تمثل الثورة الفلسطينية الكبرى التي امتدت من عام 1936 حتى عام 1939، فصلاً بارزاً شديد الأهمية من تاريخ النضال الفلسطيني والمقاومة المستمرة، إلى أن يتم تحرير الأرض، وتعكس تلك الثورة العظيمة كفاح الشعب الفلسطيني وجهاده ضد الاستعمار البريطاني، ووقوفه في وجه الظلم والعدوان، ومحاولاته المستميتة في منع المأساة قبل أن تستفحل وتتفاقم، والتصدي لجرائم التهويد والاستيطان، وجلب اليهود من الشتات من أجل فرض الاحتلال، الذي كان يمهد له الطريق. كان الشعب الفلسطيني في ذلك الوقت يواجه الاستعمار البريطاني بجيوشه القوية وأسلحته المتقدمة، وهو لا يملك سوى بعض الأسلحة البسيطة القديمة، لكن كان سلاحهم الأكبر الإيمان بالله والوطن، وعقيدة الجهاد والدفاع عن الحق والاستشهاد في سبيله.
شهدت الثورة الفلسطينية الكبرى على مدى سنواتها المتعاقبة الكثير من الملاحم والمعارك والبطولات، وبزغ فيها الأبطال وتجلت تضحيات الشهداء، وقد واكبت هذه الثورة بما فيها من جهاد ومقاومة حركة ثقافية وفنية لافتة في التاريخ الفلسطيني، حيث ظهر أكثر من شاعر وقيلت أجمل القصائد النابضة بروح الثورة والدفاع عن فلسطين، وكذلك الموسيقى والأغنيات الشعبية، التي ترددت على ألسنة الناس، وتعددت أدوارها وتأثيراتها وما تناولته من جوانب وسير وأفكار، حيث تغنى الشعب الفلسطيني بشهدائه وأبطاله، وبمعاركه، وكانت الشاهد على أن هذا الشعب لم يرضخ يوماً، ولم يتخل عن مسؤوليته الوطنية، وأنه بذل وقام بكل ما في وسعه من أجل أن يوقف المأساة والمخطط الشيطاني، وتصدى وحده بكل ما يملك لأعتى وأحط الجرائم الاستعمارية والصهيونية، من جبروت بريطانيا إلى خسة ولؤم الصهاينة.
ومن أغنيات التراث الفلسطيني التي تذهب بنا إلى ثورة الثلاثينيات العظيمة، وأمجاد وبطولات الشعب الفلسطيني أغنية «هز الرمح بعود الزين»، وهي أغنية حماسية سريعة ذات إيقاع متميز، تتناول بعضاً من أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى وإحدى معاركها الباهرة المعروفة باسم «معركة بيت إمرين»، وعن هذه المعركة التاريخية يقول الكاتب الصحافي علاء جمعة: «معركة بيت مرين هي واحدة من أهم معارك الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939، وقد خاضها الثوار الفلسطينيون عندما أحاط الجنود الإنكليز مدينة نابلس كبرى مدن الضفة الغربية، نصرة لعصابة الهاغانا الإسرائيلية، ودارت معركة حامية لما يقرب من عشر ساعات، علا فيها صوت الرصاص والمدافع، وقد انتصر الثوار في هذه المعركة، خاصة بعد تدافع أهل المدن المجاورة لنصرة نابلس، كما تشير الأغنية، بل أسقطوا طائرتين، في يوم لا يزالون يشيرون إليه بأن نابلس لم تشهد معركة مثلها من قبل».
تصوير المعركة بالكلمات
تذكر الأغنية عدة أماكن فلسطينية هي (بلعا، وادي التفاح، بيت إمرين، جبل النار، جنين)، وبلعا من قرى طولكرم أما وادي التفاح فيوجد في نابلس، وبيت إمرين قرية من قرى نابلس أيضاً، وجبل النار هو على الأرجح اسم يُطلق على مدينة نابلس، وجنين هي المدينة والمحافظة الفلسطينية المعروفة. تؤدى الأغنية بصوت الكورال أو المجموعة، ويتم تبادل هذا الغناء الجماعي بين الأصوات الرجالية والأصوات النسائية والمزج بينهما، حيث يبدأ الصوت الرجالي بأداء مقاطع الأغنية بينما ترد عليه الأصوات النسائية، ثم تردد من بعده مع الأصوات الأخرى، لكن بزيادة طفيفة في سرعة الأداء وطبيعته وتلاحق الكلمات، هذا الترديد والسرعة وطبيعة الأداء يميز الأغنية، ويمنحها طابعاً جاذباً يخلق الرغبة في تكرار سماعها دون ملل.
تصور الأغنية الحدث التاريخي وتصفه بكلمات قليلة مختصرة منسوجة في بساطة وإحكام، تبدأ الأغنية بمطلع رائع يتكرر كثيراً بعد ذلك ونسمعه بين كل مقطع وآخر، يقول هذا المطلع: «هز الرمح بعود الزين.. وإنتوا يا نشامى منين.. وإحنا شبابك فلسطين.. والنعم والنعمتين». يبدو مطلع الأغنية كحوار بين الرجال والنساء، حيث تسأل النساء «وانتوا يا نشامى منين» فيجيب الرجال «وإحنا شبابك فلسطين». ثم يأخذ الصوت الرجالي في سرد الحدث، ووصف ما وقع في معركة بيت إمرين عندما هبت رياح الثورة، يحكي الصوت الرجالي ويغني المقطع تلو الآخر، ومن خلفه تردد مجموعة صوتية تجمع بين الصوت النسائي والرجالي، وهذه الأخيرة تبدو كأنها تردد وتحفظ في الوقت نفسه، وتختزن كل ما يقال في القلب والذاكرة، وتعيد نشره وتكراره حتى يصل إلى كل مكان ويسمعه الجميع.
يبدأ سرد الحكاية بهذا المقطع الأول الذي يقول: «في بلعا ووادي التفاح.. ريح الثورة يا عالم فاح.. واستشهد فيها الفلاح.. حط السنجة في المرتين»، والمرتين نوع من البنادق البريطانية القديمة، حسبما يقال. بعد ذلك تنتقل الأغنية أو السرد الغنائي إلى المقطع الثاني الذي يقول: «يوم وقعة بيت مرين.. تسمع شلع المراتين.. ومشيناها من جنين.. تنوصل وادي التفاح»، ثم يقول المقطع الثالث: «انتشر الخبر بجبل النار.. دشعوا الناس صغار كبار.. بمعركة مثلها ما صار.. تشبه لوقعة حطين»، هنا تشبه الأغنية معركة بيت إمرين بواقعة حطين، المعركة الحربية الشهيرة بين جيوش صلاح الدين الأيوبي والصليبيين، وكان النصر فيها لجنود المسلمين. وفي النهاية يأتي المقطع الأخير الذي يقول: «نقطع النهر بأمان.. والخصم شاهد عيان.. أرخ عندك يا زمان.. ظلم وغدر الغربيين».
تعبر هذه الأغنية عن ضمير الشعب، وتستحضر بعضاً من تاريخ فلسطين المقاوم، وتدون فنياً حدثاً خالداً، وتبقيه حياً من خلالها بالانفعالات الكامنة في اللحن والكلمات والأداء، وتظهر قوة الشخصية الفلسطينية وأصالتها. وفي فلسطين يمتزج التراث الموسيقي والفولكلور بكل أغاني الفرح والحزن والمناسبات الحياتية والاجتماعية المختلفة بالقضية الفلسطينية، وتوحد التعبير عن الشعور الخاص بالشعور الوطني العام. بنغماتها الجميلة وجملها الموسيقية المتكررة، وجمال وتناسق اللحن وسرعة وتيرته وصوت المجموع الوطني، تثير أغنية «هز الرمح بعود الزين» الكثير من الخفقات الشعورية الموحدة، وتدعو السامع إلى الغناء وتحثه على المشاركة والانضمام إلى تلك الجموع التي تغني، والاشتباك مع الوجدان الفلسطيني. على مدى ثلاث دقائق تقريباً، تمدنا الأغنية بجرعة فلسطينية خالصة، فيها جمال الفن والتراث واللهجة، والتاريخ وروح المقاومة والنضال، وفي مثل هذا النوع من الغناء يظهر وجه فلسطين وتتبدى ملامحه وقسماته.
*كاتبة مصرية
أغنية «هز الرمح»: من معارك ثورة فلسطين الكبرى!!
بقلم : مروة صلاح متولي ... 26.11.2024
**المصدر : القدس العربي