أحدث الأخبار
الأربعاء 02 نيسان/أبريل 2025
احتلال لسان الآخر!!
بقلم :  شهد الراوي ... 01.04.2025

في إحدى المرات، وكان ذلك عام 2019 كما أتذكر، دُعيت إلى مهرجان أدبي في مدينة كيرالا في الهند. كانت روايتي قد تُرجمت إلى إحدى أهم اللغات المحلية هناك، وعندما وصلت المطار تفاجأت بعدد غير قليل من القراء بانتظاري، كانوا في تأهب وحماسة كمن يستقبل نجمًا هوليوودياً. جاء اليوم الذي كانت لي فيه ندوتان مع كاتبة عربية وأخرى إيطالية. حظيت في الندوة الأولى بتفاعل لافت مع الجمهور، وتفاجأت باحتفاء القراء أثناء الندوة بعيد ميلادي. شعرتُ بقليلٍ من الخجل من ضعف تفاعلهم مع زميلتيّ في الندوة، وحاولت إطراءهن لمرات عدة.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فعندما انتهينا من الندوة الأولى، وأثناء استعدادنا للندوة الثانية، جلست الكاتبة العربية التي تكبرني بعقدين أو أكثر، وكنت في السابق معجبة بإنجازاتها. انهالت علي بالأسئلة عن عدد الترجمات التي حظيت بها روايتي، وكم جائزة نالتها. وهكذا حتى وضعت يدها على يدي وحدقت في عيني بنظرة تبرق منها قوة مُرة وغريبة. بدت لهجتها مستفزة بملامح مشمئزة، ثم قالت: «لقد لاحظت أن لغتكِ الإنكليزية أثناء الحديث ركيكة، أقترح أن أجيب في هذه الندوة عن كل الأسئلة بدلاً عنكِ!». أصابتني جملتها تلك بإحباط شديد، وبالرغم من أني أعرف جيدًا أن كلامها ليس دقيقاً، فأنا أتحدث هذه اللغة جيداً ودون الحاجة لأي مساعدة، لكن شيئاً ما بداخلي يبدو أنه صدّق المسألة. ارتبكت حين أذاعوا أسماءنا للصعود إلى المنصة. صادف أن جلست بجانبها. طُرح السؤال الأول عليّ، ولكن كلمات المضيفة استحالت في رأسي إلى شبكة ألغاز. لم أفهم أي كلمة من سؤالها، بدأ وجهي ينز عرقًا بينما راح الجمهور يحدق في وجهي باستغراب ودهشة. استعدت أنفاسي بصعوبة وحاولت الإجابة؛ فإذا بي أكتشف أن لساني لا يقوى على الكلام، لقد فقدت غريزة اللغة على حين غرة.
مرت بخاطري حينها «أميلي»، بطلة رواية «ذهول ورعدة» لأميلي نوتومب، التي وجدت نفسها تعمل في بيئة يابانية صارمة، حيث التقاليد المؤسسية لا ترحم. كانت أميلي تتعرض باستمرار للتقليل من قدراتها، ما أدى بها إلى فقدان الثقة في نفسها وعجزها عن التواصل بفعالية. شعرتُ أني أعيش حالتها، حيث يُفرض عليك الصمت قسراً، وتُسلب منك القدرة على التعبير.
نظرتُ في عيني الكاتبة العربية وحاولت أن أحدثها، فاكتشفت أني لا أستطيع النطق بلغتي الأم أيضاً. ابتسمت هي في وجهي نصف ابتسامة وكأنها كانت على يقين من هذه النتيجة. تلقفتْ الميكروفون بدورها وبدأت تتحدث عن الاضطهاد الذي عانت منه المرأة عبر الأجيال. وبينما كان الجمهور ينتظر مني أي كلمة، كنت كمن تاهت أناه في السديم الفسيح. أعادت المضيفة توجيه الأسئلة لي، ولكنها تحولت هي الأخرى إلى وجه بلا ملامح وذاب المكان كله في العدم.
تملكتني رغبة ملحة بالبكاء والغضب. هل تذكرتُ «غريغور سامسا» في رواية المسخ لفرانز كافكا؟! المسكين الذي استيقظ ليجد نفسه متحولًا إلى حشرة، عاجزًا عن التواصل مع من حوله، منبوذًا حتى من أقرب الناس إليه. شعرتُ أني أعيش تحولي الخاص، حيث فقدتُ القدرة على التواصل، وأصبحتُ غريبة حتى عن نفسي.
تذكرت رواية هندية تتحدث عن المرأة ومعاناتها في القرى الهندية، وأجريت مقاربة معها وقلت إن من السهل امتطاء منصة مترفة نتحدث من خلالها عن معاناة المرأة في المدن البعيدة، بينما نمارس نحن دون أن نشعر ومن مكاننا العاجي، نوعاً مدبراً واستثنائياً من اضطهاد بعضنا لبعض. تركت المنصة وترجلت عنها مثل جندي مهزوم يجرجر أقدامه في وحل الهزيمة.
منذ تلك اللحظة وأنا أحاول أن أتعرف على الحيلة النفسية التي تمت ممارستها ضدي والتي كنتُ فريستها حتى وجدت نفسي في لحظة بلا لغة ولا هوية، بينما تفردت تلك المرأة بالحديث الطويل عن تاريخ النسوية والدفاع الراديكالي عن حقوق النساء.
من منا ينسى توماس، بطل رواية ميلان كونديرا، الطبيب الذي خسر مكانته في عالم النخبة حين سُلبت منه لغته المهنية والرمزية بعد أن فُرض عليه الصمت السياسي. الصمت ليس فقط فقداناً للكلمات، بل خلع لجلد الهوية. شعرت أن التجربة لم تكن فقدانًا للقدرة على الحديث، بل مصادرة رمزية لوجودي كله، مثل نزع الاعتراف من وجه إنسان.
حينها لمتُ نفسي كثيرًا لما انطويت عليه آنذاك من هشاشة، ساهمت عزلة القراءة في إضرامها بداخلي. اكتشفتُ أني بحاجة إلى المعايشة الاجتماعية التي تدرب المرء على صد مثل هذه الهجمات غير المتوقعة، ولكني لم أتردد في الاشتغال على لغتي الإنكليزية أكثر.
بعد عامين أو أكثر، في مهرجان عالمي آخر، التقيتُ بهذه الكاتبة،. سألتني عن ندوتي القادمة وموضوعها، ثم بدأت بالحديث بالطريقة القديمة ذاتها. تفرستُ في البروش الأصفر الذي كانت ترتديه ولم أسمع كلمة واحدة مما قالته. أشفقتُ عليها وهي تنتصر للنساء عندما يتحولن إلى مجرد فكرة مجردة ومموهة، ولكن ما إن تنجح إحداهن سوف تحصد رأسها بذات الأداة التي أفنت عمرها بانتقادها. راقبتها وهي تتحول شيئاً فشيئاً إلى الجلاد الذي تكافح من أجل نسيانه، وذهبتُ لأتحدث الإنكليزية بطلاقة.

*المصدر : القدس العربي
1