
من السلوكيات اللافتة لكبار السن كثرة الشكوى من الأمراض الجسدية، إذ إنني وعندما أقوم كل أسبوع بجولة سريعة في مجموعة اتصالات لتفقد أصدقائي وصديقاتي من كبار السن، أصبح في مواجهة عنيفة معَ الشكوى غير المنقطعة في كل ما يخص الجسد، إذ يتطرق غالبيتهم العظمى إلى تفاصيل غاية في الدقة في وصف الآلام وعلاقة كل غضروف مع الطبيب المختص ومدى تفاقم الحالة ليلاً، وهكذا أضطر لتكرار ردات الفعل نفسها، فأحياناً أتظاهر بالتعاطف الشديد، وفي أحيان أخرى أسهو مع التفاصيل الدقيقة في الشرح، التي غالباً لا أفهم معناها ومآلاتها. ولكن يصدف عندما أبقى وحيدة في منزلي فترات طويلة ليتصل بي أحدهم من أجل الاطمئنان علي، ألاحظ بأنني أسلك نفس السلوك في وصف حالتي الصحية بالتفصيل الممل، مع تذييل كلامي بالأشعات البانورامية وبعض التقارير الطبية، لأتفاجأ أن المستمع يقوم بردات الفعل ذاتها التي أقوم بها أنا في حال استسلامي للإصغاء إلى شكوى هنا أو هناك؛ وهذا ما جعلني أفكر بالجسد عندما يفيض عن الحاجة.
في كتاب المرض كاستعارة للكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ؛ تبدأ سونتاغ بملاحقة المرض كاستعارة للجسد في حال انتقاله من الجسد البشري إلى الجسد الاجتماعي؛ أي عندما يتحول إلى فكرة، بل منظومة كاملة من الرمزيات التي تحشر المريض في خانة اجتماعية وتجمدهُ هناك إلى الأبد. تحدثت عن مرض السرطان بأنه من الأمراض القليلة التي يخجل صاحبها بالتصريح به، لأنه يحمل فألاً سيئاً ومشؤوماً بالنسبة للمجتمع، أكثر من باقي الأمراض الأخرى، إذ يتجنب بعض الناس حتى لفظ اسمه. وقد استوحى اسم السرطان وفق «غالين» من التشابه بين العروق المتورمة والمتضخمة، وبين أرجل السرطان أو «السلطعون». وقد كان يبعث هذا المرض قديماً على التقزز الاجتماعي منه لأنه غالباً يبدأ بنتوء أو ورم صغير، ولأنه مرض مصاحب بعلامة تنمو تحت الجلد، فلا يمكن مقارنته بمرض الذبحة الصدرية على سبيل المثال؛ إذ وعلى الرغم من خطورة الأخير لكنه يبقى مخفياً داخل الجسد ولا يدل عن نفسه، مثل المرض الوثاب الذي لن يتوانى عن الانتشار بلا تلكؤ أو خجل. أما السل فهو مرض الفقراء على حد تعبير سونتاغ، إذ إنه مرض المعوزين الذين يحتاجون إلى الكساء، أصحاب الأجساد النحيلة الذين يحتاجون إلى تدفئة، على العكس من السرطان، مرض الطبقة المتوسطة صعوداً إلى الطبقة المترفة، المرتبط بوفرة الحياة وراحتها الزائدة، والإفراط في الاسترخاء، لأنه ينتج عن تناول الأطعمة المليئة بالدهون والبروتينات. ويحدث أحياناً بسبب استنشاق الأبخرة غير المرئية والسامة التي يخلفها الاقتصاد الصناعي. ومن ناحية أخرى، يسبب علاج مرض السل الشهية المفتوحة للطعام، بينما على العكس منه يحدث مع السرطان؛ إذ يسبب الغثيان وانسداد الشهية. ومع هذه المفارقة، تكتشف أن المرض الجسدي وسبل علاجه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة المحيطة، وعلاجه غالباً يتطلب ردم فجوة قديمة عانى منها المصاب على المستوى الاجتماعي.
وفي ما يخص النهايات، فمرض السل ليس مؤلماً مثل السرطان، إذ إنه يحيل الجسد إلى ضآلة تثير شهية الأدباء للكتابة، حيث تسطع الروح أكثر كلما ينكمش الجسد، فنلاحظ أن أكثر مرض تداولاً في الأدب هو السل بدون منازع، مثل موت إيفا الصغيرة في كوخ العم توم، وابن دومبي في رواية دومبي أند سن، وسمايك في رواية نيكولاس نيكلبي، حيث وصف ديكنز السل بأنه المرض المرعب الذي يهذب الموت وينقيه.
اعتبرت سونتاغ أن حوادث الموت الناتجة عن السل أغلبها مشرفة وهادئة ووقورة مقارنة بميتات السرطان الحقيرة والمؤلمة، مثل موت والد «يوجين كانت» في رواية توماس وولف، وميتات أخرى في الأدب. ستلاحظ أن تصوير الموت بالسل دائماً ما يكون صاحبه جميلاً جداً ومفعماً بالعاطفة؛ بينما الذي يموت بمرض السرطان يُصور على أنه جرد من كل سموه الذاتي ومن قدراته وتفوقه وأذل بالخوف والألم.
وفي عودة إلى كبار السن، فغالباً لا تنطبق عليهم ما ذكر آنفاً، إذ إنهم مهما كان مرضهم مخجلاً أو مدعاة للفخر الاجتماعي، لن يتوانى كثير منهم من أخبار أي عابر بتفاصيل غاية في الدقة فيما يخص اعتلالهم الجسدي، وذلك لأن الجسد تحول مع خلو الحياة شيئاً فشيئاً من الوظيفة اليومية ومن أداء الأعمال المنزلية والكثير من الواجبات التي بدأت تتضاءل مع تقدمهم في العمر، إلى «آخر»؛ فعندما تفرغ حياتك بالكامل من يوميات محشوة بالأحداث، سيصبح الجسد هو الآخر الذي يتفاعل معك لتشكيل الحدث، سوف تتحدث عنه بطلاقة وتشتكي منه دون أي تفكر بمعناه الرمزي أو بتأثيره الاجتماعي، وسينفصل الجسد عنك لدرجة يمكن اعتباره كائناً متخارجاً عن ذاتك بالكامل، مسؤولاً عن نفسه ويسدد لك اللكمات واحدة تلو الأخرى بدون أي شعور بالذنب، وهو ما يجبرك على فضح سلوكياته بين الناس وإضاءة أشد أفعاله عتمة دون تردد.
المرض الذي تحدثت عنه سونتاغ لا يشمل أولئك الذين استعملوا أجسادهم، حتى بدأ الأخير بالتخلي عنهم تدريجياً وبلا هوادة؛ بل كانت تقصد الذين لا يزال الجسد يشكل لهم كليتهم الجامعة، إذ ما يُصيبهم هو فعل شمولي، سيظل يرافقهم حتى بعد الموت كجزء من حكايتهم الأثيرة. لكن ما إن تتعدى مع جسدك عمراً معيناً، حتى تنفك عنه بالكامل، فيصبح المرض استعارة كاملة عن حياة الآخر، وليس بالضرورة حياتك أنت. لذلك، فالمرض في عمر الشباب يُصيب الروح قبل الجسد، أما في مرحلة متأخرة من العمر فيأتي بفعل مراوغة جسدية من أجل حياة تصارع «الملل» الذي هو أخطر مرض عرفته البشرية حتى الرمق الأخير.
