبحين وممسين تنادوا قبل أن يقضي من ناديتموه بين نداءين: نداء امتحان الحياة ونداء امتحان الممات. يكمن شيء فيك بعد أن يغادر محب، اسمه وخز اللغة وأنا ما بقي فيّ بعد مغادرتك يا (يمة) هو وخز النداء.. لمَ لمْ أنادك أكثر؟
***أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
وَخَزُ النداء!!
بقلم : توفيق قريرة ... 05.09.2023