
– يرممني الرذاذ –
هذا البحر يغازلني
يستقبل نظراتي بدفء المأوى
و زاد الدرب
يفتح ذراعيه حد الصخر
يشذّب بموجه شغاف القلب
يرمم الشروخ المتوارية خلف الجدُر
ينفض من على الوجنتين سحيق غبار …
وعثاء الليل
يزيح وطأة الآه من على وجه الصباح
البحر …
يستقبل العيون المتعبة … المرهقة حتى جذور الهدب
أرهقتها سيول أزمنة مغمسة بالخذلان المسكوب نارا
على قارعة الخطو
البحر
كريم لا يعرف وخزات البخل
يفتح القعر على المصراعين
رذاذه يلثم شفاه بسمات ضائعة
تاهت بين زوارق ورق خاوية
البحر
يغازلني
يلاطف خصلات جفت…
تفتقر لسلسبيل رواء
ينظف العمق بزبده المترامي الأطراف
يعيد الوفاض خاليا
إلا من فتات المنى الباقية على قيد الحياة
يرممني الرذاذ
يعيد مراياي سيرتها الأولى.
*التحليل*:
لطالما كان البحر مصدراً لا ينضب لإلهام الشعراء والأدباء على مر العصور، فمنذ فجر التاريخ، وهو يمثل عالماً من الأسرار والجمال، يبعث في نفوس المبدعين مزيجاً من الرهبة والافتتان. وقد تجسد هذا التأثر في أعمال أدبية خالدة، حيث وصفه شعراء العصر الجاهلي بأسلوب فريد، كما في قصيدة النابغة الذبياني التي تحدث فيها عن البحر المتلاطم. وفي العصر الحديث، اتخذ البحر أبعاداً رمزية أعمق، فكان مرآة تعكس أحلام الشعوب وقضاياها، كما في شعر بدر شاكر السياب الذي ارتبط البحر في قصائده بفكرة الخصب والأرض، أو في رواية إرنست همنغواي “الشيخ والبحر” التي اتخذت من صراع الإنسان مع الطبيعة موضوعاً لها. وفي هذا السياق، يأتي صوت الشاعرة خديجة بوعلي ليعيد اكتشاف البحر، ولكن هذه المرة كفضاء للترميم النفسي والاحتواء الروحي، كما يتجلى في قصيدتها “يرممني الرذاذ”.
قراءة في عنوان “يرممني الرذاذ”: دلالة وتركيباً
تُعد قصيدة “يرممني الرذاذ” للشاعرة خديجة بوعلي رحلة شعرية عميقة، تأخذنا فيها من ظلمة الألم النفسي إلى نور الشفاء والتجديد. إنها ليست مجرد أبيات تصف البحر، بل هي حوار حميمي بين ذات مُثقلة بوعثاء الحياة وعنصر طبيعي يتحول إلى رمز للملاذ والاحتواء.
يحمل عنوان القصيدة دلالة عميقة ومُكثّفة، فهو بمثابة مفتاح يفتح آفاق النص. من الناحية التركيبية، تتألف الجملة من فعل مضارع وياء المتكلم “يرممني” التي تُشير إلى أن عملية الترميم تحدث الآن وتؤثر بشكل مباشر على الشاعرة، والفاعل “الرذاذ” الذي يمنح لقطرات الماء الصغيرة القدرة على الإصلاح. أما من الناحية الدلالية، فإن العنوان يرمز إلى أن الشفاء قد لا يأتي من مصدر عظيم أو مهيب، بل من شيء بسيط ولطيف كالرذاذ، يمتلك القدرة على إصلاح الشروخ النفسية العميقة الناتجة عن الخذلان والألم. وبهذا، يُمثّل العنوان خلاصةً مُكثّفة للموضوع العام للأبيات، حيث يُعيد البحر -عبر رذاذه- الروح إلى حالتها الطبيعية ويُجدّدها.
تتمركز الفكرة العامة للنص حول البحر ككائن حيٍّ يمنح الراحة والسكينة للروح المتعبة. تبدأ الشاعرة قصيدتها بوصفه مأوى دافئًا يفتح ذراعيه ليحتضنها، فيُصبح ملاذًا آمنًا بعيدًا عن قسوة الحياة. هذا البحر ليس مجرد مسطح مائي، بل هو صديق يغازلها، ويستقبل عينيها المتعبتين، ويعالج آلامها. تستخدم الشاعرة معجمًا دقيقًا يعكس حالة التناقض بين الألم والشفاء. ففي الوقت الذي تعاني فيه من “الشروخ” و”وعثاء الليل” و”وطأة الآه” و”الخذلان”، يأتي البحر ليقدم لها العلاج. هو يرمم ما أفسدته الحياة في “شغاف القلب”، وينظف “سحيق غبار” الوجنتين، ويُشذّب “خصلات جفت”. هذا العلاج يتميز بكرمه، فالبحر يفتح “القعر على المصراعين” ليمنح دون حدود، ويعيد الحياة للابتسامات المفقودة “بين زوارق ورق خاوية”، وهي رمز للأحلام التي تلاشت. لا يقتصر فعل الشفاء على البحر بضخامته، بل يتجلى في أدق أجزائه وألطفها: الرذاذ. إن تكرار جملة “يرممني الرذاذ” في بداية النص ونهايته يؤكد فكرة أن الشفاء قد يأتي من مصدر بسيط وغير متوقع، يمتلك القدرة على إعادة الوفاض (القلب) إلى حالته الأولى، واستعادة “مراياي” سيرتها الأولى، في إشارة إلى استعادة الهوية النقية والصفاء الروحي.
تعتمد القصيدة في بنائها على مزيج من الأساليب اللغوية والبلاغية التي تخدم المعنى وتعمقه، مع إيقاع داخلي متناغم. على الرغم من أن الأسلوب الخبري هو السمة الغالبة على النص، إلا أنه لا يقدم معلومات مجردة، بل يكتسب قوة بلاغية من خلال تقنيات أخرى. كما يظهر الأسلوب الإنشائي بشكل ضمني وفعّال، فالخطاب المباشر الموجه إلى البحر، والذي يظهر في الأفعال “يغازلني” و”يستقبل”، يُحوّل البحر إلى مخاطب حاضر ومتفاعل، وهو ما يُشكل نداءً ضمنيًا. ويظهر التمني بشكل غير مباشر، حيث تعبر الشاعرة عن رغبتها في أن يكون البحر ملاذها الذي يعيد إليها سلامها الداخلي.
تبرز القصيدة قوة التشخيص والتجسيد، فالبحر يتحول إلى كائن بشري يغازل، ويفتح ذراعيه، ويُرمّم، مما يُضفي على العلاقة بين الشاعرة والطبيعة طابعًا إنسانيًا عميقًا. كما تُجسِّد القصيدة الألم النفسي المجرد في صور مادية وملموسة، فالخذلان يصبح “سيولاً”، والألم “شروخًا” تحتاج إلى ترميم. أما الصور الرمزية فتبرز في الرذاذ الذي يرمز للشفاء اللطيف، و”زوارق ورق خاوية” التي ترمز للأحلام الضائعة، و”المرايا” التي ترمز للهوية الذاتية.
تتخلى القصيدة عن الإيقاع التقليدي للشعر العمودي، وتتبنى إيقاعًا داخليًا متحررًا يعكس حالة الشاعرة. لا تلتزم القصيدة بالوزن والقافية الموحدة، بل تعتمد على نظام السطر الشعري الحر، مما يمنحها حرية كبيرة في التعبير. هذا التنوع في طول الأسطر يخلق إيقاعًا متدفقًا يحاكي تدفق الأفكار والمشاعر. يلعب التكرار اللفظي دورًا أساسيًا، كتكرار لفظ “البحر” لتأكيد محوريته، وتكرار جملة “يرممني الرذاذ” لإحداث إطار دائري يؤكد فكرة التجديد. كما يلعب التضاد دورًا هامًا في خلق حركة دلالية من الألم إلى الأمل، كتضاد “العيون المتعبة” مع “البحر” المريح، و”الشروخ” مع “الترميم”. هذا التناغم بين الألفاظ والمعاني يمنح النص ديناميكية معبرة.
في المجمل، فإن قصيدة “يرممني الرذاذ” ليست مجرد سرد وصفي، بل هي بناء فني متكامل يجمع بين عمق الفكرة وجمال الصورة. إنها قصيدة تتجاوز الوصف السطحي للطبيعة لتغوص في أعماق النفس البشرية، مقدمةً رسالة بليغة مفادها أن الطبيعة يمكن أن تكون ملاذًا حقيقيًا للروح المتعبة، وأن الشفاء قد يأتي من أبسط وألطف عناصرها، فالبحر بكل جبروته، والخذلان بكل قسوته، يتراجعان أمام قوة بسيطة هي قطرة ماء؛ “يرممني الرذاذ”.
